من بولندا، الجار الأقرب والتي باتت المشاكس الأكبر لروسيا الاتحادية، تحدث وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، عن التزام الناتو بالدفاع عن حلفائه، وقد جاء ذلك خلال مؤتمر صحفي كان هدفه الأول الإعلان عن بيع الولايات المتحدة عدد 250 من دبابات أبرامز الأميركية لبولندا، البلد الأوروبي الشرقي، والذي رزح طويلا تحت نير الشيوعية، وقد قدر له لاحقا أن يفر منها، إلى حضن الناتو.
إعلان أوستن جاء بعد نشر ما يقرب من خمسة آلاف جندي أميركي إضافي في بولندا، بالإضافة إلى طائرات مقاتلة، وربما تكون هناك أسلحة ومعدات أخرى تدفقت سرا على بولندا ، ومن غير إعلان رسمي.
يبدو المشهد وكأن واشنطن لا تستعد للدفاع عن أوروبا في مواجهة خطط الغزو الروسي، التي يلهج بها العم سام صباح مساء كل يوم، في الشهرين الأخيرين، بل يظهر وكأن واشنطن تدفع الأوروبيين دفعا في طريق المواجهة مع روسيا، ومن خلال إعطاء الأوروبيين إحساسا بأن ساعة الناتو قد حانت، وقرع الطبول لابد وأن تستتبعه بالضرورة والحتمية التاريخية القارعة مع بوتين.
الوزير أوستن ومن بولندا بدا وكأنه “دون كيشوت” المعاصر، الحاضر لمجابهة الروس، على الرغم من أن الرئيس بوتين صرح غير مرة الأسبوع الماضي، وبخاصة خلال لقائه مع المستشار الألماني أولاف شولتز ، بأنه لا ينوي ولا يرغب في الدخول في حرب مع أوروبا، ولذلك يتفاوض مع الناتو حول الضمانات الأمنية المطلوبة.
لم يهدد بوتين أي حلفاء حتى يتذرع أوستن بالبند الخامس من ميثاق الناتو، ولهذا تبدو التحركات الأميركية ذرائعية وغير أخلاقية إلى أبعد حد ومد.
يعني للمرء أن يتساءل من الذي يهدد القارة الأوروبية في حقيقة الأمر.. روسيا الاتحادية أم الولايات المتحدة الأميركية؟
ليس سرا القول إن الأوروبيين قد سئموا في العقدين الأخيرين ممارسات واشنطن، وبنوع خاص أرهقت المطالب الأميركية كاهل اقتصادات أوروبا، الأمر الذي تبين بنوع خاص خلال إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، والذي طالب بأن تدفع كل دولة أوروبية نسبة من دخلها القومي، للمساهمة في ميزانية الناتو .
عبر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون أكثر من مرة، عن رفض بلاده، لهذا المنطق الأميركي الاستعلائي، ولهذا جاء طرحه الخاص بضرورة أن تتدبر أوروبا شؤونها عسكريا، ووصل به الأمر حد اقتراحه تكوين جيش أوروبي خاص، وبعيدا عن العسكرة الأميركية.
والشاهد أنه إذا كانت فرنسا هي عقل أوروبا السياسي المفكر الواعي، فإن ألمانيا تعد قلب أوروبا الاقتصادي النابض، وقاطرتها المحركة، وقد كانت في زمن أنجيلا ميركل، الدولة الأوروبية الأكثر رفضا للفوقية الأميركية.
ألمانيا وبنوع خاص وبعيدا عن إدراكها لخسائر الحرب والمواجهات حال اندلاع حرب جديدة في القارة الأوربية، تبدو الدولة الأوربية الأكثر حرصا على العلاقات مع روسيا، لا سيما في ظل وجود خط الغاز الجديد “نورد ستريم 2″، عطفا على الرؤية الألمانية الأوراسية، تلك التي ترى أن هناك مجالا حقيقيا لتعاون أوراسي، بدلا من التناحر الأوروبي الروسي، وعلى النحو الذي تدفع واشنطن في اتجاهه.
ولعل الذين قدر لهم التوقف عند عدد من التصريحات الصادرة من مسؤولين أوروبيين حاليين مثل فرانكو فراتيني ،رئيس البرلمان الإيطالي والسياسي الأوروبي المعروف، وغيره من قادة أوروبا، وبخاصة وزيرة خارجية النمسا السابقة كارين كنايسل، يدرك أن هناك رؤية واضحة صريحة للقارة الأوروبية وغير مريحة للأمريكيين، مفادها أن الرئيس بوتين قد وضع علامات حقيقية لإنهاء الأزمات الدولية خلال كلمته في مؤتمر ميونيخ عام 2007، لكن أحدا لم يعره الانتباه الكافي، ما فتح المجال واسعا لاحقا للمواجهات الحالية.
على أن علامة الاستفهام الجوهرية في هذه الأوقات الحرجة والحساسة: “هل تراجعت أوروبا عن مقدرات الحوار والجوار مع روسيا، وباتت تفضل عليها منطق القوة الخشنة الأميركية، وبعيدا عن أي مقدرات لنظيرتها الناعمة؟
يبدو أن الدفع الأميركي النفسي الحثيث للأوربيين قد خلق حالة عامة من المخاوف في نفوس الأجيال الشابة الأوروبية، الأمر الذي يدفعهم لوضع مفهوم القوة العسكرية في سلم أولويات الأوروبيين، كما أن التحذيرات والإنذارات الأميركية، والدور الذي لعبته وتلعبه وسائل الإعلام الأميركية المعسكرة في شيطنة روسيا عامة والرئيس بوتين بنوع خاص، من الواضح أنها تركت أثرا سلبيا لصالح منطق القوة يجافي وينافي المساعي الدبلوماسية.
تبدو واشنطن وقد نجحت في أمر غاية في الأهمية بالنسبة لها، أمر يبدو وكأنه صيد عصفورين بحجر واحد، من خلال الأزمة الأوكرانية.. ماذا عن ذلك؟
بداية نجحت واشنطن في دفع الأوروبيين في طريق التراجع عن تمتين علاقتهم مع الجانب الشرقي من آسيا، وسواء كان الأمر يخص روسيا أولا، والصين تاليا، فقد وضعت إدارة بايدن العصا في دواليب الانعزاليين الذين فكروا ذات مرة في الانفصال عن الحبل السري للناتو، وبات المشهد الأخير في انتظار قرار الرئيس بوتين حربا أو سلما.
تاليا تبدو واشنطن عازمة كل العزم من خلال المواجهة المتصاعدة مع روسيا، على عزل الصين ، بمعنى فك أي ارتباط أو نشوء أي حلف بين الروس والصينيين ، ذلك أنه حال إشغال أو إلهاء الروس، ستضحى الصين وحيدة في الميدان، وعليه فإنه يمكن لواشنطن لاحقا أن تواجهها من غير دعم روسي لها.
وعد الأميركيون دول القارة الأوروبية بأنهم على استعداد تام لإعادة ما يتم تدميره حال الحرب مع الروس، غير أن الخسائر الأوروبية في هذا الحال لن تتوقف عند الحجر، بل سيمتد الأمر إلى البشر، وهذه هي الخسارة الكبرى لأوروبا، تلك التي ما انفكت تخرج من حالة الأسر الذهني والتاريخي لتعبات الحرب العالمية الثانية، وتستعيد عافيتها العقلية، وسلامها وأمنها.
هل أوروبا راضية عن فقدان هذه الحالة؟
الذين تابعوا العواصف التي ضربت عدداً من الدول الأوروبية قبل أيام يحق لهم التساؤل.. هل أوروبا قادرة على البقاء من غير إمدادات الغاز الروسي، لا سيما بعد أن أخفقت واشنطن في إيجاد بديل له؟
الخلاصة ..الحرب لا تفيد … السلام أنفع وأرفع … وأمريكا من تهدد أوروبا وليس روسيا.