سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
عمار علي حسن
لم تهبط الجماعات والتنظيمات، التي توظف الإسلام في تحصيل السلطة السياسية، على اختلاف تطرفها أو تشددها من السماء، ولم تخرج من جوف الأرض، إنما نبتت في رحم المجتمع ورحابه، ففيه وُلد أعضاؤها، ومع الموجودين، صغاراً وكباراً، اختلطوا وتفاعلوا بدرجاتٍ متفاوتة، وإليه يوجهون خطابهم، ويستهدفون أهله تجنيداً وربطاً بعضويةٍ دائمة، أو لجلب التعاطف، وتهيئة المجال العام لتقبل مشروع هذه الجماعات، حتى يكون الناس سنداً وظهيراً لها في الوصول إلى السلطة، وإن اختلفت السبل، وتنوعت الأساليب، وتبدلت الظروف.
من أجل هذا تكون قضية “التماثل والتمايز” ذات أهمية وشأن ودلالة في تحليل علاقة هذه التنظيمات بالمجتمع كله، أي الجمهور الذي يقع خارج مجموعاتهم وتجمعاتهم المُحكمة، السري منها والعلني. وتنبع هذه الأهمية من أن “المسافة” بين الجماعات الدينية السياسية، وبقية أفراد المجتمع، وكذلك “المساحة” التي يستحوذون عليها من المجال العام، هي التي تبيِّن عدة أشياء ترتبط بوضعها الحالي، ومآلها في المستقبل المنظور، وربما البعيد.
وقبل ذكرها، لا بد ابتداء من تأكيد أن هذه القضية محسومة في التجلي الأول للإسلام، أو ما يمكن أن نسميه “الطريق المستقيم” أو “صحيح الدين” أو “جوهره” أو “قيمه المركزية” الذي يتكئ بالأساس على ظاهر النص القرآني وباطنه، وما وافقه من سنة النبي عليه الصلاة والسلام. فالإسلام يدعو المسلم إلى الاندماج والتفاعل الخلاق مع سائر المسلمين، وغير المسلمين، في مساحات شاسعة من العفو والعذر والتعاون على البر والتقوى، ومواجهة الإثم والعدوان، وإغاثة اللهفان، وإدخال السرور على النفوس والقلوب.
لكن على مستوى الممارسة أو الفعل، نجد أن هناك عدة مسائل تحدد التماثل، أي الاندماج في البنية المجتمعية بمظهرها وجوهرها، والتمايز، أي صناعة مجتمع خاص مغلق في ركاب المجتمع العريض. يمكن ذكر هذه المسائل على النحو التالي:
1 ـ الفكرة: هناك فارق بين أفكار أو خلفيات نظرية تصنعها بعض تصورات الفقه وتأويل النص الديني وتفسيره، ترى ضرورة الاندماج من المختلفين، وتدعو إلى التماس “العذر” لهم واستيعابهم، وتلك التي تستبعدهم، ولا تقدم لهم عذراً بل تحاسبهم وتنبذهم باسم “الجاهلية” أو “موالاة للظالمين”، وتطلق في وجههم مسألة “التترس” التي تعني تبرير قتل الأبرياء من المجتمع العام، إن وقعوا في مرمى نيران التنظيمات الإرهابية، وهي تستهدف من تراهم أعداءها أو خصومها المباشرين.
وكلما اقتربنا من التنظيمات التي تمثل “السلفية الجهادية” كنا ندنو من “التمايز” والعكس صحيح، فهناك جماعات صاحبة مشروع سياسي طويل المدى تدرك أنها لن تحقق هدفها إلا باستمالة الناس، والتحايل عليهم، والاقتراب منهم، خاصة أن كانت تعتمد على “آلية الانتخابات” سواء كانت تجري على المستوى القاعدي المتمثل في قوى المجتمع المدني، ومؤسساته من نقابات وجمعيات، أو المستوى الأعلى المرتبط بالبرلمان والحكومة.
2 ـ طبيعة التنظيم: فالتنظيمات السرية، التي تتخذ العنف وسيلة للتأثير والتغيير، لا يشغلها التماثل الطبيعي مع المجتمع إلا من قبيل مراوغة أجهزة الأمن وتضليلها، فهي في حقيقتها تنزع إلى الانعزال والانكفاء والتقوقع بغية حماية نفسها من اكتشاف أمرها وملاحقتها. على النقيض من هذا، تقوم الجماعات التي تعمل في العلن بالتقرب من الناس والتودد إليهم، سواء بدافع القيام بشروط “الدعوة” أو خداعهم ليكون لها ظهيرٌ اجتماعيٌّ وسياسيٌّ. وهناك الجماعات التي تجمع بين السري والعلني، فتجعل المنضوين تحت المسار الأول في تمايز، والبقية في تماثل، وكل هذا يتم بالطبع بشكل ممنهج.
3 ـ وسيلة التمكين: فإذا كان هدف التنظيم المتطرف أو الإرهابي هو الوصول إلى السلطة، عبر استخدام القوة المسلحة، فلا يعنيه هنا بالطبع أن يندمج عميقاً مع أي أطراف اجتماعية، إلا على سبيل تجنيد بعض العناصر ودمجها في تنظيم محكم بعد أن تمر بفترة اختبار ما. أما إذا كانت وسيلة الوصول إلى هذا الهدف هو اللجوء إلى القواعد العريضة كي تقرر مصير هذه التنظيمات عبر الانتخابات أو الاقتراع، فإن الأمر سيكون بالطبع مختلفاً إلى حد كبير.
4 ـ السياق القائم: فالظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها الدولة تحدد مدى اختيار الجماعات والتنظيمات الإسلامية المسيسة لمسار التمدد في أعطاف المجتمع أو تلجأ إلى الانكماش. فوجود تعددية سياسية من عدمه، وحدوث قبول اجتماعي أو نفور، وتوافر قدرات مادية للجماعة أو التنظيم أو عوزه، تقرر إلى حد بالغ مدى اختياره لأي من هذين المسارين.
5 ـ موقف الآخرين: فالمجتمع نفسه بقواه الفاعلة، ولأسبابٍ متعددة، قد يكون مهيئاً لجذب هذه التنظيمات إلى مساحاتٍ واسعة من التماثل أو يضغط عليها ويضطرها في اتجاه التمايز الإجباري. وقد تأثرت المجتمعات في هذا بسلوك التنظيمات الدينية السياسية ذاتها، وما إذا كانت شديدة العنف أو معتدلة نسبياً، وكذلك الدعاية الإعلامية المضادة لها، وموقف السلطة الحاكمة منها، وعلاقة الناس بهذه السلطة.. الخ.
وعبر التاريخ مارست جماعات معينة نوعاً من العزلة عن المجتمع القائم، سواء بالجسد أو بالمشاعر. فقرأنا عن ثقافة “الجيتو” التي لم تقتصر على اليهود في أوروبا خلال القرون الوسطى، بل امتدت إلى ديانات أخرى، فوجدنا جماعة “الأميش” في الولايات المتحدة الأمريكية التي ترفض المجتمع الحديث والمعاصر، حيث تعتبرها خروجاً على جوهر المسيحية، ولذا تسعى إلى العيش في الغابة التي ترى فيها عودة إلى الطبيعة، ووجدنا كذلك ما تسمى “جماعة المسلمين” التي أطلق عليها أمنياً وإعلامياً في مصر “التكفير والهجرة”، حيث دعا مؤسسها شكري مصطفى أنصاره إلى اعتزال المجتمع المصري تماماً، بزعم أنه كافر، وتكوين نواة اجتماعية من أنصاره في منطقةٍ نائية حتى يشتد عودهم، وتقوى شوكتهم، ويهجموا على السلطة والمجتمع كله لإخضاعه لأفكارهم، بدعوى أنه هذا هو “الفتح المبين”.
وهناك من حاول أن يمسك العصا من المنتصف في هذه المسألة، فأقر التماثل جسداً والتمايز روحاً أو شعوراً. ففكرة “العزلة الشعورية” التي نادى بها سيد قطب، وهو من أهم المنظرين في تاريخ “جماعة الإخوان المسلمين” و”السلفية الجهادية”، تقوم على أن يخالط عضو الجماعة كل من حوله جسداً، يحاورهم ويناورهم ويداورهم ويشاطرهم الغنم والغرم ويبش في وجوههم، لكنه يحرص على أن تبقى مشاعره مجافية لهم، قانطة منهم، غير راضية عما يعتقدون فيه ويفعلونه، لأنهم في نظره يعيشون في “جاهلية جديدة”. واعتبر قطب، ومن آمنوا بأفكاره، أن مثل هذا “الانفصال” ضروري كي تبقى نفس”الإخواني” مخلصة للجماعة وتصوراتها، التي يزعم أنها تمثل الإسلام الحقيقي، كما كان سائداً أيام الصحابة الأوائل.
وقضية التماثل والتمايز ترتبط في مجملها بمسارين أساسيين عند هذه الجماعات؛ هما:
أ ـ الدعوة: وهي المقصد الأسمى من “النبوة”، ومن أجل هذا تعمل بعض الجماعات التي ليس لها مشروع سياسي، ويفرض عليها ذلك أن تتفاعل بقوة مع الآخرين، لأنهم الجمهور الذي تقوم فيه الدعوة أو البلاغ، وإليه يسعى الدعاة في سبيل هداية من يتعرضون للخطاب الدعوى، من خلال استمالتهم وجذبهم بعد إقناعهم بمضمون “الدعوة” ذاتها.
ويجب في هذا المضمار، ومنعاً لأي لبس، أن نبين ما تقتضيه دعوات الانعزال الإيجابي التي يقوم بها، ويدعو لها، متصوفة ورهبان، فهؤلاء وإن تمايزوا عن سائر الناس، فإن هذا ليس استعلاء منهم، ولا غبناً ولا كفراً بالمجتمع، إنما بحثاً عن مكان تحقق فيه الروح صفاءها وتساميها، حتى تصل إلى خالص المحبة للناس، والتسامح معهم، وقبولهم على حالهم، وتمنى الخير لهم، وفي هذا تماثل من نوع آخر، أن لم يكن بالتجاور والاحتكاك الجسدي، فإنه بفيض المشاعر الدينية الإيجابية حيال الآخرين.
ب ـ السلطة: وهي مسألة وثيقة الصلة بالتمايز والتماثل، سواء من حيث الوصول إليها، أو الاستقرار والاستمرار فيها. فالحكم لا يدور في فراغ، إنما هو توسيد بعض الناس على سائرهم، ولا يمكن لمن جلسوا فوق كراسي الحكم أن يقاطعوا من يحكمونهم. كما أن وصول شخص أو أشخاص إلى السلطة حتى في النظم الملكية لا يكون إلا بمعية الناس.
وطوال تاريخ المسلمين كانت هذه القضية مطروحة، وإن كانت بطرقٍ مغايرة، تغطس وتطفو، وتخبو وتزدهي، وفق المسار الذي تأخذه علاقة الإسلام بالسياسة في بنيتها العليا المتعلقة بوجود السلطة السياسية، وتصوراتها وانحيازاتها ورغباتها وتصرفاتها. ففي الصراع المرير على الحكم ظهرت جماعات باطنية تؤمن بـ”التقية”، فمارست نوعاً من العزلة الشعورية، وفي المقابل ظهرت جماعات متطرفة تؤمن بالوصول إلى السلطة عنوة، فكان عليها أن تتمايز عن المجتمع، ولو قليلاً، حتى تضمن سرية عملها، ومن ثم سلامة أفرادها حتى يكملوا مهمتهم العنيفة.
وفي الزمن المعاصر، ومع التحديث السياسي النسبي، لم تخلُ الساحة الاجتماعية والسياسية في أي وقتٍ من أولئك الذين حاولوا جذب الجماعات الدينية السياسية إلى “التماثل”، سواء دعوا إلى ذلك تعبيراً، أو قاموا به تدبيراً من خلال القوانين والإجراءات السياسية.
وبعض هذه الجماعات تستجيب أحيانًا لهذا الدعوة، وتتماهى في أعطاف المجتمع وترتيبات السياسة، وبعضها يرفض رفضاً قاطعاً، كما يتضح أحياناً أن بعض من قبلوا بالدمج لم يفعلوا ذلك إلا على سبيل “التكتيك” دون أن يتخلوا عن أفكارهم التي تؤمن بالتمايز، سواء كان نابعاً من شعور زائف بالاصطفاء، أو هو صنيعة نهمٍ إلى مزيدٍ من القوة تحكمه قوانين صراع “الإسلام السياسي” على السلطة السياسية والثروة والمكانة.
وأعتقد أن هذه القضية ستظل تفرض نفسها على جدول أعمال الحركة الإسلامية السياسية، سواء من يميل منها إلى حمل السلاح تحت لافتة “الجهاد” بغية تحصل التغيير بالقوة الظاهرة القاهرة، أو كان هذا يتم عبر إحضار الجمهور إلى المشهد من خلال الاحتجاج المتراوح بين التظاهر والثورة، أو بطريقةٍ أخرى، وهي الانتخابات.
ويمكن أن تقود التجربة بعض التنظيمات التي ستظهر مستقبلاً، في ظلِّ توالد وانشطار الإسلام السياسي بلا توقف كعادته، إلى التخلي تدريجياً عن فكرة التمايز لحساب التماثل، لاسيما مع ما وفرته ثورة الاتصال من إمكانياتٍ هائلة للتحاور والتفاعل في العالم الافتراضي، والعمل على احتمال نقله إلى دنيا الواقع، وهي مسألة لم يكن متاحة من قبل، حيث كانت قيادات بعض التنظيمات تستطيع أن تقيم سوراً حديدياً بين المنضوين تحت لوائها، فيعيشون في عزلة عن سائر الناس.
لا يعني هذا اختفاء هذه المسألة في المستقبل المنظور، لاسيما في ظلِّ ربط أفكار بعض الجماعات والتنظيمات بتصور “الاصطفاء” أو “استعلاء الإيمان” أو “العصبة المؤمنة” أو “جماعة المسلمين” أو “الفرقة الناجية” وهي مفاهيم ومصطلحات راسخة لديها، وتؤدي في الاقتناع بها، والعمل تطبيقها، إلى صناعة “التمايز” على حساب “التماثل”، الأمر الذي يجعل تيار “الإسلام السياسي” يمثل معضلة اجتماعية وسياسية، طالما أن من يتحكمون في قراره ينظرون من عَلٍ إلى الآخرين، خارج جماعاتهم وتنظيماتهم، على تنوعها وتدرجها، على الخط البياني للتطرف والاعتدال.
لقد تم إطلاق موجاتٍ متلاحقة من فرق الرفض والخروج على السلطة، وأحياناً الغبن من المجتمع. وكان لهذه الحركات قدرة على التشرنق لحماية نفسها، والتحايل عبر التقية والصبر الطويل على ظروفٍ قاهرة فرضتها السلطة السياسية أو الاجتماعية، ثم اللجوء إلى النزال “المسلح” إذا دعَت الضرورة، أو استشعرت الجماعة أن ساعدها قد اشتد، أو آمنت بأن هذا وحده هو طريق التغيير، أو اعتقدت في أن استخدام القوة المادية العنيفة هو المسار الذي يحبذه الشرع.
المصدر: كيو بوست
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر