سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
أحمد عسكر
يعكس الخلاف السياسي الراهن بين الرئيس الصومالي محمد عبد الله (فرماجو) ورئيس الوزراء الصومالي محمد حسين روبلي، واقع المشهد الصومالي المأزوم منذ سنوات طويلة، ويُلقي بظلاله على مستقبل ضبابي للبلاد، وسط سياق أمني واقتصادي مضطرب أفضى إلى العديد من الأزمات التي فشلت الحكومات الصومالية المتعاقبة في إيجاد مخرج لها، وفي ظل موقف إقليمي يقاوم وجود دولة صومالية قوية قد تهدد بعض المصالح الإقليمية في منطقة القرن الأفريقي، الأمر الذي ينذر بتفاقم تلك الصراعات السياسية في الداخل الصومالي، وانزلاق البلاد في الفوضى بما يعزز عدم الاستقرار السياسي والأمني في البلاد خلال المرحلة المقبلة.
لم تشهد الصومال استقرارًا منذ سقوط نظام سياد بري في أوائل تسعينيات القرن الماضي، حيث انخرطت البلاد في دوامة من الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية التي كان لها أثرها في احتلال الصومال مراكز متأخرة بالمؤشرات الدولية ذات الصلة بالاستقرار السياسي والأمني مما جعلها تدنو من دائرة الدول الفاشلة في العالم وأفريقيا.
ورغم حالة التفاؤل التي صاحبت صعود الرئيس فرماجو إلى السلطة في فبراير 2017 من أجل تعديل مسار الدولة، والتغلب على كافة التحديات التي تواجهها على مدار السنوات الماضية، إلا أنه سرعان ما نشبت الخلافات السياسية في البلاد والتي بدت بوادرها في يونيو 2018 بعد إعلان رئيسة اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات صعوبة إجراء الانتخابات في موعدها الذي كان مقررًا له 2020 مع إمكانية تأجيلها لمدة 13 شهرًا، وهو ما فطنت إليه المعارضة السياسية بشأن محاولة نظام فرماجو تمديد فترة ولايته لما بعد 2020، فأعلنت رفضها أى تأجيل للانتخابات الرئاسية في البلاد؛ وهو ما يعكس حجم الخلافات السياسية في البلاد.
ومع انتهاء ولاية فرماجو الرئاسية في فبراير 2021 وفقًا للدستور الصومالي، عمل على تمديد فترة ولايته من خلال مصادقة البرلمان الصومالي على قرار التمديد له في أبريل 2021. قبل أن يتراجع عن هذا القرار بعد أن شهدت البلاد موجة من الاحتجاجات دعت لها المعارضة السياسية، وشهدت انقسامًا في صفوف الجيش الصومالي بين مؤيد ومعارض للقرار، مما أدى إلى نشوب بعض المواجهات العسكرية في العاصمة مقديشو أسفرت عن قتلى وجرحى، وهو ما دفع فرماجو إلى دعوة رئيس الوزراء روبلي للمشاركة في تنظيم الانتخابات الرئاسية المقبلة.
واستمرت الخلافات بين الطرفين خلال الشهور القليلة الماضية حتى تفجرت الأزمة السياسية مجددًا في البلاد بعد قيام مؤسسة الرئاسة بالتعاون مع جهاز المخابرات بإصدار قرار في 20 ديسمبر 2021 باسم اللجنة الانتخابية الفيدرالية يقضي بتعليق جميع الإجراءات الخاصة بالانتخابات، وذلك بعد طرد سبعة وزراء من أعضاء لجنة فض النزاعات في الانتخابات بسبب تهم الفساد.
وفي اليوم نفسه، وجهت الرئاسة اتهامات لروبلي بالفساد وسوء استغلال السلطة عن طريق تخصيص أراضٍ تابعة للقوات البحرية بالقرب من ميناء مقديشو بناءً على مزاعم قائد القوات البحرية، والتي أفضت إلى تعليق رئاسي لعمل وصلاحيات رئيس الوزراء الذي اتهم لاحقًا الرئيس فرماجو بضلوعه في محاولة انقلابية فاشلة للإطاحة به حتى يتسنى له تأجيل الانتخابات المقبلة بهدف الاستمرار في السلطة، أو على الأقل الإشراف على الانتخابات بما يخدم مصالحه في الفوز بولاية رئاسية جديدة.
وتتباين موازين قوة كل طرف في هذه الأزمة، إذ تشهد البلاد حالة انقسام بين فرماجو وروبلي، حيث يستمد الأول قوته من تقارب بعض الولايات الإقليمية له مثل جلمدغ وهيرشبيلي وجنوب غرب الصومال، كما تدعمه بقوة “فرق الدفاع الشعبي” أو “كتائب الظل” التي أسسها بهدف الترويج لسياساته، وممارسة التحريض ضد المعارضة السياسية، بالإضافة إلى ضمان تأييد بعض القوات الحكومية له، بالرغم من تحذير وزير الدفاع الجديد عبد القادر محمد نور (جامع)، والذي عينه روبلي في 26 ديسمبر 2021، لقواته بعد تنفيذ أوامر الرئيس المنتهية ولايته، وبعض المؤسسات مثل جهاز المخابرات، وهو ما يفاقم الأزمة السياسية والدستورية، وينذر بحالة انقسام في صفوف المؤسسة العسكرية قد تفضي إلى حرب أهلية بالبلاد.
كما يرى فرماجو أن مساندة بعض حلفائه الإقليميين، مثل قطر وتركيا، تدعم موقفه الداخلي في الاستمرار في الحكم، لاسيما بعد حصوله على بعض الطائرات من دون طيار (الدرونز) من أنقرة بالتزامن مع إجراء الانتخابات النيابية في البلاد؛ مما دفع البعض لترجيح أن فرماجو يرغب في تكرار تجربة حليفه آبي أحمد الراهنة في إثيوبيا ضد المعارضة الصومالية، خاصة بعد عودة بعض القوات الصومالية التي تلقت تدريبًا عسكريًّا في إريتريا خلال الفترة الأخيرة.
في المقابل، يستمد رئيس الوزراء روبلي قوته من الشرعية الدستورية التي كفَّلها له الدستور المؤقت، خاصة أن الرئيس فرماجو قد انتهت ولايته في فبراير 2021 وليس لديه أي صلاحيات تنفيذية منذ فبراير الماضي، فضلًا عن تأييد بعض الولايات الإقليمية له مثل جوبالاند وبونت لاند اللتين لديهما إصرار على التعجيل بإجراء الانتخابات الرئاسية ورفض تأجيلها.
كما تقف المعارضة السياسية إلى جانب روبلي وصعَّدت موقفها بمطالبة الرئيس فرماجو بالاستقالة. فضلاً عن أن الموقف الدولي من شأنه تعزيز موقع رئيس الوزراء روبلي ويمثل ضغطًا على فرماجو، لاسيما بعد معارضة واشنطن لمحاولة الإطاحة به أو إيقافه عن العمل، ومطالبتها بإجراء الانتخابات العامة في أسرع وقت.
وبالنظر إلى المشهد العام في الصومال، تزداد المخاوف من تحول البلاد إلى ساحة صراع تتورط فيه جميع القوى والحركات السياسية بمختلف انتماءاتها ومصالحها، وبعض الأطراف الإقليمية والدولية التي تسعى لحماية حلفائها في الداخل بهدف حماية مصالحها الاستراتيجية في الصومال والمنطقة وتعزيز نفوذها هناك، الأمر الذي يفاقم من أزمات الصومال ويهدد وحدتها وتماسكها، ويسمح للعديد من الفاعلين بتهديد أمنها لاسيما حركة “شباب المجاهدين” التي تنشط في وسط وجنوب البلاد.
تحمل الأزمة السياسية الراهنة في الصومال العديد من الدلالات التي تعكس هشاشة النظام السياسي في البلاد، وتفاقم معضلاته على مدار السنوات الأخيرة، وتتمثل أبرزها في:
1- الانقسام السياسي في البلاد: أضحت الصومال في ضوء الأزمة الراهنة تمتلك نظامًا سياسيًّا ذي رأسيْن، في ضوء القرارات المتضاربة التي صدرت عن فرماجو وروبلي خلال الفترة الأخيرة، فضلًا عن حالة الانقسام التي تشهدها الولايات الإقليمية والحركات والقوى السياسية والمؤسسات الرسمية؛ مما ينذر بتفاقم الأزمة السياسية مستقبلًا.
2- انعدام الثقة بين الأطراف السياسية: فقد فرماجو ثقة جميع الأطراف في العملية السياسية بعد محاولاته الدؤوبة للاستمرار في الحكم وخرق كافة الاتفاقات التي وقعت عليها القوى السياسية من أجل تعديل مسار العملية السياسية في البلاد مثل اتفاقي 17 سبتمبر 2020، و27 مايو 2021 بشأن تنظيم الانتخابات.
3- تمسك فرماجو بالاستمرار في السلطة: تعبر سياسات فرماجو إزاء إجراء الانتخابات المقبلة وموقفه من المعارضة السياسية والأطراف السياسية في المشهد السياسي خلال سنوات حكمه الأربعة عن رغبة جامحة لديه في البقاء في سدة الحكم، لذلك فهو يحاول تعطيل العملية الانتخابية لكسب المزيد من الوقت من أجل تذليل كافة التحديات والعقبات الداخلية التي تقف حائلًا أمام الولاية الثانية له، ومستعينًا في ذلك بالدعم المتوفر من بعض الأطراف الداخلية والإقليمية مثل تركيا وحليفيه الرئيسيين إثيوبيا وإريتريا.
4- عرقلة الاستحقاقات الانتخابية: يضمن الرئيس فرماجو باستمرار هذه الأزمة تحقيق مآربه بتأجيل إجراء الانتخابات الرئاسية، ما لم ينجح روبلي في تجاوز هذه الأزمة وتصاعد الضغوط الداخلية والخارجية على فرماجو من أجل التراجع والالتزام بالمسار المحدد سلفًا لتنظيم الانتخابات الرئاسية، لتخرج البلاد من هذا المأزق السياسي الراهن.
5- مخاوف من الانشقاقات في صفوف الجيش: على غرار انقسام القوات الحكومية خلال الأزمة التي اندلعت في أبريل 2021، فإنه فور صدور قرار فرماجو بتعليق صلاحيات روبلي، قامت بعض القوات العسكرية بالانتشار في محيط القصر الرئاسي بهدف عرقلة وصول روبلي إلى مقر عمله، بينما انتشرت بعض القوات العسكرية الموالية لروبلي بالقرب من مقر إقامة الرئيس فرماجو في العاصمة مقديشو.
فيما تورطت بعض القوات الأمنية بقيادة نائب قائد الشرطة وقائد شرطة مدينة بنادر في فض بعض التظاهرات المؤيدة لرئيس الوزراء في مقديشو، وذلك بالمخالفة لقرارات روبلي التي تقضي بتنفيذ الأوامر الصادرة منه فحسب، الأمر الذي دعا وزير الدفاع الجديد إلى التأكيد على عدم المشاركة في الخلاف السياسي الراهن في البلاد، والتحذير من تلقي التعليمات من الرئيس فرماجو المنتهية ولايته، الأمر الذي ينذر باحتمال وقوع انشقاقات في صفوف القوات الحكومية، وهو ما يعزز انعدام الأمن في البلاد التي تعاني بالأساس من تصاعد النشاط الإرهابي في مناطق عدة.
6- تصاعد النزاعات العرقية في البلاد: تهدد هذه الأزمة باحتمال اندلاع بعض النزاعات العرقية في البلاد لاسيما بين قبيلتى “مريحان دارود” التي ينتمي إليها الرئيس فرماجو، و”هبر غدر” التي ينتمي إليها رئيس الوزراء روبلي. وقد تمتد تلك النزاعات إلى أبناء القبيلتين داخل الجيش الذي ربما يواجه معضلة الانقسام بين صفوفه، بالإضافة إلى تورط بعض القبائل والعشائر الأخرى في النزاع بما يوسع دائرة الصراع وينذر باندلاع حرب الكل ضد الكل في مختلف أنحاء البلاد.
7- تفاقم الأزمات الاقتصادية والإنسانية: تُلقي الأزمة السياسية الراهنة بظلالها على تدهور الوضع الاقتصادي والإنساني في البلاد التي يواجه أكثر من 90% من مواطنيها موجات الجفاف، والتي تنعكس بالطبع على تنامي أزمة انعدام الأمن الغذائي لدى أكثر من 4 ملايين نسمة، وهو ما يهدد البلاد بتفاقم الأزمات الإنسانية خلال المرحلة المقبلة.
8- مناخ ملائم للتهديدات الأمنية: تجد حركة “شباب المجاهدين” في خلافات النخبة الحاكمة وتفاقم الأزمة السياسية في البلاد فرصة جيدة لتوسيع نطاق سيطرتها الجغرافية في البلاد، وتكبيد القوات الصومالية والأفريقية المزيد من الخسائر هناك، بما ينعكس على توطيد نفوذها الجهادي على المستويين الإقليمي في شرق أفريقيا والقاري، كما أن تعطيل مسار العملية السياسية واستمرار الصومال في مستنقع الأزمات يجد ترحيبًا لدى الحركة التي تسعى إلى إسقاط النظام الحاكم من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد وفق مزاعمها.
9- تصاعد حدة القلق الدولي: تتخوف القوى الدولية الفاعلة في الصومال من فتح جبهة جديدة للصراع في القرن الأفريقي إلى جانب الصراع في إثيوبيا؛ مما يهدد أمن واستقرار المنطقة ككل، وينعكس سلبًا على المصالح الدولية الاستراتيجية هناك، بالإضافة إلى تهديد الملاحة البحرية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب وانعكاساتها على استقرار التجارة الدولية. كما يزداد التخوف من تنامي النزعات الانفصالية في المنطقة وتداعيات ذلك على تفاقم الاضطرابات في القرن الأفريقي سياسيًّا وأمنيًّا والتهديد بمزيد من العسكرة هناك.
إجمالًا، تبدو هذه الأزمة السياسية الراهنة في الصومال كاشفة عن مخاوف الرئيس فرماجو من خسارة منصبه خلال الانتخابات المقبلة في ضوء تراجع شعبيته لدى الرأى العام بسبب إخفاقه في العديد من الملفات الداخلية والإقليمية، الأمر الذي دفعه نحو الالتفاف على الدستور ومحاولة تعطيل عملية تنظيم الانتخابات لفرض الأمر الواقع بتمديد فترة رئاسته وتأخير الانتخابات لحين إعادة ترتيب أوراقه بما يسمح له بتحقيق الفوز خلال الاستحقاقات القادمة. إلا أن تصاعد المعارضة السياسية ضد تطلعات فرماجو لا تزال ناجحة حتى هذه اللحظة في التصدي لتلك المحاولات، وإن كان الأمر مرشحًا للتصعيد خلال الفترة المقبلة ما لم تنجح الضغوط الدولية في تعديل مسار العملية السياسية، وذلك تفاديًّا لسيناريو آبي أحمد في إقليم تيجراي، خاصة في ظل الدعم اللوجستي الذي تلقاه فرماجو خلال الفترة الأخير من بعض الأطراف الإقليمية.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر