تحولات الاتصال السياسي في الفضاء السيبراني | مركز سمت للدراسات

تحولات الاتصال السياسي في الفضاء السيبراني

التاريخ والوقت : الثلاثاء, 20 ديسمبر 2022

 علي فرجاني

 

شكلت التطورات الهائلة في مجال تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، في أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، سياقات جديدة لنشوب صراعات حول ما بات يعرف بالنفوذ السيبراني في الفضاء الإلكتروني بوصفه ساحة واسعة للتفاعلات العالمية، وظهرت مفاهيم جديدة طوَّرها علماء في مجال العلوم السياسية.

ويعد أستاذ العلاقات الدولية الشهير “جوزيف ناي” من أهم من تحدثوا عن القوة السيبرانية كشكل جديد للقوة، حيث يعرفها “ناي” بأنها القدرة على الحصول على النتائج المرجوة من خلال استخدام الفضاء السيبراني لخلق مزايا، والتأثير في الأحداث الجارية، وذلك عبر أدوات إلكترونية، فقد جعلت القوة السيبرانية بعض الفاعلين الأصغر في الساحة العالمة لديهم قدرة أكبر على ممارسة القوة الصلبة والناعمة عبر الفضاء السيبراني.

تعد الديمقراطية الرقمية فضاء مهما وأداة ووسيلة يمكنها أن تسهم بصفة كبيرة في نشر قيم وممارسات المواطنة وعلى جميع المستويات الوطنية والعالمية؛ إذ أصبح الفرد اليوم يمتلك وسائل وأدوات رقمية كافية للتعبير عن آرائه السياسية والاجتماعية. ولقد أسهمت التكنولوجيا الرقمية في تغير بعض جوانب الممارسة السياسية، والتي تعبر في مضمونها عن توظيف أدوات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الرقمية فى جمع وتصنيف وتحليل وتداول كل المعلومات والبيانات، وتعتمد هذه الديمقراطية على الحوكمة الإلكترونية فى استطلاعات الرأي، والتعبير عن الرأي بعيدا عن الضغوط، وتنظم الفعل السياسى عبر الفضاء الافتراضي.

ومع بروز الفضاء الإلكتروني أو السيبراني كساحة للصراع العالمي، واجهت المفاهيم التقليدية، مثل: الصراع، والأمن والقوة، والسيادة، تحديات واضحة، فضلا عن تكيفها مع طبيعة التفاعلات فى الواقع الافتراضي، لذا برزت الحاجة إلى مداخل ورؤى نظرية أكثر قدرة على تفسير طبيعة المتغيرات التي ألحقتها الحقائق التكنولوجية بهذه المفاهيم.

ومن منطلق أن القوة (هي القدرة على التأثير فى الآخرين لفعل ما تريده)، نضج مفهوم القوة الناعمة Soft Power على يد “جوزيف ناي” لتحقيق أهدف الدول ومصالحها؛ إذ لم تعد القوة الصلبة hard Power كافية للحصول على النتائج المرغوبة، وأعاد التطور التكنولوجي والمعلوماتي تشكيل مفهوم القوة، وأعد ظهور فواعل جديدة مثل (المنظمات والجماعات والأفراد)، وبات جليا أن من يمتلك آليات توظيف القوة السيبرانية يصبح أكثر قدرة على تحقيق أهدافه والتأثير في أداء الفاعلين المستخدمين لهذه البيئة، فكان لثورة المعلومات والاتصالات انعكاساتها في ربط المصالح القومية للدول بالبنى التحتية الحيوية لها.

مفهوم السيبرانية: جاء مصطلح السيبرانية Cybernetic ،مشتقا من المصطلح الإغريقي Kyber netes ويعني الطيار أو قائد الدفة أو الحاكم، ويفيد الاشتقاق الحديث بأن كلمة سيبرانية تتضمن آليات تعقيب تتيح وظائف القيادة والتحكم في الأنظمة المغلقة. والسيبرانية مأخوذة من كلمة (سيبر) وتعنى صفة لأي شىء مرتبط بثقافة الحواسيب أو تقنية المعلومات أو الواقع الافتراضي، وظهرت عدة تعريفات من منظمات بارزة، مثل وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، ووكالة الأمن القومى (NSA)، وقمة الأمن السيبراني الروسية الأميركية، ومعهد أمن المعلومات بجامعة موسكو الحكومية، ووفقا لوزارة الدفاع الأميركية (Department of Defense Dictionary of Military and Associative Tetms,2010).

الفضاء السيبراني: إن الفضاء السيبراني هو: مجال عالمي داخل بيئة المعلومات يتكون من شبكة مترابطة من البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات، بما في ذلك الإنترنت وشبكات الاتصالات وأنظمة الكمبيوتر والمعالجات ووحدات التحكم المدمجة. من ناحية أخرى، تصف القمة الروسية الأميركية للأمن السيبراني، الفضاء السيبراني بأنه: وسيط إلكتروني يتم من خلاله إنشاء المعلومات ونقلها واستلامها وتخزينها ومعالجتها وحذفها.

علم النفس السيبراني: علم النفس السيبرانى Cyber psychology هو دراسة العقل والسلوك البشرى وكيف تؤثر ثقافة التكنولوجيا –على وجه التحديد- الواقع الافتراضي، ووسائل التواصل الاجتماعي فيهم. تركز الدراسات البحثية السائدة على تأثير الإنترنت والفضاء السيبراني في نفسية الأفراد والجماعات؛ إذ تتضمن بعض الموضوعات الساخنة، مثل: الهوية عبر الإنترنت، وأنواع الشخصية في الفضاء السيبراني، والانتقال إلى أجهزة الكمبيوتر، والإدمان على أجهزة الكمبيوتر والإنترنت، والسلوك في الفضاء السيبراني، ويعد علم النفس السيبراني تخصصا ناشئا وفقا لجمعية علم نفس وسائل الإعلام والتكنولوجيا الخاصة بجمعية علم النفس الأميركية.

وسائل التواصل الاجتماعي والسلوك السيبرسيولوجي: على الرغم من أن علم النفس السيبراني يتضمن منصات تكنولوجية أخرى، مثل العلاج السيبراني وتداعيات الواقع الافتراضي، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي في السلوك  البشري؛ حيث إنها المنصة الأكثر انتشارا لاستخدام التكنولوجيا. توثر منصة meta  الشهيرة بـ “فيسبوك ” في الحالة النفسية للمستخدمين بطرائق متعددة؛ حيث يتبع face book نمط التواصل بين شخص وآخر،ما يسمح للمستخدمين بمشاركة المعلومات حول حياتهم، بما في ذلك الأنشطة الاجتماعية والصور الفوتوغرافية، وقد تم تحسين هذه الميزة في عام 2012، عندما تم تطبيق face book messenger للسماح للمستخدمين بدمج الميديا من الاتصالات الفردية مع ميزة face book chat، بينما يستمتع مستخدمو face book بشعور الاتصال.

الفضاء السيبراني و الذكاء الاصطناعي: يوظف الفضاء السيبراني الذكاء الاصطناعي وتقنياته في دمجها للمكان والذات الشخصية، وتعود الشفافية المكانية التي تتميز بها صورة هذا الزمان إلى عملية المصاهرة المقيمة بين الواقع الفيزيائي التقليدي والواقع الافتراضي وتداخلهما في الكينونة التي نعيشها، ونتعامل معها في أثناء تفاعلنا مع الفضاء المعلوماتي.

الذكاء الاصطناعي والسياسة:

يعد الذكاء الاصطناعي أحد أقوى الأدوات التي يستخدمها صانعو السياسات لاتباع نهج سياسي قائم على البيانات، مع التعلم الآلي وتقنيات التحليلات التنبؤية؛ حيث يستخدم السياسيون تقنيات الذكاء الاصطناعىي فىيالتعرف على وجهات نظر المواطنين،ومن ثم تعديل وجهات نظرهم لكسب المزيد من المؤيدين.

وقد أسهمت تقنية المعلومات في إدراج آليات الرقمنة (Digitization) في بيئة المستخدمين الذين يقيمون فى بيئة افتراضية، وعمدت إلى إعادة تشكيل سمات البيئة الاجتماعية المستحدثة التي تضمهم، كما أعادت تشكيل عملية قولبة العلاقات التى تربط فيما بينهم على حد سواء. ويوفر التقدم التكنولوجي في الوقت الحالي قدرا هائلا من القدرات لتحليل كميات كبيرة من البيانات في غضون ثوانٍ ما يمكِّن صانعي القرار من التأثير.

تحليل البيانات في الحملات السياسية:

يعد التحول للبيانات ظاهرة حديثة تعتمد على تصنيف وتقدير وتجميع الظواهر في قواعد البيانات ومعالجتها عن طريق الخوارزميات؛ والاستهداف الدقيق هو “العملية التسويقية المباشرة التي تشير إلى عملية اتخاذ قرارات حول الشخص الذي يجب استهدافه برسالة الحملة”. وفي مجال الحملات السياسية التي تبنى أفعالها على البيانات الشخصية، بينما لا يعرف المواطنون عادة أن الرسائل التي يتلقونها مصممة خصيصا لشخصيتهم. على هذا النحو يمكن أو يوصف الاستهداف السياسى الدقيق بأنه “تلاعب باستخدام تكنولوجيا المعلومات للتأثير سرا في شخص آخر لصنع القرار، من خلال استهداف نقاط الضعف واستغلالها في صنع القرار” . كما يمكن تعريفه أيضا بأنه “عملية استراتجية تهدف إلى التأثير في الناخبين من خلال النقل المباشر للمحفزات، التي يتم تشكيلها بناءً على تفضيلات الشخص وخصائصه، حيث يقوم الاستهداف مسبقا على جمع كميات كبيرة من البيانات القادرة على تصوير التفضيلات السياسية، وغيرها من الخصائص غير السياسية للناخبين التي يتم جمعها بمساعدة خوارزميات التعلم الآلي”. وتكمن أهم مزايا استخدام تحليل البيانات والاستهداف الدقيق فى حملات الاتصال السياسي في القدرة على تتبع ميول أو اهتمامات الناخب العامة جزئيا؛ وبناء عليها تعديل الصورة العامة للمرشحين بطريقة تتوافق مع آراء الناخبين.

التكنولوجيا ووسائل الاتصال:

أصبح التقدم في وسائل وتكنولوجيا الاتصالات عاملا مهما في نجاح الحملات الانتخابية الرئاسية، فالراديو والتلفزيون وسيلتان لا غنى عنهما في الحملات الانتخابية، فمثلا خلال انتخابات 1992، كان للوعد الذي قطعه جورج بوش الأب فىي دعايته الانتخابية الأولى،  التي لم يستطع الوفاء بها “اقرأ شفتي: لا ضرائب جديدة” (Read My Lips: No New Taxes)، تأثير سلبي في حملته الانتخابية الثانية، فقد تم استخدامها على نحو واسع من جانب منافسيه، لاسيما الرئيس الأسبق بيل كلينتون، ماأدى إلى هزيمته في تلك الانتخابات.

بعد تطوير الإنترنت في منتصف التسعينيات، أصبح أداة لا تقدر بثمن في خدمة الحملات الانتخابية، خصوصا بعد عام 2000، حيث قام كلا المرشحين للرئاسة آل غور وجورج بوش الابن بتدشين موقعين إلكترونيين خاصين بحملتهما الانتخابية. ولم تعرف إمكانات الإنترنت حتى عام 2004، فالمرشحون العشرة للرئاسة أحدثوا فى صيف 2003 مواقعهم لحملاتهم الرئاسية على الإنترنت، وعُدَّ الموقع الإلكتروني للمرشح الرئاسي هوارد دين (Howord Dean )، نموذجا يحتذى به لجميع مواقع المرشحين في المستقبل، حيث كان لموقعه الإلكتروني دور مهم جدا في استراتيجيته الانتخابية، وسمح لمؤيديه أن يقرأوا تفاصيل برنامجه الانتخابي، ويزوده بالمقابل بانطباعاتهم وتعليقاتهم وملاحظاتهم، كما جعلهم ينخرطون في حملته الانتخابية، ويتواصلون مع مؤيدين آخرين لا يعرفونهم.

وفي عام 2008 أضحى الإنترنت وسيلة لا غنى عنها للتواصل بين الناخبين من جهة، ومع الحملات الانتخابية من جهة أخرى، مثلما عمل موقع دين في عام 2004. وأنشأ كل المرشحين الأساسيين مواقع لهم على الإنترنت، واستخدموا بالأخص مواقع التواصل الاجتماعي مثل Face book وقيست شعبية المرشح بعدد أصدقائه على مثل هذه المواقع، كما استخدمت قنوات الإنترنت مثل You Tube لنشر الخطب السياسية، والدعايات الانتخابية، واستخدمت هذه المواقع أيضا كمنتديات لمؤيدى مرشح ما لمهاجمة المرشحين الآخرين ونشر مقاطع فيديو لأخطائهم وزلاتهم.

كامبريدج أناليتيكا تقود اتجاهات البيانات:

تردد في وسائل الإعلام الأميركية اسم شركة Cambridge Analytica العالمية وهي شركة استشارية وتحليل بيانات، تم تمويلها من قبل الملياردير الأميركي “ربورت ميرسر”(Robert Leroy Mercer) وترأسها “ستيف بانون” مؤسس Breibart قبل مغادرته كرئيس تنفيذى لحملة ترمب 2016. غطت التقارير كيفية استخدام Cambridge Analytica للبيانات لاستهداف الناخبين الفرديين واستهدافهم بهدف التنبؤ بقراراتهم الانتخابية والتأثير فيها. قامت شركة Cambridge Analytica بشراء بيانات فيسبوك لعشرات الملايين من الأمريكيين دون علمهم لبناء “أداة حرب نفسية” التى أطلقتها على الناخبين الأميركيين للمساعدة على انتخاب دونالد ترمب رئيسا. قبل انتشار الأخبار، قام FacebookبحظرCambridge AnalyticaWylie، وعلى الفور انخفض سعر سهم Facebook وتم استدعاء زوكربيرج للإدلاء بشهادته أمام الكونجرس، وبدأ عام من المناقشات الدولية المثيرة للجدل حول حقوق الخصوصية للمستهلكين عبر الإنترنت.

في 2012، قبل ظهور كامبريدج أناليتيكا بعام، بدأ مجموعة من علماء جامعتى كامبريدج وستانفورد بالبحث عن رابط بين صفات الشخصية والصفحات التى يعجب بها الناس على فيسبوك. بهذا الهدف أنشأوا استطلاع رأى على فيسبوك، يسمح للمستخدمين بخوض اختبارات نفسية (سايكومترية) حقيقية، وهم يأملون فى إيجاد رابط بين حقيقة شخصية الفرد وشخصيته على الإنترنت. من قاموا بتحميل الاختبار قدموا بشكل واعٍ بياناتهم فى كلا الأمرين: تاريخ إعجاباتهم على فيسبوك، ومقاييس الشخصية الحقيقية من خلال الإجابة عن سلسلة أسئلة.

يسهل تخيل كيف يمكن أن تكون الإعجابات والشخصية ذات صلة بعضها بعضا، مثلما أشار الفريق فى الورقة التى نشروها فى العام التالى، مثل الأشخاص المعجبين بفنان ما، والتأمل أو خطب مؤتمرات تيد TEDيكاد يكون من المؤكد أن درجتهم فى الانفتاح للتجارب ستكون عالية . فى الوقت نفسه، الذين يفضلون الحفلات، يميلون إلى أن يكون أكثر انبساطية، نجحت الدراسة، وبعدها صار الرابط المرغوب موجودا، ثم بنى الفريق خوارزما بوسعه استنتاج شخصية الفرد بناءً على إعجاباته على فيسبوك وحده.

ومع ظهور دراستهم الثانية فى 2014، كان الفريق يدَّعي قدرة الخوارزمية على الحكم على صفات الناس الشخصية، إن استطعت جمع 300 إعجاب من ملف كل منهم على فيسبوك بدقة أكثر من أزواجهم ذاتهم. واليوم فريق البحث الأكاديمي- مركز القياسات النفسية بجامعة كامبريدج- نما الخوارزم ليستطيع تخمين الشخصية من الأكونت الشخصي على تويتر أيضا.

استطاعت شركة “أناليتيكا” إدارة معركة انتخابية محسوبة بدقة للرئيس “دونالد ترمب” وأثرت بهذا في النتيجة غير المتوقعة بصورة حاسمة، وذلك استنادا إلى تحليلات الملفات الشخصية على موقع “فيسبوك”، وقال “ألكسندر نيكس” الرئيس التنفيذي لشركة “كامبرديج أناليتيكا” في فعاليته التي أقامها عام 2016 بمناسبة المعركة الانتخابية: إنه “لو تعرفنا على شخصية كل ناخب على حدة جيدا بصورة كافية، فإنه يمكن تفرقة الرسائل بصورة دقيقة وإثارة صدى أقوى في المجموعات المستهدفة الأكثر أهمية. وقد دعت الوكالة الملايين ممن يحق لهم الانتخاب إلى الخضوع لاختبارات شخصية على موقع “فيسبوك” واستنبطت في النهاية من النتائج اتجاه المعلومات التى تم إرسالها .

ليس دونالد ترمب الرئيس الوحيد الذي استخدم البيانات لدعم حملته الانتخابية، فالشركة التي اهتمت بالتسويق الرقمى لحملة ترمب هي نفسها التى خاضت حملة انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. سبقه إلى ذلك الرئيس السابق باراك أوباما خلال حملتيه الانتخابيتين الأولى والثانية. وكانت إدارة ترمب أشارت إلى أن الميزانية المقترحة للأمن الإلكتروني الأميركى لعام 2020 نحو 11 مليار دولار.

 تلاعب دقيق:

في 2013 أجرى موظفو فيسبوك دراسة مثيرة للجدل؛ إذ تلاعبوا بصفحات المنشورات لـ689.003 مستخدم دون علمهم (أو موافقتهم) فى محاولة للتحكم بمشاعرهم والتأثير فى مزاجهم، فقد حجب الباحثون أي منشورات من الأصدقاء تحتوى على كلمات سلبية، ثم كرروا الشىء نفسه بحجب تلك التي تحتوى على كلمات سلبية في صفحة المنشورات، ذهبوا لينشروا بأنفسهم منشورات أكثر إيجابية، في حين كان أولئك الذين تعرضوا لحجب المنشورات الإيجابية ذهبوا لينشروا كلمات أكثر سلبية بنفسهم. الاستنتاج: ربما نحسب أننا منيعون أمام التلاعب بالمشاعر، لكننا في الغالب لسنا كذلك. إن مجرد ترتيب صفحات نتائج محرك بحث، بوسعه ترجيح كفة مرشح على آخر، ونعلم كذلك من العمل الذى أنجزه الأكاديميون أنفسهم الذين استخدمت كامبريدج أناليتكيا خوارزمياتهم بأهداف جديدة؛ أن الإعلانات التي تستهدف الصفات الشخصية أكثر فعالية. لم يكن إلا بعد ضجة كامبريدج أناليتيكا أن صار الأمر مثار اهتمام دولى مستدام فى الصفحات الأولى. عندما أثيرت تلك الفضيحة فى مطلع عام 2018، عرفت الجماهير لأول مرة كيف تحصد الخوارزميات ببطء بياناتهم، واعترفوا أنه دون إشراف وتنظيم، يمكن أن تصبح لذلك عواقب وخيمة.

قوة الرقمنة:

عام 2011، اجتمع عمالقة الإنترنت بدعوة من أوباما للعشاء معه في البيت الأبيض، خلال اللقاء الذى أطلقت عليه الصحافة الأمريكية “عشاء الملوك”، روج أوباما لفكرة تعيين “إيرك شمدت” وزيرا للخارجية حال تعيينه مرة أخرى رئيسا للبلاد. حينها، قال أوباما “نحن نمتلك الإنترنت”، مشيرا إلى أن القوة التي ترتكز عليها بلاده تقوم على عمالقة الرقمنة.

فقد أتاح الإنترنت للولايات المتحدة فرصة خيالية ليس فقط للحفاظ على دورها القيادي وإنما لتعزيز هذا الدور، وظف أوباما المعلومات وقام بتحليلها خدمة لحملته الانتخابية عام 2008. في دورته الثانية، تجاوزت الحملة الاستخدام الكلاسيكي لقاعدة البيانات الخاصة بالناخبين، التي تم تصنيفها وفقا للتقسيم الفرعي الكلاسيكي في الفئات الاجتماعية والديموغرافية. بفضل الاستخدام الجاد للمعلومات، تمكن فريق أوباما من إجراء تقييمات على أساس التفضيلات والعادات المعبر عنها عبر الإنترنت لكل ناخب. فبفضل برنامج صممه مهندس في الإعلام “رابيد غاني”، وكان متخصصا في التحليل الاستشرافي، سيكون بإمكان شركات وادي السيلكون صناعة انتصار المرشح السياسي. فعلى امتداد أشهر عديدة أغلق ما يقارب من 50 مهندسا إعلاميا على أنفسهم فى قاعة سرية لمركز قيادة حملة أوباما التى أطلق عليها “الكهف”، كان عملهم هو: معالجة ملايين المعطيات الأولية التى تم جمعها من الشبكة انطلاقا من تعليقات المبحرين، للتعرف على الأمريكيين الذين قد يصوتون على المرشح الديمقراطى. وهو استهداف سيمكن من التأثير فى كل مواطن متردد والسعى لاستمالته بخطاب يلائمه، يتعلق الأمر بـ”دق الأبواب” متقن وشخصى هو الذى خلق الفارق. خمس سنوات قبل ذلك كان أوباما قد أرسل، بمساعدة تكنولوجيا البيج داتا، 1.2 مليار من الرسائل الشخصية التي مكنته من الانتصار على خصمه الأميركي.

فمنذ أكثر من قرن، يعيش رجال السياسة محاطين بمعاهد لاستطلاع الرأي العام التى تمدهم بتحاليل تمكنهم من صياغة حجج تستجيب لتوجهات الرأي العام في الحملة الانتخابية، وقد انتقلنا من البيج داتا إلى مرحلة أخرى، قادرة على معالجة مليارات المعطيات واستخراج “البروفيل السياسي” الفردي يضاف إليه قدرتها على تحديد رد الفعل تجاه هذا القرار أو ذاك.

في إبريل 2015 عندما بدأت الانتخابات الأولية الديمقراطية في أميركا، استعانت “هيلارى كلينتون” بستفاني حانون مديرة التجديد المدني والواقع الاجتماعي في جوجل، وكانت مهمتها تصور “أشكال جديدة فى العلاقة مع الناخبين في عصر الشبكات الاجتماعية والرقمية”، وكان تحت إمرتها “جيش” من المصممين والمهندسين. كان على هؤلاء ابتكار تطبيقات من أجل تحسين الناخبين ومضاعفة عدد المناضلين والرفع من الدعم المادي، وكان النجاح حليفها.

وجمعت 45 مليون دولار فى ثلاثة أيام، وبذلك حطمت وزيرة الخارجية السابقة كل الأرقام، لم تقم البيانات الضخمة بتقديم الدعم الحاسم من أجل إقناع الناخبين فحسب، بل أسهمت، بالإضافة إلى ذلك، بفضل اللوجاريتمات، في جمع المال، وهو دعم حيوي في تغطية المصاريف الباهظة للحملات الأميركية، وقد مثلت الحملة الرئاسية الأخيرة 2.6 مليار دولار بالنسبة للحزب الديمقراطي.

ختاما: إن الثورة التكنولوجية قادرة على التحكم في الاتجاهات السياسية، وعليه أصبحت قنوات الاتصال التي توظف تقنيات الذكاء الاصطناعي ومعالجة البيانات الضخمة، قادرة على القيام بحشد الجماهير وتعبئتها، فضلا عن التأثير في القيم السياسية باستخدام القوة السيبرانية التي تعد سلاحا خارقا يحقق ما لا تحققه القنابل النووية، فقد أضحى الفضاء السيبراني بفضل ثورة المعلومات والإنترنت أحد أهم العناصر التى تؤثر فى النظام السياسي، وهو ما نتج عنه من زيادة الوعى بأهمية الابتكار والتقدم التكنولوجى كأساس للاستحواذ على القوة، وهذا ما أكده الرئيس الروسى (فلاديمير بوتين) بقوله: “إن من يتحكم بالفضاء الإلكتروني فسيحكم العالم، فالحرب الجديدة هي حرب إدارة المعلومات في الفضاء السيبراني”.

المصدر: مجلة السياسة الدولية

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر