سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
هارش ف. بانت
وصلت الأزمة الأوكرانية الروسية إلى ذروتها حيث تحولت تهديدات روسيا إلى “غزو واسع النطاق لأوكرانيا”. ففي الوقت الذي صرح فيه الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش”، محذرًا من أن العالم يواجه “لحظة خطر محدق”، بسبب التوتر الأوكراني الروسي، ودعا إلى “ضبط النفس، وإحكام العقل، وتقليص حدة التصعيد”؛ كانت القوات الروسية التي احتشدت على الحدود الأوكرانية منذ عدة أشهر تستعد إلى شن هجوم على أوكرانيا، بعد اعتراف الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” باستقلالية منطقتي دونيتسك ولوغانسك المدعومتين من روسيا واللتين يسيطر عليهما المتمردون، بل وتحدت الحق التاريخي لأوكرانيا في الوجود.
واصل الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” ترحيبه باللجوء “للحوار السياسي المباشر والصادق”، ولكن حرص الرئيس الروسي أثبت عكس ذلك مع كل خطوة يخطوها في سلم التصعيد. بل إن وزارة الخارجية الروسية أشارت إلى أن فكرة تحمل روسيا مسؤولية الأزمة في أوكرانيا هي من اختراع الغرب. على الرغم من ذلك، جاء الغزو الروسي لأوكرانيا على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي، حيث قال “بوتين” إن روسيا لم تخطط لاحتلال أوكرانيا، وطالب جيشها بإلقاء أسلحته. وقام بإطلاق “عملية عسكرية خاصة” تحت ادعاءات أن الحكومة الأوكرانية المنتخبة ديمقراطيًا “كانت مسؤولة عن ثماني سنوات من القتل العرقي والإبادة الجماعية”. لكن الهدف الظاهري لموسكو بواسطة عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا هو اجتثاث “النازية” في هذا البلد وتحييد قدراته العسكرية.
“بوتين” ضد الغرب
كانت الدول الغربية، قبل ساعات من الغزو الروسي، قد فرضت حزمة جديدة من العقوبات ضد موسكو (تستهدف الأفراد والبنوك الروسية التي تدعم نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين)، وأعلن المستشار الألماني “أولاف شولتز” أن الحكومة علقت التصديق على مشروع خط أنابيب الغاز الطبيعي الروسي نورد ستريم 2 المبرم بين الجانب الروسي وبلاده. وهو الأمر الذي من الواضح لم يكن له تأثير حقيقي على حسابات “بوتين”.
صرح رئيس الولايات المتحدة “جو بايدن”، في رده على الغزو الروسي لأوكرانيا، أن واشنطن وحلفاءها من الدول سيردون بطريقة موحدة وحاسمة على “الهجوم الاستفزازي وغير المبرر من قبل القوات العسكرية الروسية” على أوكرانيا. لكن حتى الآن يظل مسار العمل المستقبلي للغرب غامضًا إلى حد ما. ربَّما لهذا السبب، أصر “تشارلز ميشيل”، رئيس المجلس الأوروبي، في تصريحاته على ضرورة “أن نكون موحدين ومصممين وأن نحدد بشكل مشترك نهجنا وأفعالنا الجماعية”. كما أعلن الاتحاد الأوروبي عن اتخاذه حزمة “ضخمة” من العقوبات على روسيا فيما يتعلق “بأحلك الساعات التي تعيشها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية”.
في الوقت الذي أظهر فيه الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، العزم والإحساس المنفرد بالهدف المنشود، عانى الجانب الغربي من التفكك وعدم القدرة على تقديم جبهة موحدة والرد على تلك التهديدات. وأسوأ من ذلك، عدم التفاهم في بعض الأحيان. إذ تمثل اللحظة الحالية لـ”بوتين” فرصة لاستخدام أوكرانيا لتسليط الضوء على مطالبه الأوسع بإعادة هيكلة النظام الأمني الأوروبي بعد الحرب الباردة. وعلى الجانب الآخر، أظهرت هذه اللحظة انعدام الغرب للإرادة والافتقار إلى القيادة مما أدى إلى الاستجابة بطريقة غير حكيمة لواحدة من أخطر الأزمات الأمنية منذ عقود.
انتشار الفوضى
لم تتجاوب إدارة الرئيس الأميركي “جو بايدن” بالشكل المنشود منها، على الرغم من أحاديثه المتكررة عن القيادة من خلال التحالفات، فقد كان كل ما عليه أن يفعله إظهار وجود حالة من الفوضى في الصفوف الأوروبية. إذ ترددت ألمانيا في السماح لحلفاء منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) بشحن أسلحة ألمانية المنشأ إلى أوكرانيا، بينما استغلت فرنسا هذه الأزمة لمحاولة فرض وإثبات أوراق اعتماد القيادة الخاصة بها. وتحدث الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” عن اتخاذ الاتحاد الأوروبي قرارات مستقلة عن الولايات المتحدة في محاولة لإظهار “استقلاليته الاستراتيجية”. فبالكاد أدى التحالف العابر للأطلسي وظيفته، على الرغم من هؤلاء الذين جادلوا بأن كسر هذه الشراكة كان خطأ الرئيس الأميركي السابق “دونالد ترمب”. ولكن اتضح أنه حتى “بايدن” لم يكن قادرًا على بناء شراكة عابرة للأطلسي حول أهداف مشتركة يجب السعي لتحقيقها بشكل جماعي.
عامل الطاقة
بالإضافة إلى ذلك، يجب أن أخذ واقع اعتماد دول الاتحاد الأوروبي على الموارد الروسية في مجال الطاقة في الاعتبارات الاستراتيجية المتاحة. ومع قيام دول الاتحاد الأوروبي باستيراد ما يقرب من 39% من إجمالي وارداتها من الغاز من روسيا، بالإضافة إلى ما يقرب من 30% من النفط، واعتماد دول وسط وشرق أوروبا بنسبة 100% على الغاز الروسي، فإن أسباب التنافر الداخلي في الاتحاد الأوروبي ليس من الصعب استيعابها. وفي الوقت الذي أوضحت فيه روسيا مرارًا وتكرارًا أنها لا تزال على استعداد لاستخدام قوتها الضاربة لتحقيق أهدافها الدبلوماسية، كان الامتناع الوحيد عن الرد لدى الغرب هو أنه لا ينوي التصعيد وتفاقم حدة الأمور. في مثل هذا السيناريو، تكون المبادرة دائمًا مع الجانب الذي يمكنه إظهار استعداده لتصعيد التوترات وتحمل الضغوط. إذ أصبح الرئيس الروسي “بوتين” على استعداد لتحمل مخاطر استراتيجية كبيرة لا يمكن للغرب تحملها. ونتيجة لذلك، تسلمت روسيا زمام مبادرة هذا الصراع منذ بدايته. وأصبح دور الغرب مجرد رد فعل على التطورات التي تحدث حوله. ومن طبيعة سياسات القوة العظمى مكافحة الدول الأصغر والأضعف مثل أوكرانيا للحفاظ على الوجود الفعلي لها في خارطة العالم.
قوة بكين
زاد رد الفعل الغربي غير الفعال ليس فقط من قوة روسيا، ولكن أيضًا من قوة الصين، حيث انصب تركيز الغرب على الغزو الروسي لأوكرانيا تاركين شؤون المحيطين الهندي والهادئ. ويكتسب الوفاق الروسي الصيني المزيد من القوة. فعلى ما يبدو للعيان أن الدولتين تستعدان لمواجهة الغرب الذي يبدو من جانبه أنه مستعد للتنازل دون خوض أي قتال.
أعطت الولايات المتحدة في مثل هذا الأسبوع من عام 1972 الفرصة للصين لتغير معالم النظام العالمي بشكل جذري، وذلك من خلال إعادة تشكيل ميزان القوى القائم في العالم عندما صافح الرئيس الأميركي “ريتشارد نيكسون”، رئيس الوزراء الصيني “تشو أملاي”، وسمحت الولايات المتحدة الأميركية للصين بالظهور كقوة اقتصادية عالمية رائدة وساعدتها في الفوز في الحرب الباردة.
اليوم، ميزان القوى في حالة تغير مستمر مرة أخرى، ومع قيام الصين بتطوير شراكة استراتيجية مع روسيا، سيتم تحديد مستقبل النظام العالمي الذي يقوده الغرب من خلال مدى استجابته الفعالة للأزمة الأوكرانية. مأساة سياسات القوى العظمى تتكشف في أوروبا، لكن ستحرق نيرانها وتداعيتها العالم أجمع.
إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات
المصدر: orfonline
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر