كثير منا على دراية بالتمويل الجماعي، الذي يتضمن التبرع بالمال للأشخاص ومشاريعهم من خلال واحدة من العديد من المنصات المتاحة على الإنترنت. إذ سعى الناس للحصول على المساعدة من خلال التمويل الجماعي بأرقام قياسية خلال وقت الجائحة، مما يجعل التفاعل يبدو وكأنه جزء فعلي من شبكة الأمان الأميركية.
ويعدُّ بعض من هذه الحملات بمثابة نقلة نوعية وفريدة. من مثل مشروع “هيومانز أوف نيويورك” (ناس نيويورك) الذي أطلقه “براندون ستانتون”، والذي كان هدفه الأصلي تصوير قصص 10 آلاف من سكان نيويورك وسردها؛ ومثل حملة “غو فاند مي” لـ”كاسون”، الشاب الذي أجرى مقابلة معه وأصيب بالعمى في هجوم. فمنذ أواخر عام 2021، جمعت حملة “كاسون” أكثر من 675 ألف دولار من حوالي 23 ألف مانح. على النقيض من ذلك مع قصة “جيم” (الذي تغير اسمه لحماية خصوصيته)، الذي لم يستفد من مثل هذا التعرض. كتب “جيم”، وهو أب أرمل لابن معاق، أنه يحتاج إلى المساعدة “حتى لا نفقد منزلنا” بعد أزمته الصحية، فقد كان “جيم” يطلب ألفي دولار لتجنب الإخلاء، ولكنه لم يتلقَّ أي تبرع.
في حين أن قصصًا مثل قصة “كاسون” أكثر شهرة، فقد أظهر بحثنا في هذا النوع الجديد من الأعمال الخيرية أنه، لسوء الحظ، ينتهي المطاف بالعديد من الحملات إلى مثل حملات “جيم”. إذ إن منصة “غو فاند مي” والمنصات المماثلة غير فعالة إلى حد كبير في حل المشكلات المالية للغالبية العظمى من الأشخاص الذين يستخدمونها، ومن غير المرجح أن تحدث الحلول التكنولوجية فرقًا كبيرًا.
واكتشفنا أن تسع حملات من بين كل عشر تفشل في تحقيق أهدافها المالية، وأن متوسط الحملة لا يربح سوى بضعة آلاف من الدولارات. والمثير للدهشة أننا قد وجدنا أن ثُلث الحملات الطبية لم تتلقَّ أي تبرعات على الإطلاق في عام 2020. وفي الوقت نفسه، يمكن لأهم الحملات على الموقع من جميع الأنواع جمع ملايين الدولارات من آلاف المتبرعين. إذ تبدأ هذه الإحصائيات في رسم صورة لنتائج متباينة على نطاق واسع في اقتصاد التمويل الجماعي.
وجدنا أيضًا أن التمويل الجماعي يعمل بنحو أفضل للأشخاص الذين لديهم عدد كبير من المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي. فقد كانت قصة “كاسون”، على سبيل المثال، مقنعة من تلقاء نفسها، لكن حملته استفادت استفادةً ضخمة من شبكات التواصل الاجتماعي الواسعة التي يمتلكها “براندون”، كما أن هناك عدة أسباب رئيسية لحدوث ذلك.
قبل أن تتلقى أي حملة تمويل جماعي جديرة بالتبرع، يجب أولاً أن تجذب انتباه المُتبرع، الذي يُحقق عادةً من خلال منشور على إحدى منصات التواصل الاجتماعي مثل “فيسبوك” أو “إنستغرام” أو “تويتر.” ومع ذلك، فإن اهتمامنا هو كالسلعة الأساسية، محدودة وذات قيمة، ونحن ببساطة لا نمتلك القدرة على إعطاء الأولية للحجم الهائل من المحتوى المتاح. ولذلك، تتخذ هذه المنصات القرار نيابةً عننا، حيث تُسلط الضوء عبر خوارزمياتها على عدد محدود من الحملات بناءً على عوامل عديدة مثل الشعبية، أو التوافق مع اهتماماتنا، أو القرب الجغرافي أو الاجتماعي، أو وقت إنشاء المحتوى، أو ما يدفع المعلنون مقابله.
غالبًا ما نشعر بالارتباك بسبب كمية المحتوى التي نراها فيما يُسمى بـ اقتصاد الانتباه”، حيث نفشل في إدراك أن ما نراه ليس سوى جزء ضئيل جدًا من المحتوى على المنصة. هذا يعني أن عددًا قليلاً فقط من حملات التمويل الجماعي تصل إلى جمهور كبير، وأن الجماهير من المرجح أن ترى حملات رائجة أو ناجحة بالفعل، مثل حملة “كاسون”، أكثر من تلك غير الناجحة، مثل حملة “جيم.”
في الوقت نفسه، تعمل الحملات على نحو جيد إلى حد ما بالنسبة لأولئك الذين لديهم شبكات أصدقاء ذوي الدخل العالي. فيميل الناس الى تكوين روابط اجتماعية مع أولئك الذين يشبهونهم اقتصاديًا وتعليميًا وثقافيًا؛ ويُطلق عليه علماء الاجتماع مصطلح “الهُموفيليا”. فالأشخاص الذين يعيشون في مناطق أكثر ثراءً، على سبيل المثال، من المرجح أن يكون لديهم أصدقاء أثرياء أكثر من الأشخاص الذين يعيشون في المناطق المتواضعة. لأن أولئك الذين لديهم شبكة اجتماعية مليئة بالأصدقاء الأثرياء يمكنهم الاستفادة من شبكات الثروة المتعمقة والواسعة. فقد وجدنا، مؤخرًا، أن الحملات التي أُطلقت في المقاطعات متوسط الدخل فيها أعلى 20 في المئة، حققت أكثر من ضعف تلك الحملات التي أُطلقت في المقاطعات متوسط الدخل فيها أدنى 20 في المئة. إذ إنه عندما يتعلق الأمر بالتمويل الجماعي، تعمل وسائل التواصل الاجتماعي على تضخيم التفاوتات في الدخل.
كما أن هذه الآثار ناتجة عن الاختلافات في الدخل والموارد وليس عن الاختلافات في السخاء. ففي حقيقة الأمر، تُظهر الدراسات باستمرار أن الأميركيين من ذوي الدخل المنخفض هم الأكثر سخاءً. ووفقًا لدراسة استقصائية حديثة، كان ما يقرب من 40 في المئة من أولئك الذين تبرعوا لحملات التمويل الجماعي يقل دخلهم الأسري عن 60 ألف دولار، وكان أكثر من ثُلثهم عاطلين عن العمل في الوقت الذي تبرعوا فيه. ومع ذلك، فإنه في حالة عدم وجود دخل كبير يمكن الاعتماد عليه، غالبًا ما تكون هذه التبرعات صغيرة وموزعة على عدد أكبر من الأشخاص في الشبكة الاجتماعية للفرد الذين قد يحتاجون إلى المساعدة.
كتبت منصة “غو فاند مي” في تقريرها السنوي في نهاية عام 2021: “إذا كان عام 2020 عام أزمة، فقد كان عام 2021 عام الامتنان”. فقد يكون الأمر أكثر دقة بالنسبة إلى “غو فاند مي” بأن نقول إننا كنا أسخياء في عام 2021، ولكن ليس بما يكفي لإبقاء المزيد من الأشخاص الضعفاء خارج أزماتهم. إذ تروق الحملات التي لا حصر لها للجمهور الذي لا يظهر أبدًا، وقد لا يرى أبدًا طلب المساعدة.
وتوفر الحملات مثل حملة “جيم”، بالإضافة إلى 90 في المئة الأخرى غير الممولة، أو التي تعاني من نقص التمويل، سجلاً مرعبًا من الأرواح التي تندفع من خلال شقوق التثاؤب في شبكات الأمان الاجتماعي لدينا.
من المُغري الاعتقاد بأن تغيير الخوارزميات وتبديلها، أو إعادة تركيز انتباهنا، يمكن أن يساعد في حل مثل هذه المشكلات. ومع ذلك، ونظرًا لاعتماد التمويل الجماعي على منصات تواصل اجتماعية ضخمة، سيكون من السذاجة توقع التغييرات التكنولوجية لمواجهة الآثار الراسخة لعدم المساواة في الدخل، والتفاوتات في الشبكات الاجتماعية، وديناميكيات وسائل التواصل الاجتماعي. كما أن التمويل الجماعي كشبكة أمان هو ببساطة مليء بالثغرات، وكثيرًا ما يتعثر بها أولئك الذين يحتاجون إلى أكبر قدر من المساعدة.
تدرك “غو فاند مي” بنفسها أنها لا تستطيع معالجة الاحتياجات الأساسية غير المُلبّاة التي تملأ موقعها. ففي فبراير 2021، ناشد الرئيس التنفيذي، “تيم كادوجان”، الكونجرس الموافقة على مساعدة إضافية للجائحة، بحجة أنه “لا يمكننا القيام بعملك نيابةً عنك”. ما لم يقرر المشرعون تمديد وتوسيع برامج الدعم الهامة مثل الائتمان الضريبي للأطفال، سيستمر الأميركيون في طلب المساعدة عبر الإنترنت، حيث تكون النجاحات قليلة، وغالبًا ما تُضخم التفاوتات بدلاً من تخفيفها.
إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات
المصدر: scientificamerican