قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية بأسابيع قليلة أصدر صندوق النقد الدولي تقرير آفاق الاقتصاد العالمي في يناير 2022، والذي تناول فيه أثر انتشار متحور أوميكرون وتداعياته على الاقتصاد العالمي، والذي تسبب في عودة الدول لفرض القيود على التنقل وما استتبع ذلك من ارتفاع أسعار الطاقة واضطراب الإمدادات ومنه إلى تضخم أعلى وأكثر اتساعًا مما كان متوقعًا وبشكل خاص في الولايات المتحدة والاقتصادات النامية والناشئة، بجانب الانكماش المستمر في قطاع العقارات في الصين والتعافي الأبطأ من المتوقع للاستهلاك الخاص بالقطاع. وفي إبريل أطلق الصندوق تقريرًا عدَّل فيه من توقعات الاقتصاد العالمي والذي أظهر توقعات سلبية على خلفية الأزمة الروسية الأوكرانية وما صاحبها من اختناقات جديدة في سلاسل التوريد العالمية، وأخيرًا في يوليو تم إطلاق أحدث تقرير للصندوق وبين تعديل جديد فيما يتعلق بتوقعات الاقتصاد العالمي مع استمرار الحرب والتطورات في انعكاساتها على الاقتصاد العالمي.
أولًا: مقارنة بين توقعات الاقتصاد العالمي فيما يخص (النمو والتضخم)
قام صندوق النقد الدولي بتغيير توقعاته للمرة الثالثة على التوالي هذا العام (2022)، وفقًا للتطورات القاتمة والمستجدات على الساحة الدولية والتي صاحبها نظرة تشاؤمية فيما يتعلق بتباطؤ معدلات النمو الاقتصادي العالمي ومواصلة معدلات التضخم ارتفاعها، فوفقًا للتقرير الصادر في يناير 2022: فقد تضمن توقعات بتراجع النمو العالمي من 5.9% في عام 2021 إلى 4.4% في عام 2022، وهو أقل 0.5% مما كان عليه في تقرير آفاق الاقتصاد العالمي لشهر أكتوبر 2021، كما توقع التقرير أن يتباطأ النمو العالمي إلى 3.8% في عام 2023، وذلك مع ظهور متحور أوميكرون وتوقعات بفرض الدول قيودًا على التنقل وإغلاق الحدود والتأثيرات الصحية والأثر المتوقع للعدوى على المعروض من العمالة، وأهمية القطاعات كثيفة الاتصال، فضلًا عن الاضطراب في قطاع الإسكان بالصين وتباطؤ نموه، إلا أنه سيتحقق انتعاشًا اقتصاديًا في الربع الثاني من عام 2022 مع السيطرة على متحور أوميكرون.
أما معدلات التضخم فقد ظلت توقعات التضخم في تقرير يناير 2022 ثابتة كما كان متصورًا في عدد أكتوبر 2021 من تقرير آفاق الاقتصاد العالمي، إلا أنه كانت هناك توقعات باستمرار التضخم المرتفع لفترة أطول ثم ينخفض التضخم تدريجيًا مع تلاشي اختلالات العرض والطلب وقرارات السياسة النقدية في الاقتصادات الكبرى خلال عام 2022، وتوقع التقرير أن يبلغ متوسطه 3.9% في الاقتصادات المتقدمة و5.9% في الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية في عام 2022، ليتراجع بعد ذلك عام 2023، وذلك مع انخفاض اضطرابات سلسلة التوريد، وتشديد السياسة النقدية، وإعادة توازن الطلب بعيدًا عن الاستهلاك كثيف السلع نحو الخدمات. ومن المتوقع أيضًا أن تتراجع الزيادة السريعة في أسعار الوقود وأسعار الغذاء خلال 2022-2023، مما سيساعد على احتواء التضخم الرئيسي.
أما التقرير الصادر في أبريل 2022: فقد تدهورت التوقعات إلى حد كبير بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا بجانب عدم وصول الدول جميعها لمرحلة التعافي الكامل من جائحة كورونا ومتحوراتها، فضلًا عن عمليات الإغلاق المتكررة والواسعة النطاق في الصين بما في ذلك في مراكز التصنيع الرئيسية وهو ما أظهره التقرير، وبحسب التقرير فإنه جائت التوقعات بتراجع النمو العالمي من 6.1% في 2021 إلى 3.6% في 2022 و2023، أي بانخفاض مقداره 0.8% و0.2% عن توقعات تقرير يناير 2022 للنمو في عامي 2022 و2023 على التوالي.
كما توقع التقرير أن يظل التضخم مرتفعًا لفترة أطول بكثير مما كان عليه في السابق، فمن المتوقع أن يبلغ التضخم 5.7% عام 2022 في الاقتصادات المتقدمة و8.7% في اقتصادات الأسواق الصاعدة والبلدان النامية، أي بزيادة 1.8% و2.8%عن المتوقع في يناير.
ففي بعض الاقتصادات المتقدمة، بما في ذلك الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، وصلت معدلات التضخم إلى أعلى مستوى لها منذ أكثر من 40 عامًا، كما حذر التقرير من أنه قد تؤدي الزيادات في أسعار الغذاء والوقود إلى زيادة مخاطر الاضطرابات الاجتماعية بشكل كبير في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، وشدد على ضرورة توسيع الإنفاق الاجتماعي والصحي وجعله أولوية لدى واضعي السياسات.
وبالنسبة للتقرير الصادر في يوليو 2022: فإنه مع التداعيات السلبية للحرب في أوكرانيا وتراجع الإنفاق الاستهلاكي في الولايات المتحدة والانكماش في الصين وروسيا، وسياسات الإغلاق لاحتواء وباء كورونا، وتسارع معدلات التضخم لمستويات لم تشهدها الدول من قبل تسبب ذلك في تقلص الناتج العالمي في الربع الثاني من هذا العام.
وبحسب التقرير فإن التوقعات تشير إلى تباطؤ النمو إلى 3.2% في عام 2022، أي أقل بمقدار 0.4% عن تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر في أبريل 2022، وتراجع النمو في الولايات المتحدة بمقدار 1.4%. وفي الصين تراجع النمو بسبب عمليات الإغلاق الإضافية والأزمة العقارية المتفاقمة بمقدار 1.1%، كما أدت التداعيات غير المباشرة للحرب في أوكرانيا وتخفيض التصنيف الائتماني إلى تراجع توقعات النمو في أوروبا.
وتم تعديل التضخم العالمي بالزيادة بسبب أسعار الغذاء والطاقة، بالإضافة إلى الاختلالات المستمرة بين العرض والطلب، ومن المتوقع أن يصل التضخم إلى 6.6% في الاقتصادات المتقدمة و9.5% في اقتصادات الأسواق الصاعدة والبلدان النامية هذا العام، بزيادة قدرها 0.9% و0.8% على التوالي.
ثانيًا: أسباب نظرة الصندوق التشاؤمية للاقتصاد العالمي
بحسب التقرير اشتدّ التباطؤ العالمي مع التطورات القاتمة بشكل متزايد خلال عام 2022، وكان الأداء أفضل قليلًا مما كان متوقعًا في الربع الأول، ولكن يُقدر أن الناتج المحلي الإجمالي العالمي الحقيقي قد تقلص في الربع الثاني -وهو أول انكماش منذ عام 2020- بسبب الانكماش الاقتصادي في الصين وروسيا.
أيضًا صاحب تراجع النمو ارتفاع في معدلات التضخم في جميع أنحاء العالم، وخاصة في الولايات المتحدة والاقتصادات الأوروبية الرئيسية، مما أدى إلى تشديد حاد في الأوضاع المالية العالمية، كما شهدت الصين تباطؤًا أكثر حدة من المتوقع مع تفشي كوفيد-19 وحالة الإغلاق التي فرضتها الدولة، والمزيد من الآثار السلبية عبر الحدود من الحرب في أوكرانيا، وللسيطرة على معدلات التضخم المرتفعة تلك قامت البنوك المركزية في العديد من الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية برفع أسعار الفائدة بقوة أكبر مما كانت عليه خلال دورات التشديد التي قامت بها الاقتصادات المتقدمة، وأدى الارتفاع المصاحب في تكاليف الاقتراض طويل الأجل، بما في ذلك معدلات الرهن العقاري، والأوضاع المالية العالمية الأكثر تشددًا إلى انخفاضات حادة في أسعار الأسهم مما أثر على النمو، وفي الوقت نفسه تم إنهاء حزم دعم كوفيد-19.
وأدى التباطؤ الاقتصادي في الصين إلى حدوث اضطرابات في سلسلة التوريد العالمية، فمع تفشي الوباء قامت الصين بفرض قيود على التنقل مما عطل النشاط الاقتصادي، ودخلت شنغهاي وهي مركز رئيسي لسلسلة التوريد العالمية في إغلاق صارم في أبريل 2022، مما أجبر النشاط الاقتصادي على مستوى المدينة على التوقف لمدة ثمانية أسابيع تقريبًا، وفي الربع الثاني انكمش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بشكل ملحوظ بنسبة 2.6%، مدفوعًا بانخفاض الاستهلاك، وهو أكبر انخفاض منذ الربع الأول من عام 2020، في بداية الوباء عندما انخفض بنسبة 10.3%، فيما أدت الأزمة المتفاقمة في قطاع العقارات في الصين إلى تراجع المبيعات والاستثمار العقاري.
استمرار الحرب الروسية الأوكرانية منذ أبريل تم فرض عقوبات مالية إضافية على روسيا، واتفق الاتحاد الأوروبي على فرض حظر على واردات الفحم بدءًا من أغسطس 2022 وعلى النفط الروسي المنقول بحرًا اعتبارًا من عام 2023، وفي الوقت نفسه وافقت منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) على تقديم الزيادات في إمدادات النفط التي كان من المقرر إجراؤها في سبتمبر، وتخطط مجموعة السبع لدراسة إمكانية وضع سقف سعري على الصادرات الروسية من النفط الخام. وتعني هذه التطورات التعويضية أن الزيادة في أسعار النفط الخام الدولية مقارنة بالعام الماضي كانت أقل بشكل طفيف فقط مما كان متوقعًا.
وأخيرًا، تفاقمت أزمة الغذاء، مع أنه استقرت أسعار الغذاء العالمية في الأشهر الأخيرة، لكنها ظلت أعلى بكثير مما كانت عليه في عام 2021، كانت الحرب في أوكرانيا هي المحرك الرئيسي لتضخم أسعار الغذاء العالمية، وخاصة أسعار الحبوب، مثل القمح. أدت القيود المفروضة على الصادرات في العديد من البلدان إلى تفاقم الزيادات العالمية في أسعار المواد الغذائية، على الرغم من أن بعض هذه القيود قد ألغيت مؤخرًا.
ويرى صندوق النقد الدولي أنه لا بد من القيام بالإصلاحات الهيكلية واستعادة استقرار الأسعار والسيطرة على التضخم مع حماية الفئات الضعيفة، لأن استقرار الأسعار هو شرط مسبق للنمو الدائم لتحقيق الرفاه الاقتصادي والاستقرار المالي، ويتعين على الاقتصادات التي تعاني من التضخم المستمر المرتفع اتخاذ إجراءات حاسمة لتشديد السياسة النقدية، مع قيام البنوك المركزية بتقليص ميزانياتها العمومية ورفع أسعار الفائدة الحقيقية وذلك لتقليل التضخم وتعزيز النشاط الاقتصادي لخفض معدلات البطالة ورفع الأجور. كما أكد على ضرورة أن تقلل الحكومات بشكل استباقي من اعتمادها على الاقتراض للحصول على النقد الأجنبي، وحث الحكومات أيضًا على ضرورة إزالة الحواجز التي تعترض التجارة مثل حظر تصدير الأغذية، والذي يتم تطبيقه بهدف منع النقص المحلي، ولكنه يؤدي في الواقع إلى ارتفاع الأسعار العالمية، كما تم التأكيد على ضرورة تكثيف الجهود لحل اختناقات إمدادات اللقاح وتوزيعه وضمان الوصول العادل إلى العلاج، وتسريع السياسات المناخية الشاملة والموثوقة لزيادة إمدادات الطاقة الخضراء والطاقة النظيفة.