سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
د. أحمد قنديل
أعلنت الصين وروسيا، في 4 فبراير 2022، مولد شراكة استراتيجية عميقة، هدفها تحقيق التوازن مع ما وصفته الدولتان بالتأثير “الخبيث” للولايات المتحدة في العالم. وجاء هذا الإعلان وسط مشهد انطلاق الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين، الذي استضاف فيه الرئيس الصيني شي جينبينج نظيره الروسي فلاديمير بوتين، في لقاء هو الأول الذي يجمع بينهما وجهاً لوجه، منذ بداية وباء كوفيد-19، قبل عامين تقريباً، بينما غاب عن هذا المشهد قادة وزعماء الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وأستراليا واليابان وعدد آخر من الدول، احتجاجاً على سجل الصين في مجال حقوق الإنسان.
ويمثل إعلان الشراكة الصينية- الروسية بداية “حقبة جديدة” في العلاقات الدولية، حسبما ورد في البيان المشترك الصادر عن قمة شي – بوتين. إذ أكد هذا البيان على تجديد دعم الصين للمطالب الأمنية الروسية، من أجل حل الأزمة الأوكرانية المتصاعدة في الشهور الأخيرة، مشدداً على انضمام بكين إلى موسكو في معارضة توسع الناتو مستقبلاً. ورغم أن البيان المذكور لم يشر صراحة إلى أوكرانيا، لكنه اتهم حلف شمال الأطلنطي (الناتو) بتبني أيديولوجية الحرب الباردة، مطالباً بوضع حدّ للهيمنة الأمريكية على النظام الدولي، وبالتمسك بمبدأ “أمن واحد لا يتجزّأ”، والذي يستند إليه الكرملين ليطالب بانسحاب حلف الناتو من محيط روسيا.
ومن ناحية أخرى، اتهم البيان الصادر عن القمة الصينية- الروسية أيضاً الولايات المتحدة بإشعال الاحتجاجات في هونج كونج، وتشجيع الاستقلال في تايوان، مندداً بـ”التأثير السلبي لاستراتيجية واشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ على السلام والاستقرار في هذه المنطقة”، لإنشاء تحالف “أوكوس” العسكري بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، كونه يزيد من خطر سباق التسلح بالمنطقة ويخلق مخاطر انتشار الأسلحة النووية.
كما أكد البيان أيضاً على أن علاقة بكين وموسكو الجديدة “تفوق أي تحالف سياسي أو عسكري في زمن الحرب الباردة”، مشيراً إلى أن “الشراكة بين الدولتين ليس لها حدود، وتشتمل على عدة جبهات من بينها الطاقة والفضاء وتغير المناخ والذكاء الصناعي والتحكم في الإنترنت”. وفي نفس الوقت، عبر البيان عن قلق الدولتين من خطط واشنطن لتطوير نظام الدفاع الصاروخي العالمي ونشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وأوروبا، داعياً كافة القوى النووية إلى “التخلي عن عقلية الحرب الباردة”، وتقليص الاعتماد على ترسانتها النووية في سياساتها الأمنية، وسحب كافة أسلحتها النووية المنتشرة خارج حدودها.
وإلى جانب التوافق السياسي التام لمواجهة أنشطة واشنطن “الخبيثة”، كشفت القمة الصينية- الروسية عن ميلاد تحالف استراتيجي غير مسبوق في مجال الطاقة. إذ اتفق الرئيسان الصيني والروسي على صفقات بمئات المليارات من الدولارات في مجالي الغاز والبترول، قدرها البعض بقيمة 117.5 مليار دولار. فمن ناحية، وقعت شركة “روسنفت” الروسية صفقة مدتها 10 سنوات مع مؤسسة البترول الوطنية الصينية (CNPC) لتوريد 100 مليون طن من النفط الخام، عبر كازاخستان على مدار عشر سنوات. ومن ناحية ثانية، أبرمت شركة “غازبروم” الروسية صفقة مدتها 25 عاماً لتسليم 10 مليارات متر مكعب سنوياً، بإجمالي 48 مليار متر مكعب من الإمدادات عبر خط أنابيب غاز سيبيريا الذي تم إطلاقه في عام 2019. ويشار إلى أن روسيا تعد ثالث أكبر مورد للغاز للصين، التي تعتبر أكبر دولة مستهلكة للطاقة في العالم. وتستورد بكين قرابة 43 بالمائة من احتياجاتها من الغاز، بما في ذلك 89 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال و46 مليار متر مكعب من الغاز الذي ينقل عبر خطوط الأنابيب. ويبلغ استهلاك الصين السنوي من الغاز أكثر من 331 مليار متر مكعب، ومن المتوقع أن يزداد هذا الاستهلاك ليصل إلى 526 مليار متر مكعب بحلول 2030، بالتزامن مع خطط بكين لتقليص الاعتماد على الفحم كأحد المصادر الرئيسية للطاقة. وكان عملاق الغاز الروسي “غازبروم” قد وقع، في عام 2014، اتفاقاً مع مؤسسة البترول الوطنية الصينية بقيمة 400 مليار دولار لمدة 30 عاماً من أجل بناء خط أنابيب “قوة سيبيريا” الذي يمتد بطول ثلاثة آلاف كيلومتر في روسيا و خمسة آلاف كيلومتر في الصين. وقد بدأ هذا الخط في العمل فعلياً عام 2019، وذلك بسعة 10 مليارات متر مكعب من الغاز سنوياً.
القمة الصينية- الروسية الأخيرة تشير إلى بلوغ العلاقات الوثيقة بين الدولتين “ذروة التألق والتوهج”، حتى إن عدداً من المراقبين وصف هذه العلاقات بأنها قد وصلت إلى “أفضل مراحلها في التاريخ”. تجارياً، أصبحت الصين أكبر شريك لروسيا منذ سنوات، وسجلت التجارة الثنائية، في عام 2021، مستوى قياسياً جديداً بلغ 147 مليار دولار. وعسكرياً، وقّع البلدان “خريطة طريق” لتوثيق العلاقات العسكرية في العام الماضي مع تكثيف التدريبات العسكرية المشتركة. ومع تصاعد الأزمة الروسية- الأوكرانية، وتهديدات واشنطن بفرض عقوبات اقتصادية “كاسحة” على موسكو، حال قيامها بغزو أوكرانيا، يتوقع كثير من خبراء العلاقات الدولية، أن تقدم بكين مساعدات اقتصادية “مهمة” لروسيا، كما فعلت من قبل عقب أزمة ضم موسكو لشبه جزيرة القرم عام 2014، منها على سبيل المثال توفير أنظمة دفع بديلة، وقروض للبنوك والشركات الروسية، وشراء المزيد من النفط الروسي.
ويفسر المراقبون الشراكة المتزايدة بين الصين وروسيا، بتنامي القناعة لدى زعيمي الدولتين بأنهما محاصران من جانب الغرب، الذي أصبح يسعى بكل قوة، منذ قدوم إدارة الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض في يناير 2021، لـ”شيطنة” الصين وروسيا. ومن أجل فك هذا الحصار، والتعبير عن رؤيتيهما للعالم والترويج لها بقوة، يعتقد كل من الرئيسين الصيني والروسي أن الآخر هو أفضل “سند” له.ومما يؤكد على هذه القناعات ما كشف عنه البيان المشترك الصادر عن القمة الأخيرة بين شي وبوتين، خاصة فيما يتعلق بذهاب كل دولة إلى أبعد مدى، في دعم الأخرى، وبكل صراحة، في كل نقاط الخلاف الرئيسية مع واشنطن وحلفائها، وخاصة ما يتعلق بقضايا تايوان وأوكرانيا وتوسع حلف الناتو.
وفي هذا السياق، أكدت صحيفة “جلوبال تايمز” الصينية على أن “العلاقة الوثيقة بين الصين وروسيا تُمثل آخر خط دفاع لحماية النظام العالمي”، بل وربما بناء نظام دولي جديد “يرفض صراحة” الرؤية الأمريكية والغربية للعالم.
تعميق الشراكة الصينية- الروسية على النحو الذي عكسته قمة شي – بوتين الأخيرة يشير إلى عزم الدولتين على مواجهة الولايات المتحدة. ولذلك لم يكن غريباً أن تتحفظ الولايات المتحدة على هذه الشراكة، باعتبارها تحدياً جدياً لهيمنتها على مقاليد الشئون الدولية. ففي أول رد فعل أمريكي على القمة الروسية -الصينية، حذرت واشنطن بكين من أن اندلاع نزاع مزعزع للاستقرار في أوروبا “سيضر مصالح الصين في العالم أجمع”.ويشير عدد من المراقبين إلى أن هذا التحذير ربما يكون هو السبب الأهم في إغفال البيان المشترك الصادر عن القمة الصينية- الروسية ذكر أوكرانيا بشكل مباشر وصريح، مؤكدين على أن بكين ما تزال حريصة على “عدم معاداة” الغرب، من خلال منح العدوان الروسي المحتمل على أوكرانيا “شيكاً على بياض”.
وفي هذا السياق، يؤكد كثير من المراقبين على وجود “حدود” و”قيود” على الشراكة الصينية- الروسية، من شأنها أن تمنع تطور هذه الشراكة بشكل فعلي على الأرض في المدى المنظور. فرغم وصول العلاقات الحالية بين بكين وموسكو بالفعل، إلى أفضل أوضاعها خلال القرون الثلاثة الماضية، إلا أن العديد من الخلافات العميقة بين الدولتين ما تزال قائمة، بل وربما تنفجر في أية لحظة. ففي يونيو 2020، على سبيل المثال، تم اعتقال عالم روسي متقاعد بتهمة تمرير أسرار تكنولوجية عن الغواصات الروسية إلى الصين. كما أن لدى الروس هواجس عميقة تجاه عمليات التجسس الصيني على الصناعات الدفاعية المتقدمة في البلاد، وتجاه عمليات توسع الشركات الصينية داخل أنحاء روسيا المختلفة. وفي مجال الطاقة، ورغم حالة التناغم بين بكين وموسكو، إلا أن كثيراً من المراقبين يرون عدم تطابق “طموحات الطاقة” بين البلدين.فنقل الغاز الروسي إلى الصين سوف يحتاج إلى إنشاء خطوط أنابيب جديدة، من سيبيريا إلى المدن الصينية، وأيضاً إلى تعهدات واضحة ومحددة من جانب بكين للشراء وفقاً لعقود طويلة الأجل. وهاتان المسألتان ما تزالان محل جدل ساخن بين الجانبين نتيجة رفض بكين تقديم أية التزامات لحل هاتين المعضلتين، مما قد يشكل عقبة رئيسية أمام مستقبل التعاون الصيني- الروسي في مجال الطاقة.
وفي الوقت نفسه، يدعو عدد من الجماعات الصينية القومية المتطرفة إلى استرداد أجزاء من الأراضي التي “تحتلها” روسيا في منطقة الشرق الأقصى. كذلك، تثير تصرفات الكرملين في دول منطقة آسيا الوسطى وأوكرانيا وبيلاروسيا قلق الصينيين، لأنها يمكن أن تعطل مبادرة “الحزام والطريق”، بل وقد “تضربها في مقتل”. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تصاب حركة السكك الحديدية الصينية إلى أوروبا، والتي يمر حوالي 85 في المائة منها عبر بيلاروسيا، بالشلل نتيجة تفاقم التوتر الروسي- الغربي. ومن جهة أخرى، فإن أي دعم صيني مفتوح لغزو عسكري روسي لأوكرانيا من شأنه أن يزيد الضغوط الأمريكية على بكين في مسألة دعم استقلال تايوان، وهو ما سوف يضع تماسك الدولة الصينية برمته على المحك.
وفي ضوء كل هذه الحدود والقيود، من المرجح في المدى المنظور أن تقتصر الشراكة الصينية- الروسية في مواجهة التهديدات الأمريكية على دعم بعضهما البعض “ظهرًا لظهر”، وليس القتال إلى جانب بعضهما البعض “كتفاً بكتف”. ومما قد يدعم من هذا التقدير صعوبة تطور الشراكة الصينية- الروسية إلى “تحالف عسكري”، على غرار حلف الناتو، لأسباب متعددة، في مقدمتها افتقار الدولتين لمقومات الحلف العسكري، وأهمها وجود عقيدة قتالية ومنظومة قيمية وسلة أهداف مُشتركة.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر