لنتائج الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي جرت الأحد الماضي، أبعاد استراتيجية كبيرة داخل القارة الأوروبية وعلى المستوى الدولي بشكل عام، فعودة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الإليزيه لخمس سنوات جديدة، أنقذت سياق الاستقرار الأوروبي من خلط واسع للأوراق كان سيحصل لو وصلت زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان إلى سدّة الحكم.
تنفّس كبار القادة الأوروبيين الصعداء، بعد إعلان النتائج، لاسيما منهم مستشار ألمانيا أولاف شولتز، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون، ورئيس وزراء إسبانيا بيدرو سانشيز، وهؤلاء كانوا قد عبّروا عن تأييدهم لماكرون قبل الانتخابات، في تدخل غير مسبوق في شؤون داخلية فرنسية، لأنهم خافوا من تمدّد فوز اليمين المتطرف إلى البلدان الأوروبية، في ما لو فازت لوبان، ولكونهم اتفقوا مع ماكرون على التأسيس لمقاربات أوروبية جديدة، ترتكز على تحويل الاتحاد إلى قوة استراتيجية دفاعية كبرى، إضافة إلى كونه قوة مالية واقتصادية وازنة.
تمايز سياسة ماكرون عن الولايات المتحدة وبريطانيا في ما يتعلَّق بالحرب الأوكرانية كان واضحاً، لكنه لم يصل إلى حد الخلاف معهما، وقد تناغم هذا الموقف مع المستشار الألماني شولتز وغيره من قادة الاتحاد، وهؤلاء يرون أن الاتحاد الأوروبي هو الذي يدفع فاتورة الحرب أكثر من غيره، بينما القرار الاستراتيجي في التعامل مع روسيا يملكه مَن هم خارج الاتحاد. وماكرون بدأ يؤسس مع أقرانه في الاتحاد لمنظومة أمن أوروبية خاصة، مستقلة عن الهيكلية الإدارية لحلف شمال الأطلسي، أو متكاملة مع هذه الهيكلية إذا ما قبلت الولايات المتحدة إعطاءها هذا الهامش.
فوز ماكرون سيحافظ على سياق التباين الدولي بين قادة الغرب حول بعض الملفات الإقليمية المهمة، وحول السياسة المعتمدة في مجال الطاقة؛ ذلك أن تعارضاً واضحاً يحكم مصالح الشركاء في هذا المجال. فأوروبا لا يناسبها الاستغناء عن النفط والغاز الروسيين، نظراً لانخفاض تكلفة وصوله إلى القارة بعد الاستثمارات الكبيرة التي وضعت في تمديد أنابيب النقل، خصوصاً خطي «نورث ستريم – 1» و«نورث ستريم – 2»، ومصالح أوروبا في بعض المناطق الإقليمية الساخنة في العالم تتعارض مع المصالح الأمريكية، لاسيما في الشرق الأوسط وفي جنوب شرق آسيا وفي العلاقة مع الصين.
الحرب الروسية على أوكرانيا هددت الأمن الأوروبي في الصميم، لكنها دفعت أوروبا أكثر إلى الحضن الأمريكي، وفي ذلك ضرر مستقبلي على التوجهات الاستقلالية الأوروبية.
فاز ماكرون وأنقذ الاعتدال الأوروبي، ولكنه خسر قياساً للحسابات الرقمية. ففي سباق عام 2017 حصل على 66% من الأصوات، ونالت لوبان 34%، بينما في الانتخابات الحالية تقلّص منسوب الفارق بينهما إلى 16 نقطة، فتراجع ماكرون وحصل على 58% من أصوات الناخبين فقط، وتقدمت لوبان وحصدت نسبة 42% من أصوات المقترعين. وإذا ما أخذنا في الاعتبار زيادة نسبة الممتنعين عن التصويت والتي وصلت إلى ما يقارب 29% من الناخبين، يتبين لنا بوضوح، مدى الخطورة التي قد تحملها هذه المؤشرات على المستقبل. وبالتالي فإن حفاظ الاعتدال الأوروبي على مكانته في الحكم أصبح مهدداً، وقد تحمل الدورات الانتخابية القادمة مفاجآت غير منتظرة، لصالح المتطرفين من اليمين أو من اليسار.
واليسار الفرنسي المتشدِّد برز بقوة في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية، وقد نال ممثله جان لوك ميليشون ما يزيد على 7 ملايين صوت، وهو ما يؤهله للعب دور مهم في الانتخابات التشريعية الفرنسية في شهر حزيران/يونيو القادم، بينما تقول مارين لوبان إنها ستعمل بكل جدية، للحصول على كتلة برلمانية وازنة في الانتخابات التشريعية، وذلك يعني أن هزيمتها الرئاسية لا تعني هزيمة سياسية للتوجهات الراديكالية لليمين المتطرف.
إشارة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون إلى أن «فوز ماكرون هو فوز للاتحاد الأوروبي»، تحمل معاني كثيرة، وقد يكون جزء من مقاصده، تبديد الخوف الذي كان يعتريه من فوز مارين لوبان على مستقبل هذا الاتحاد وتماسكه؛ لأن التعايش بين دول أوروبية متباعدة التوجهات الأيديولوجية، فيه صعوبات كبيرة، وانتصار التطرف قد يقود إلى محاولات انفصالية جديدة تقلِّد التجربة البريطانية، وتهدد مستقبل الوحدة.