تتوالى الأزمات العالمية أزمة تلو أخرى منذ انتشار جائحة كورونا أوائل عام 2020 وما ترتب عليها من إجراءات احترازية ساهمت في إيقاف النشاط الاقتصادي، مرورًا بقيام الحرب الأوكرانية التي فاقمت الوضع سوءًا وأسفرت عن أزمة إمدادات في السلع الأساسية كالغذاء والطاقة مما رفع المستوى العام للأسعار، ولم ينتهِ الأمر عند هذا الحد، حتى قررت رئيسة مجلس النواب الأميركي “نانسي بيلوسي” زيارة تايوان، الأمر الذي دفع الصين لاتخاذ العديد من الإجراءات العسكرية والاقتصادية التقييدية ضد تايوان.
وحفزت العقوبات الصينية ضد تايوان –أحد اللاعبين الرئيسيين في سوق أشباه الموصلات- المخاوف العالمية من تفاقم أزمة الرقائق التي يشهدها العالم منذ العام الماضي. وفي هذا الإطار، يستهدف هذا المقال تفسير تلك المخاوف من حيث أهمية تايوان بالنسبة للاقتصاد العالمي وانعكاسات العقوبات الصينية من الزاوية الاقتصادية.
ما أهمية تايوان في نظر العالم؟
تنتمي تايوان إلى مجموعة تسمى النمور الآسيوية الأربعة، إلى جانب كوريا الجنوبية وسنغافورة وهونغ كونغ. وفي عام 2020، استطاعت تايوان أن تكون النمر الآسيوي الوحيد الذي يسجل نموًا إيجابيًا في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3.1% لتحتل المرتبة الأولى في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، لتصبح تلك المرة الأولى التي ينمو فيها الاقتصاد التايواني بوتيرة أسرع مقارنة بنظيره الصيني منذ ثلاثين عامًا، ليسجل عقب ذلك نموًا قدره 6.3% خلال عام 2021.
• لمحة عن الاقتصاد التايواني: يحتل اقتصاد تايوان المرتبة 22 عالميًا من حيث الناتج المحلي الإجمالي الاسمي، والمركز الخامس عشر بين أكبر مصدري السلع في العالم والمركز الثامن عشر بين أكبر مستوري السلع وذلك حتى عام 2020. ويُمكن استعراض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي التايواني على النحو الآتي:
وتأتي المكانة الحيوية للاقتصاد التايواني انطلاقًا من كون البلاد لاعبًا رئيسيًا في صناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وأشباه الموصلات والرقائق في العالم، حيث أظهرت أحدث التوقعات أن الشركات المصنعة للرقائق في تايوان سوف تستحوذ على 66% من الحصة السوقية العالمية لتلك الصناعة هذا العام بدعم من ارتفاع الإيرادات، حيث سترتفع حصة شركة “تي إس إم سي” -أكبر شركة لتصنيع الرقائق في العالم- بنسبة 3% إلى 56%.
ووفقًا لآخر تقديرات لصندوق النقد الدولي، سجل الدين العام نحو 27.2% من الناتج المحلي الإجمالي حتى عام 2021، لتشير التوقعات إلى احتمالية انخفاضه إلى حوالي 22.8% و18.2% بحلول عامي 2022 و2023 على الترتيب.
وبالعودة إلى التجارة الخارجية، فإنها تعتبر محرك النمو الأساسي للاقتصاد التايواني خلال الأربعين عامًا الماضية، كما أنها تمتلك مستوى عاليًا من الانفتاح التجاري لدرجة تجعلها أكثر انكشافًا على العالم الخارجي، حيث تمثل التجارة الدولية نحو 62% من الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة التي تتراوح بين 2015 حتى عام 2018. ويُمكن الاستعانة بالشكل الآتي للوقوف على تطور الأداء التجاري لتايوان:
Source: World Trade Organization (WTO); latest available data.
يتبين من الرسم أعلاه أن صادرات تايوان السلعية تتجاوز قيمة وارداتها منذ عام 2016 حتى عام 2020 لتبلغ الأولى نحو 347.193 مليار دولار، وتسجل الثانية حوالي 288.053 مليار دولار، وتشمل أهم صادراتها السلعية المعدات الكهربائية، والآلات وصادرات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.
• أهمية تايوان بالنسبة للصين: تعتبر تايوان من أكبر المستثمرين في ثاني أكبر اقتصاد بالعالم، كما تُعد الصين أكبر شريك تجاري لتايوان، وبين عامي 1991 ونهاية مايو 2021، بلغت استثمارات تايوان المعتمدة في الصين نحو 193.51 مليار دولار في إجمالي 44577 مشروعًا صينيًا. وإلى جانب الاستثمار، تعتبر الصين أكبر شريك تجاري لتايوان، حيث بلغت صادرات تايبيه لبكين نحو 62.05 مليار دولار عام 2021، وهو ما يمثل نحو 13.9% من إجمالي الصادرات التايوانية، وتتضمن أكثر من نصف تلك الصادرات من المكونات الإلكترونية تليها المعدات البصرية، في حين سجلت وارداتها حوالي 44.53 مليار دولار، بما يشكل حوالي 11.6% من مجمل الواردات. ويُبين الشكل أدناه أبرز الشركاء التجاريين لتايوان خلال عام 2021:
Source: Ministry of Economic Affairs، Taiwan.
وتعد الرقائق الإلكترونية من العناصر المحورية في العلاقات التجارية بين تايوان والصين، حيث تستورد الأولى المعادن النادرة من الأخيرة لتصنع الرقائق وتعيد تصديرها مرة أخرى إلى الأخيرة، حيث تحتكر بكين نحو 38% من احتياطي المعادن النادرة عالميًا خاصة السيليكون والجاليوم بإجمالي يبلغ 44 مليون طن، يليها فيتنام بنسبة 19%، والبرازيل بحوالي 18.1%، ومن ثم روسيا والهند بحوالي 10.4% و6% على الترتيب، كما يتبين من الرسم الآتي:
Source: Visual Capitalist، Rare Earth Elements: Where in the World Are They?
وتزايدت أهمية تايوان بالنسبة للصين مع انتشار جائحة كورونا والتي أسفرت عن ارتفاع الطلب على أشباه الموصلات لتلبية تزايد الإقبال على المنتجات الاستهلاكية الإلكترونية في ظل حالات الإغلاق والإجراءات الاحترازية التي دفعت المواطنين نحو التعلم عن بُعد والعمل من المنزل.
ارتدادات ضاغطة
استجابة لزيارة “بيلوسي” لتايوان، قرر ثاني أكبر اقتصاد في العالم تعليق واردات 2000 منتج غذائي ضمن 35 فئة من بينها الأسماك والمأكولات البحرية وزيوت الطعام من تايوان، بالإضافة إلى حظر توريد الرمال الطبيعية إلى تايوان، ورغم عدم اتجاه الصين لفرض عقوبات على قطاع أشباه الموصلات الحيوي إلا أن هناك بعض التداعيات السلبية لتلك العقوبات المفروضة من قبلها على الصين، والتي يُمكن عرضها على النحو الآتي:
• تفاقم أزمة الرقائق: تنبثق خطورة توتر العلاقات بين تايوان والصين من أهمية الأولى في سوق الرقائق العالمية، حيث تُعد تايوان أكبر مصنع لرقائق أشباه الموصلات في العالم التي ينظر إليها كأحد أهم المكونات في صنع الهواتف الذكية وأجهزة الحاسب الآلي والسيارات والأجهزة المنزلية. وعلاوة على ذلك تعتبر شركة “تي إس إم سي” من المؤسسات النادرة التي تمتلك المعرفة التكنولوجية لتصنيع أصغر الشرائح وأكثرها تقدمًا، وتستحوذ تلك الشركة وحدها على أكثر من نصف السوق، كما يُبين الشكل الآتي:
Source: Visual Capitalist.
وانطلاقًا من تلك الأهمية، حذر “تشاو هايجون”، المدير التنفيذي لأكبر شركة مصنعة لأشباه الموصلات في الصين “إس إم آي سي”، من تأثير التوتر الجيوسياسي المتصاعد والتضخم المرتفع على صناعة الرقائق، خاصة في ظل تقييد صادرات الرمال الطبيعية التي تُعد أحد المكونات الرئيسية لصناعة الرقائق وأشباه الموصلات حيث استوردت تايوان نحو 5.7 ملايين طن متري من الرمل والحصى في عام 2020، يأتي أكثر من 90% منها من الصين.
ولهذا، فإن أي تهديد لصناعة أشباه الموصلات في تايوان من شأنه الإضرار بصناعة الإلكترونيات حول العالم، فعلى سبيل المثال، استوردت بكين نحو 40% من احتياجاتها من الرقائق من تايوان، كما تعتمد كبرى الشركات التكنولوجية العالمية على إمدادات الرقائق الواردة من تايوان مثل “آبل” و”جوجل” و”كوالكوم” و”إن فيديا”.
• خطوات دولية: لطالما أدركت القوى الاقتصادية الكبرى خطورة سيطرة تايوان على صناعة أشباه الموصلات، واستحواذ الصين على المعادن النادرة المستخدمة في إنتاج الرقائق، ولهذا حاولت تلك القوى تنويع سلاسل تصنيع وتوريد أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية. وعلى هذا الأساس، وافق مجلس الشيوخ الأميركي على مشروع قانون بقيمة 280 مليار دولار بهدف تعزيز صناعة أشباه الموصلات الضرورية للتكنولوجيا الحديثة، فيما يخصص قانون الرقائق والعلوم لعام 2022 نحو 52.7 مليار دولار للمساعدة المالية المباشرة لبناء وتوسيع منشآت تصنيع أشباه الموصلات. أما عن الاتحاد الأوروبي، فقد قدمت المفوضية الأوروبية في فبراير الماضي مقترحًا لدعم صناعة الرقائق الأوروبية مشيرة إلى قلقها تجاه تواجد أربع شركات فقط من بين أكبر 35 شركة في العالم لأشباه الموصلات في أوروبا، وتتمحور الخطة حول تخصيص نحو 11 مليار يورو من الاستثمارات العامة من الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء لمبادرة الرقائق لأوروبا حتى عام 2030.
• الإضرار بالاقتصاد التايواني في الأمد الطويل: تعتبر الصين وجهة التصدير الأولى لمنتجات تايوان، حيث تستوعب الصين وهونج كونج حوالي 50% من صادرات تايوان مما يجعلها مصدرًا هامًا للنقد الأجنبي، ورغم ذلك إلا أن إجمالي المنتجات التي تم حظرها من الجزيرة لا تمثل سوى نسبة ضئيلة للغاية من حجم التبادل التجاري بين البلدين. وبناء على ذلك، قلل الخبراء من تأثير تلك العقوبات على الاقتصاد التايواني. وقد تعتبر وجهة النظر تلك صحيحة في حالة عدم فرض عقوبات اقتصادية جديدة على واردات تايوان، حيث إنه من الممكن أن توجه الصين المزيد من العقوبات واسعة النطاق على المنتجات التايوانية في الأمد الطويل مما قد ما يخلق أزمة كبيرة للمزارعين والمصنعين في البلاد.
في الختام، لا يُمكن التقليل من أهمية العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الصين على تايوان التي اعتبرها البعض “رمزية” حتى مع ضعف تأثيرها في الوقت الراهن، حيث لا يُمكن استبعاد سيناريو توسيع نطاق تلك العقوبات في حالة تصاعد الصراع الجيوسياسي بين الدولتين.