حيادية الإنترنت.. ما بين هيمنة العولمة وتغول الرأسمالية | مركز سمت للدراسات

حيادية الإنترنت.. ما بين هيمنة العولمة وتغول الرأسمالية

التاريخ والوقت : الأربعاء, 27 ديسمبر 2017

الإنترنت وبناء منظومة الإنسان بشتي تجلياتها

لمَّا كان الإنترنت في أبسط تعريفاته هو: “تلك الشبكة الإلكترونية المكونة من مجموعة من الشبكات التي تربط الناس والمعلومات، من خلال أجهزة الكمبيوتر والأجهزة الرقمية، بحيث تسمح بالاتصال بين شخص وآخر، وتسمح باسترجاع هذه المعلومات”[1]، فإن تقنيات الاتصال ونقل المعلومات أضحت رافدًا أساسيًا، وركنًا مهمًا في بناء منظومة الإنسان الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية، في ظل التحولات والتطورات المعرفية في هذا العصر. فمن المعلوم أنَّ العصور تطورت من خلال طفرات، الأولى منها الزراعية، ثم الصناعية، والآن المعلوماتية، أو ما تتصف بعصر المجتمع ما بعد الصناعي “The Post Industrial Society”، حيث شهدت المجتمعات الإنسانية خلال العقد الأخير من القرن الماضي، تطورات متسارعة ومتلاحقة لتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، مما ساهمت في تسهيل إمكانية التواصل الإنساني والحضاري، ولعل أهمها يتمثل في شبكة المعلومات العالمية “الإنترنت” التي تُعدُّ أبرز ما توصل إليه العلم الحديث، ويعد كذلك من أهم الإنجازات البشرية في عصر المعلوماتية[2].

ونظرًا للاعتماد المتزايد على الإنترنت في النظم الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الإنساني، فقد تزايدت أهمية استخدامه، مؤخرًا، وأصبح ركيزة أساسية، وزادت معه قدراتنا المعلوماتية والتفاعلية، ويصاحب ذلك أن العلاقات غير ثابتة ومن الصعب التنبؤ بتحديد آثار استخدامه في المدى البعيد[3].

العولمة وثورة المعلوماتية

يقصد الغرب بمصطلح العولمة “Global”، أو “Universal”، أن الغرب قد حقق أهدافًا عالية في مجال التكنولوجيا والكمبيوتر، فتطور خلال السنوات الأخيرة تطورًا هائلًا في حقل الاتصالات، والمعلومات، والإنترنت؛ وهو ما جعل المقولة تتردد بكثرة، حيث أصبح العالم بأسره قرية صغيرة[4]. غير أن قرار التصويت بإلغاء حيادية الإنترنت، هو محور هذا التساؤل وهذا الصراع بين هيمنة العولمة وأثر رأس المال في تقليص مساحة الطفرة والثورة المعلوماتية.

مفهوم حيادية الإنترنت

وفقًا لما ذكرته صحيفة “الجارديان” عبر تقريرها الصحفي حول مفهوم حيادية الإنترنت، فإن الحياد الإلكتروني يعني في أبسط تعامله “الحياد الصافي”، بمعنى أن مقدمي خدمات الإنترنت يعاملون بمنطق التساوي دون تمييز، سواء كانت رسالة إلكترونية من أمك، أو تحويلاً مصرفيًا، أو حلقة متدفقة من حكاية الخادمة. وهذا يعني أن مزودي خدمة الإنترنت، لا يحصلون على اختيار البيانات التي يتم إرسالها بسرعة أكبر، أو يملكون حق التلاعب في سرعة الإشارة، بشكل مبسط، (على سبيل المثال، إبطاء تسليم برنامج تلفزيوني لأنه يتم بثه بواسطة شركة فيديو منافسة) لهذا السبب، وصف البعض الحياد الصافي بأنه “التعديل الأول للإنترنت”[5].

وفي مقال لأحد الباحثين في مجال التقنية الرقمية، فإن “Devin Coldewey” يرى أن: “هذا المفهوم يأتي كمعاكس لتحيز الإنترنت، بمعنى أن يقوم مزودو الإنترنت بإجراءات لتفضيل مواقع مثل يوتيوب على مواقع أخرى منافسة بعد أن يدفع لها يوتيوب مبلغًا ماليًا معينًا بحيث تتلاعب بسرعة الاتصال مع الموقع المنافس؛ ما يتسبب في انزعاج المستخدم منه واللجوء إلى يوتيوب. هذا أحد الأشكال الكثيرة التي يمكن لشركات الاتصالات أن تخدع مستخدميها وتتلاعب بهم. وكان أنصار حيادية الإنترنت، يطلبون من لجنة الاتصالات الفيدرالية، أن تفرض شروطها على شركات الإنترنت بحيث تقدم خدماتها بدون أي تمييز ولجميع المستخدمين بشكل حر ومفتوح وعادل”[6].

 

 

هيئة الاتصالات الفيدرالية تصوت لصالح إلغاء حيادية الإنترنت  

في الرابع عشر من ديسمبر2017 صوتت هيئة الاتصالات الفدرالية الأميركية لصالح إلغاء ما يسمى بحيادية الإنترنت. واستقطب هذا القرار انتقادات واسعة – بحسب تصريح “New york times” – فكان القرار بمثابة النقيض لمجموعة قوانين اعتمدتها عام 2015 إدارة باراك أوباما، التي تحدد سلوك الشركات المزودة لخدمة الإنترنت، والتي على أساسها يتم التعامل مع خدمات الإنترنت كأنها مرافق أو خدمات عامة تخضع للقوانين التنظيمية، التي تلزم شركات الإنترنت بالتعامل مع كافة المحتويات الرقمية بحيادية تامة، دون تفضيل لخدمة أو موقع إلكتروني على آخر. وأوضحت “New york times” أن الاجتماع توقف لفترة وجيزة بسبب تهديد أمني[7].

الإنترنت كالماء والكهرباء

الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، قد شبّه الإنترنت بالمرافق العامة كالكهرباء والماء[8]، وليست كخدمة معلومات كما كانت سابقًا، وبالتالي يجب تقديمها للمستخدمين من دون تمييز. ومع إلغاء حيادية الإنترنت في الولايات المتحدة، فإن شركات الإنترنت الآن، قادرة على حجب المواقع، أو تقييد سرعة الاتصال مع مواقع أو خدمات معينة، أو حتى إعطاء أولوية لمحتوى على محتوى آخر كما تشاء ومن دون أن يعاقبها القانون. والآن أصبحت مطالبة فقط بإعلان ما تقوم به للجميع. الجدير بالذكر أن لجنة الاتصالات الفيدرالية “FCC” لأول مرة، منذ عشرة أعوام، تقف في صف تحيز الإنترنت وإلغاء حياديته، وهي نفس الجهة التي كانت تروج لقوانين انفتاح الإنترنت منتصف الألفية. كما أن مبدأ حيادية الإنترنت يردع مزودي خدمة الإنترنت من منع الوصول إلى بعض المواقع، أو نوع معين من المحتوى.

مواقع التواصل الاجتماعي والطفرة الإعلامية

أحدثت مواقع التواصل الاجتماعي، تطورًا كبيرًا، ليس في تاريخ الإعلام فقط، وإنما في حياة الأفراد على المستوى الشخصي والاجتماعي والسياسي، وجاءت لتشكل عالمًا افتراضيًا يفتح المجال على مصراعيه للأفراد والتجمعات والتنظيمات بمختلف أنواعها، لإبداء آرائهم ومواقفهم في القضايا والموضوعات التي تهمهم بحرية غير مسبوقــة. فقد استطاعت هذه المواقع أن تمد المواطنين بقنوات جديدة للمشاركة في الأنشطة السياسية، وهو ما يجعل من السياسة شأنًا عامًا يمارسه معظم أفراد الشعب دون أن يكون مقتصرًا على فئات دون أخرى؛ وذلك لأن هذه المواقع تشجع الأفراد غير الناشطين أو الفاعلين سياسيًا، على المشاركة في الفعاليات السياسية، بحيث يمكن القول أنها يمكن أن تكون صوتًا سياسيًا للمواطن العادي وغير العادي[9].

 

 

وتكمن إيجابيات الإعلام الجديد في سرعة الاتصال، والقيمة المعلوماتية، وضمان وصولها، وتحقيق التفاعل معها، وليس كونه إعلامًا مرسلًا من جانب واحد، مما خلق مساواة داخل المجتمع في الاتصال. وقد ساهم الإعلام الجديد في الآونة الأخيرة في جذب الأنظار بعد تفجيره العديد من القضايا التي أثارت الرأي العام[10]؛ لذا فقرار التصويت وإلغاء حيادية شبكة المعلومات الدولية “الإنترنت” أشبه بالوجبات المفروضة على نزيل مطعم مضطر لتناول طعامه فيه، حيث إن الأمر أشبه بزبون دائم لمطعم وحيد في المدينة، فبمجرد دخول الزبون لساحة المطعم يطلع على قائمة الأطعمة، ثم يطلب من النادل اختيار الوجبة التي قررها واختارها، غير أن النادل يسارعه بجملة من قبيل “عفوًا يا سيدي هذه الوجبة ستتأخر لمدة ساعة ونصف” بإمكانك اختيار وجبة أخرى، فيعاود زبون المطعم النظر للقائمة فيختار وجبة أخرى، فيقول له النادل: “لكن يا سيدي هذه الوجبة تمت إضافة زيادة مالية لها” إن لم ترغب يمكنك اختيار وجبات أخرى، وأنا أرشح لك هذه الوجبات الأربع.

ومن هنا تتبدى خطورة القرار في ربط الهيمنة الفكرية والتحكم بها في مستقبل الصراع المالي، أو ما يمكن أن نسميه بالإمبريالية وحركة التوحش الرأسمالي، ومن هنا تكون المعرفة مشروطة، أو يدفع إليها الشخص أو يتم الزج به إليها عنوة، أو من خلال القوة الناعمة، حيث سيجد متصفح الإنترنت تراخيًا وبطئًا في تحميل موقع ما، فطبيعي أن ينصرف عنه ويلجأ إلى البحث عن المعلومة في مكان آخر. ومن هنا لا يمكن البت في صحة معرفة موجهة، أو رأي مصنوع، وبالتالي يمكن التحكم في نمط ولبنة وبنية تكوين الوعي الفردي.

ففي ظل مبدأ حيادية الإنترنت، لا يسمح لمقدمي خدمات الإنترنت بأن يضيفوا لمستهلكي خدماتهم، المزيد من التكاليف المالية للوصول بسرعة، مثلاً، إلى خدمات “يوتيوب”، أو “نتفليكس”، التي تتطلب سعة أكبر للبيانات، أكثر من الخدمات العادية، أو أن تفرض تكاليف مالية مرتفعة من منتجي المحتوى لتوفير السرعة في نقل بياناتهم.

رافعة تستخدمها الدول لخنق حرية التعبير

كما أن مبدأ حيادية الإنترنت – وفق تحقيق أجرته وكالة أنباء “رويترز”[11] – يردع مزودي خدمة الإنترنت من منع الوصول إلى بعض المواقع، أو نوع معين من المحتوى. ومن النتائج المباشرة لإلغاء “حيادية الإنترنت” في الولايات المتحدة الأميركية، مثلاً، قيام مزودي خدمة الإنترنت بتحميل بعض صفحات المحتويات ببطء أكبر، مما يؤدي إلى تفضيل خدمات المنصات الكبيرة والثرية، في حين الشركات والمنصات الناشئة ستكون الخاسر الأكبر. من ناحية أخرى، فإن هذا التفريق يمكن أن يكون له تداعيات أيضًا على المستخدمين، حيث سيساهمون في التكاليف المرتفعة لمنتجي المحتوى الذي يتطلب استهلاكًا كبيرًا لحزم الإنترنت وللبيانات، مثل “نتفليكس” أو “أمازون” أو غيرها. كما يرى البعض أن إنهاء حيادية الإنترنت سيشكل خطرًا سياسيًا، لأن نهاية الحياد يمكن أن “يخلق رافعة تستخدمها الدول لخنق حرية التعبير. وقالت صحيفة “الجارديان” البريطانية إن قرار لجنة الاتصالات الفيدرالية الأميركية الخميس، بإلغاء قواعد حيادية الإنترنت التي صدرت في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، استقطب انتقادات واسعة لأنه يمنح شركات الاتصالات والإنترنت إمكانية السيطرة على مستقبل الشبكة العنكبوتية. ودعا محتجون غاضبون، الكونجرس إلى منع جهود لجنة الاتصالات الفدرالية، ووضع بعضهم باقات من الزهور والشموع البيضاء خارج المبنى، في إشارة واضحة إلى “موت” الإنترنت المفتوح. وكان الناشطون يحملون لافتات مصنوعة يدويًا كتب عليها: “لا تجعل الإنترنت طريقًا حصريًا خاصًا”، و “لا تقوض ديمقراطيتنا – هذا عمل روسيا”، و”فلترتح بسلام أيها الإنترنت”.

 

 

استشراف أثر القرار في المجتمعات العربية

صاغ الفيلسوف الألماني “جورجن هابرماس”، نظرية المجال العام في عام (1962)، وهي تشرح وتصف نشأة تكوّن الرأي العام وحالة الرأي، والمجال العام يتوسط في الواقع بين مجال السلطة العامة والحكومة، والمجال الخاص الذي قد يُركز على الأسرة وشؤون الأفراد الخاصة. وهذا المجال العام – كما نشأ في المجتمعات البرجوازية الأوروبية – كانت تمارس فيه المناقشات حول السياسات الحكومية, وفي رحابه تتبلور اتجاهات الرأي العام[12].

وعرّف “هابرماس” المناخ أو المجال العام، بأنه مجتمع افتراضي، أو خيالي، ليس من الضروري الوجود في مكان معروف أو مميز (في أي فضاء), فهو مكون من مجموعة من الأفراد لهم سمات مشتركة، يجتمعون معًا كجمهور, ويقومون بوضع وتحديد احتياجات المجتمع مع الدولة، فهو يبرز الآراء والاتجاهات من خلال السلوكيات والحوار, التي تسعى للتأكيد على الشؤون العامة للدولة، وهو شكل مثالي[13].

مما لا شك فيه أن المجتمعات العربية، هي شريحة مستهدفة من قبل المتحكمين في البث العنكبوتي للشبكة الإلكترونية. كما أن في ما يعرف بالربيع العربي، كان لشبكة الإنترنت دور جلي في نقل أحداثها وتبعاتها، وبالتالي فإن القرار سيؤثر بشكل أو بآخر على مستقبل المعرفة في الوطن العربي، حيث ستكون هذه المعرفة مشروطة؛ بيد أن الأمر به بعض الإيجابية لأنها ستنقل الباحث عن المعرفة الحقيقية للعودة للإطار الكلاسيكي للمعرفة. ربَّما يكون هذا القرار في مصلحة الشباب العربي الذي قد تدفعه الظروف للعودة إلى مقاعد المكتبة العامة، أو المكتبة الجامعية؛ لمحاولة نيل المعرفة بطريقة أكثر حرفية وفعالية، والخروج بنتيجة تحمل صدقًا وثباتًا. بمعنى آخر، من الممكن الانتقال من المعرفة “التيك أوي” إلى المعرفة الحقيقية.

بيد أن العديد من التساؤلات، تلقي بنفسها أمام المتابع، مفاد السؤال الأول يكون: “هل ينجح العالم الافتراضي، عقب إلغاء الحيادية، في تكوين ونشوء نظرية المجال العام بحسب تسمية “جورجن”؟ وهل يكون هذا المجال بعد تخصيصه تربة ثرية لنمو عوالم افتراضية للشباب العربي؟ بينما السؤال الثاني يكون مضمونه: “كيف يمكن أن تتبارى العولمة في مجابهة هيمنة رأس المال؟.. بمعنى آخر:

هل تكون هذه العولمة مشروطة بـ”كارت” ائتماني بنكي، أو ورقة مالية؟!

وحدة الدراسات الاجتماعية*

المراجع

[1] – Dimaggio, P., Hargittai, E, Neuman, W., and Robinson, J.(2001). “Social Implications of the Internet”. Annual Review of Sociology, p.307-348.

[2] – ساري، حلمي (2005م). ثقافة الإنترنت دراسة في التواصل الاجتماعي. دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان، الأردن.

[3] – جيتس، بيل (1998م)، “المعلوماتية بعد الإنترنت، طريق المستقبل”. ترجمة عبدالسلام رضوان، عالم المعرفة، الكويت، العدد 231.

[4] شلبي، أحمد، العولمة، مجلة المنهل، العدد 557، المحرم 1420هـ ـ أبريل / مايو 1999م، ص 46.

[5]–  Washington DC braces for net neutrality protests later this month ,the Guardian.

[6]–  The FCC just repealed net neutrality. What happens next?, Devin Coldewey,Dec 14, 2017.

[7]– The Effects of Ending Net Neutrality, New york times, DEC. 15, 2017.

[8] – جريدة اليوم السابع، هل ينتهي عصر الشبكة العنكبوتية؟ تقرير: مؤنس حواس.

[9]– الشامي، عبدالرحمن محمد (2007)، آفاق التفاعلية في ظل الإعلام الجديد، المجلة العربية للإعلام والاتصال، جامعة الملك سعود، الجمعية السعودية للإعلام والاتصال، الرياض.

[10]– البسيوني، محمد علي (2009)، دولة الـFace Book، دار الشروق، القاهرة.

[11]– وكالة أنباء “رويترز”، تقرير حول موت الإنترنت.

[12] – James Johnson, (2007) Public sphere, postmeclernism and polimic, the American political Science, Vol.88,No.2.

[13]– المرجع السابق.

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر