سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
السيد صدقي عابدين
قام رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا بزيارة رسمية إلى الهند يومي التاسع عشر والعشرين من شهر مارس الحالي (2022)، عقد خلالها قمة مع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي.
تمخض عن القمة بيان تناول قضايا كثيرة تحت بندين اثنين: الأول ركز على منطقة المحيطين الهندي والهادي. والثاني تحدث عن الشراكة من أجل النمو العالمي المستدام بعد جائحة كوفيد- 19. من بين 23 فقرة في بيان القمة ورد الحديث عن المسألة الأوكرانية في فقرة واحدة قوامها تسعة أسطر. فما الذي تضمنته تلك الأسطر؟ وما هي دلالات ذلك المضمون؟
الصراع المتواصل والأزمة الإنسانية في أوكرانيا، وتداعياتها الواسعة، خاصة في منظقة المحيطين الهندي والهادي قضايا عبّر الجانبان عن اهتمامهما الجاد بها، ومن ثم عرجا على قضايا عامة ذات علاقة بالمسألة الأوكرانية تتمثل في التأكيد على أن النظام العالمي القائم على ميثاق الأمم المتحدة، والقانون الدولي، واحترام سيادة ووحدة أراضي الدول. وأهمية المحافظة على أمن وسلامة المنشآت النووية في أوكرانيا، ودعم جهود الوكالة الدولية للطاقة الذرية في هذا السياق، والدعوة إلى الوقف الفوري للعنف، وأنه لا يوجد بديل عن طريق الحوار والدبلوماسية من أجل حل الصراع، وأنهما سوف يتخذان الخطوات اللازمة من أجل التعامل مع الأزمة الإنسانية في أوكرانيا.
يلاحظ على هذا المضمون أنه عبارة عن مبادئ عامة تتعلق ببعض جوانب ما يجري على أرض أوكرانيا على خلفية العملية العسكرية الروسية. لا تتضمن تلك المبادئ العامة أي توصيف قد يحمل دلالات بعينها تجاه ما يجري، فالمصطلحات منتقاة لكي تكون محايدة تماماً عند الحديث عما يجري، وباقي الأمور مستقرة ولا خلاف عليها بما في ذلك الجانب الإنساني. وفي الوقت الذي ذُكرت أوكرانيا ثلاث مرات في هذا السياق العام لم تذكر روسيا إطلاقاً ضمن البيان الهندي-الياباني، مع أنها الطرف الثاني فيما سمي صراع متواصل، وهي القائمة بالعملية العسكرية. هذا المضمون هو أقرب ما يكون من الموقف الهندي من المسألة الأوكرانية وأبعد ما يكون من الموقف الياباني.
على الرغم من ضآلة ما تضمنه بيان القمة حول أوكرانيا، ونوعية هذا المضمون، إلا أن معظم الأسئلة التي وجهت لوزير الخارجية الهندي عند الحديث عن القمة كانت حول هذا الموضوع، مما اضطر المتحدث باسم الوزارة والذي كان يدير الحوار إلى الطلب من الصحفيين التركيز على موضوع العلاقات الهندية-اليابانية بعد جولة الأسئلة الأولى. ومع ذلك فإن السؤالين اللذين وجها للوزير في الجولة الثانية كانا حول موضوع أوكرانيا أيضاً.
رئيس الوزراء الهندي في تعليقاته الصحفية وفي ما هو منشور من كلمات له في اجتماعات على هامش القمة لم يأت بشكل مباشر على أي ذكر للمسألة الأوكرانية. وهذا ما ذكره أحد الصحفيين، الذي تساءل عن طبيعة الحوار الذي دار بين الجانبين حول أوكرانيا، وطلب تفسيراً لما يقال حول المسعى الهندي للحصول على النفظ بأسعار مخفضة من روسيا في ظل هذه الظروف، وكيف أنها بسلوكها تجاه ما يجري في أوكرانيا باتت على خلاف واضح مع مواقف الأطراف الثلاثة الأخرى في تجمع “كواد” الذي يضم إلى جانبها كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية واليابان واستراليا. بينما تساءل آخر عن نطاق الاتفاق بين الهند واليابان حول أوكرانيا، وتساءل ثالث عما يجعل الهند تتخذ الموقف الذي وصفه بـ”المحايد”، وكانت هناك أسئلة حول ما إذا كان قد طلب من الهند أمر معين بخصوص العقوبات المفروضة على روسيا والتي تشارك فيها اليابان بقوة، وجدوى الحوار والدبلوماسية.
إجابات المسئول الهندي بطبيعة الحال لم تخرج عما تضمنه بيان القمة، والذي هو في سياق الموقف الهندي الواضح منذ البداية، والذي لم يتغير رغم ما قد يقدم من طلبات أو يمارس من ضغوط من قبل قوى أخرى لا ترتضي هذا الموقف الهندي. اليابان إذن لم تنجح في زحزحة الهند عن موقفها، والأخيرة على الأغلب لم تسع لتغيير الموقف الياباني.
عوامل أربعة يمكن أن تساعد في تفسير تهميش المسألة الأوكرانية في القمة الهندية-اليابانية يتعلق أولها بالإدراكات، وثانيها بالأولويات، وثالثها بالمصالح، ورابعها بالمواقف.
أما عن الإدراكات، فإنها ترتبط بتوصيف ما يحدث في أوكرانيا. إذ تتحدث اليابان عن عدوان وغزو روسي ضد أوكرانيا يمثل انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي، ومحاولة من جانب واحد لتغيير الوضع القائم بالقوة، وأن هذا غير مقبول نهائياً على حد قول رئيس الوزراء الياباني لوسائل الإعلام الهندية، مؤكداً وقوف بلاده بشكل كامل ضد ذلك. أما الهند فعندما توصف ما يحدث في أوكرانيا تستخدم مصطلحات من قبيل الموقف في أوكرانيا آخذ في التدهور، وأن على الجميع الالتزام بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة واحترام القانون الدولي وسيادة الدول ووحدة أراضيها، وأهمية التسوية السلمية للمنازعات، التي لا بديل عنها، وأن الموقف الإنساني في أوكرانيا يقتضي جهوداً كبيرة من المجتمع الدولي لضمان وصول المساعدات إلى الأوكرانيين، سواء داخل أوكرانيا أو خارجها مع أهمية فتح الممرات الإنسانية. وكذلك الاهتمام بأمن وسلامة المواطنين الأجانب بما فيهم الهنود الذين كانوا يعيشون في أوكرانيا. ويشار هنا إلى أن عدد المواطنين الهنود في أوكرانيا كان يزيد على عشرين ألفاً وأن أحدهم قد قتل في مدينة كاركييف.
يلاحظ هنا أن التوصيف الهندي لما يجري تشابه مع جزء كبير من التوصيف الصيني، وإن كانت الهند لا تذهب إلى ما تذهب إليه الصين على صعيد ما يمكن تسميته بالأسباب الهيكلية التي أوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه. والمقصود هنا تحديداً تحميل الولايات المتحدة وحلف الناتو الجزء الأكبر من المسئولية جراء سياساته التي لم تحترم اعتبارات الأمن الروسي. وطبعاً مفهوم تماماً لماذا يختلف الموقفان الهندي والصيني في هذا المسألة، كما أنه وفي المقابل مفهوم تماماً لماذا يأتي الموقف الياباني متعارضاً تماماً مع الموقف الصيني، وإن كان لا يقترب كثيراً من الموقف الهندي.
التفسير هنا يرتبط بالعنصر الثاني المتعلق بالأولويات. فإذا كان على رأس أولويات اليابان المحافظة على التحالف مع الولايات المتحدة، وتعميق هذا التحالف وتمتينه، ومن ثم الانخراط مع الحليف الياباني في سياساته العالمية، بما في ذلك تلك المتعلقة بكل من روسيا والصين تحديداً، فلا غرو أن يكون الموقف الياباني متماهياً مع الموقف الأمريكي، خاصة وأن العلاقات بين طوكيو وكل من موسكو وبكين ليست على ما يرام، وهناك خلافات تاريخية وسياسية وحدودية كبيرة، فضلاً عن اختلاف التوجهات الاستراتيجية. وفي نفس الوقت، فإن الدفع بالعلاقات مع الهند قدماً بات من أولويات السياسة اليابانية منذ سنوات، وبرضا ومباركة أمريكية، خاصة وأن الولايات المتحدة ذاتها قد انفتحت كثيراً على الهند، والأخيرة بدورها رحبت بهذا الانفتاح.
لكن الانفتاح الهندي على واشنطن، والتقارب مع اليابان وقوى آسيوية آخرى لم يأت على حساب أولوية علاقاتها مع روسيا. فالأخيرة بالنسبة للهند شريك مهم، وبينهما علاقات قديمة، والتعاون في المجال العسكري قديم ومتواصل، والتنسيق السياسي على أعلى المستويات. وفي هذا السياق، تكفي الإشارة إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد زار الهند في بداية شهر ديسمبر من العام 2021. وعلى هامش الزيارة تم توقيع 28 اتفاقية ومذكرة تفاهم. والعلاقات الاقتصادية بين الجانبين في تزايد. ومما يزيد من دلالة تلك الزيارة أن الرئيس الروسي لم يقم بزيارات عمل خارجية على مدار أكثر من عامين منذ بداية جائحة كورونا إلا لدولتين: الأولى كما ذكر كانت للهند، بينما الثانية بعد شهرين تقريباً من زيارته للهند كانت للصين.
وعلى الرغم مما بين الهند والصين من خلافات تصل إلى حد التوتر في بعض الفترات، فإن هناك تنسيقاً متواصلاً بين كلٍ من الجانبين وروسيا، وهناك أكثر من إطار يجمع الأطراف الثلاثة، حيث توجد اجتماعات دورية بين كبار مسئولي الدول الثلاث، كما توجد تجمعات تضمهم مثل تجمع “البريكس”. لم تضح الهند بكل ذلك وهي ترحب بالانخراط أكثر ضمن السياسة الأمريكية تجاه القارة الآسيوية، وتحديداً تجاه منطقتي المحيط الهندي والهادي، حيث تتلاقى الكثير من أبعاد الرؤية الهندية مع التوجهات الأمريكية.
وما كل ذلك إلا لتحقيق أقصى قدر من المصالح، وهذا هو العامل الثالث في تفسير تهميش المسألة الأوكرانية في قمة الطرفين الهندي والياباني الأخيرة. فالهند من مصلحتها عدم تمدد النفوذ الصيني الآخذ في التزايد مع كل ما تحرزه الصين من نقاط على صعيد عناصر بناء القوة الشاملة. ومن ثم فإن ما تقوم به الولايات المتحدة منفردة أو بالتعاون مع نيودلهي وغيرها من العواصم يصب في المصلحة الهندية على هذا الصعيد. في نفس الوقت، فإن مصالحها مع روسيا كثيرة ومتشعبة ومتنامية. ويمكن أن تحقق المزيد على خلفية المسألة الأوكرانية والتفاعلات الدولية بشأنها، في ظل العقوبات الواسعة والقاسية المفروضة على روسبيا، والتي لم تشارك فيها الهند بطبيعة الحال. ومن ثم فنيودلهي حالها كحال بكين يمكن أن تملء فراغات كثيرة ستتركها هذا العقوبات، ويمكن أن تحل شركاتها محل شركات غربية وآسيوية ستترك السوق الروسية إما طواعية تماشياً مع قرارات حكوماتها أو مضظرة تحت ضغط الإجراءات الروسية المضادة للعقوبات التي فرضتها تلك الحكومات عليها. يلاحظ هنا أن واشنطن قد وجهت تحذيرات علنية وواضحة لبكين على هذا الصعيد، بينما لم يحدث الأمر نفسه بالنسبة لنيودلهي.
المصالح اليابانية واضحة تماماً فيما يتعلق بالعلاقات مع واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي، وكذلك فيما يتعلق بمد الجسور أكثر مع الهند، وفي نفس الوقت عدم التسامح مع روسيا، خاصة وأنه يوجد خلاف حول ما تسميه اليابان بالأقاليم الشمالية، والمعروفة باسم جزر الكورييل. لكن الموقف الياباني سيجعلها تخسر كثيراً على صعيد الجوانب الاقتصادية، خاصة بالنسبة لمشاريع وإمدادات النفط والغاز، مما يضطرها للبحث عن بدائل آمنة ومستدامة لتلك المصادر الحيوية.
على ضوء كل ذلك جاءت مواقف كل من الهند واليابان. فالأولى اختارت الامتناع عن التصويت على القرار الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة، بعدما تعثر تمرير قرار مشابه في مجلس الأمن الدولي بعدما استخدمت روسيا حق النقض ضده، وامتنعت الصين عن التصويت عليه. وهنا يتشابه الموقف الهندي مع الموقف الصيني، لكنهما يتباينان في أمور أخرى. من بين ذلك على سبيل المثال علو الصوت الصيني في معارضة فرض العقوبات على روسيا، انطلاقاً من مبدأ معارضة العقوبات الأحادية، والتي طالت الصين كثيراً من قبل. بينما الهند لم تأت على ذكر مسألة العقوبات لا بالتأييد ولا بالرفض. أما اليابان فإنها بطبيعة الحال كانت في صف القرار الذي أصدرته الجمعية العامة، وفرضت عقوبات واسعة على روسيا، منها ما يتعلق بجوانب مالية، ومنها ما يتعلق بالتجارة، ومنها ما يتعلق بالتأشيرات. ولم تقف الإجراءات اليابانية عند روسيا، وإنما امتدت لتشمل كلاً من جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك اللتين اعترفت بهما روسيا، وكذلك بيلاروس التي تقف بجوار روسيا، وكانت ضمن خمس دول صوتت ضد قرار الجمعية العامة بما فيها روسيا.
وفي المقابل، في الوقت الذي قدمت فيه الهند مساعدات إنسانية رمزية لأوكرانيا والدول المجاورة على ضوء تدفق اللاجئين، فإن اليابان قد رصدت مائة مليون دولار كمساعدات عاجلة. وكانت مساعداتها لأوكرانيا قد وصلت إلى حوالي ملياري دولار منذ العام 2014، وغير ذلك من المساعدات والتسهيلات.
من الواضح أن هناك اختلافات كثيرة بين كلٍ من الهند واليابان حول المسألة الأوكرانية. وقد اختار الطرفان جعل تلك القضية في أضيق الحدود، وفي إطار المبادئ العامة بما لا يؤثر كثيراً على مجمل العلاقات، وباقي القضايا الكثيرة الموضوعة على جدول أعمال مسئولي البلدين. البرجماتية واضحة جداً في التعامل مع المسألة. ومن الواضح أيضاً أن الهند رغم كل ما طال توجهاتها الخارجية في العقود الثلاثة الأخيرة ما زالت تحتفظ بدرجة عالية من الاستقلالية في اتخاذ القرار فيما يتعلق بشركائها القدامى والجدد. وربما يكون هذا من بين المزايا التي تمكنها من الحصول على أكبر قدر من الفوائد من جميع الأطراف.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر