كيف أوصلت “فلسفة أردوغان الاقتصادية” تركيا إلى الهاوية؟ | مركز سمت للدراسات

كيف أوصلت “فلسفة أردوغان الاقتصادية” تركيا إلى الهاوية؟

التاريخ والوقت : الأحد, 26 ديسمبر 2021

محمد الدخاخني

 

علامات الاقتصاد الكارثيّ لتركيا في كلّ مكان؛ طوابير طويلة خارج أكشاك الخبز مخفّض السّعر، وأسعار الأدوية والحليب وورق التّواليت آخذة في الارتفاع، حيث أغلقت بعض محطّات الوقود أبوابها بعد نفاد مخزونها، واندلعت نوبات الغضب في الشّوارع.

قال “اتّحاد نقابات العمّال التّقدميّ” الشّهر الماضي: “البطالة وارتفاعات تكاليف المعيشة، وزيادات الأسعار، والفواتير تقسم ظهورنا”.

حتّى قبل أن تبدأ جائحة فيروس كورونا واختناقات سلسلة التّوريد في إعاقة اقتصادات العالم، منذ ما يقرب من عامين، كانت تركيا تحاول تجنّب الرّكود؛ إذ كافحت مع ديون جبليّة، وخسائر فادحة في قيمة الّليرة التّركيّة، وارتفاع التّضخّم. لكن في الأسابيع الأخيرة، تسارعت حركة حطام القطار البطيء هذا بقوّة شديدة، والقدم التي تكبس بقوّة على دوّاسة البنزين تعود إلى الرّئيس السّلطويّ للبلاد، رجب طيّب أردوغان.

لماذا يحدث هذا الآن؟

المشكلات الاقتصاديّة في تركيا لها جذور عميقة، لكنّ الأزمة الأخيرة كانت بسبب إصرار أردوغان على خفض أسعار الفائدة في مواجهة التّضخّم المتسارع – وهو بالضّبط التّكتيك المعاكس لما يصفه الاقتصاديّون تقريباً عالمياً.

لطالما قاوم أردوغان، الذي يحكم تركيا منذ 18 عاماً، تلك الوصفة المؤلمة بشكل خاصّ، لكن يبدو أنّ تصميمه على الاستمرار في خفض أسعار الفائدة، حتّى مع ارتفاع معدّل التّضخّم في البلاد إلى نسبة مذهلة تبلغ 21%، يدفع بتركيا إلى ما وراء النّقطة الحَرِجة.

من خلال الحفاظ على أسعار الفائدة منخفضة، يحاجج أردوغان بأنّ المستهلكين سيكونون أكثر حرصاً على مواصلة التّسوّق وأنّ الشّركات ستكون أكثر ميلاً للاقتراض واستثمار الأموال في الاقتصاد

عادة، يتطلّع المستثمرون وغيرهم إلى البنك المركزيّ للدّولة لإبقاء التّضخّم تحت السّيطرة وتحديد أسعار الفائدة، لكنّ أردوغان أظهر، مراراً وتكراراً، أنّه إذا لم يفعل محافظو البنوك المركزيّة ووزراء الماليّة في تركيا ما يريد، فسوف يتخلّص منهم، بعد أن طرد ثلاثة منهم بالفعل في غضون عامين.

هبطت قيمة الّليرة في الأسابيع الأخيرة هبوطاً عموديّاً، ووصلت يوم الإثنين إلى مستوى منخفض قياسيّ، بلغ 14.3 للدّولار، من حوالي 7 ليرة للدّولار في وقت سابق من هذا العام، ممّا دفع بعض الشّركات والأسر الّتي اقترضت الأموال من الخارج إلى الإفلاس. الانخفاض الحادّ في العملة يعني استمرار ارتفاع أسعار السّلع المستوردة، نقص السّلع أمر شائع والنّاس يكافحون من أجل شراء الغذاء والوقود. معدّل بطالة الشّباب 25%، وشعبيّة الرّئيس آخذة في التّراجع وتجرّأ خصومه.

مع انتخابات مقبلة، في غضون 18 شهراً، يبدو أنّ أردوغان مقتنع بأنّ إستراتيجيّته ستمكّن الاقتصاد التّركيّ من الخروج من مشكلاته، ومع ذلك، يقول معظم الاقتصاديّين إنّ الانهيار هو الأرجح.

متى بدأت مشكلات تركيا الاقتصاديّة؟

نجحت إستراتيجيّات أردوغان القويّة المؤيّدة للنّموّ من قبل، منذ أن بدأ حكم تركيا، عام 2003، تولّى تنفيذ مشاريع بنية تحتية باهظة الثّمن، وتودّد للمستثمرين الأجانب، وشجّع الشّركات والمستهلكين على التّحميل بالدّيون. وانطلق قطار النّموّ.

يقول قدري تاستان، وهو كبير زملاء في “صندوق مارشال الألمانيّ”، ومقرّه بروكسل: “كانت تركيا تُعدّ معجزة اقتصاديّة” خلال العقد الأوّل من حكم أردوغان. قُسِمَ الفقر إلى النّصف، وتدفّق ملايين النّاس إلى صفوف الطّبقة الوسطى، وكان المستثمرون الأجانب متحمّسين للإقراض.

لكن دفع أردوغان الحثيث من أجل التّوسّع أصبح غير مستدام، بدلاً من التّراجع، استمرّ الاقتراض المتهوّر.

وقع الاقتصاد غير المستقرّ بشكل متزايد في مأزق، وجذبت أسعار الفائدة المرتفعة المستثمرين الأجانب لقبول المخاطرة والاستمرار في الإقراض، لكنّها أعاقت النّموّ. كان أردوغان غير راغب في قبول هذه المقايضة، واستمرّ في دعم الاقتراض الرّخيص مع انّطلاق التّضخّم وانخفاض قيمة العملة.

ويصرّ على أنّ أسعار الفائدة المرتفعة تسبّب التّضخّم، بالرّغم من أنّ أسعار الفائدة المنخفضة هي الّتي تضع المزيد من الأموال في التّداول، وتشجّع النّاس على الاقتراض والإنفاق أكثر، وتميل إلى رفع الأسعار.

يقول هنري باركي، وهو زميل في “مجلس العلاقات الخارجيّة”: “لدى أردوغان فلسفته الاقتصاديّة الخاصّة”.

تأرجح الاقتصاد بين هذه الأهداف المتضاربة حتّى عام 2018، عندما تسبّبت التّوترات السّياسيّة المتزايدة بين تركيا والولايات المتّحدة في انهيار قيمة الّليرة.

خفّت حدّة المواجهة السّياسيّة، لكنّ المشكلات الاقتصاديّة الأساسيّة ظلّت قائمة.

استمرّ أردوغان في الضّغط على البنوك الحكوميّة لتقديم قروض رخيصة للأسر والشّركات واستمرّ جنون الاقتراض. تقول سيلفا ديميرالب، وهي خبيرة اقتصاديّة في “جامعة كوج” في إسطنبول: “لم تُطبَّع الأمور في الواقع”.

عندما قاوم رئيس البنك المركزيّ ضغوط الرّئيس لخفض سعر الفائدة البالغ 24% عام 2019، طرده أردوغان، وكانت هذه بداية نمط.

من أجل دعم الّليرة، بدأت البنوك التركيّة في بيع احتياطيّاتها من الدّولارات، هذه المخزونات الدّولاريّة تنخفض الآن.

أدّى التّباطؤ الاقتصاديّ العالميّ النّاجم عن جائحة فيروس كورونا إلى زيادة الضّغوط من خلال الحدّ من مبيعات البضائع التّركيّة حول العالم، كما تضرّرت السّياحة، التي كانت إحدى أكثر القطاعات ديناميكيّة في تركيا، بشدّة.

ما هي مقاربة الرّئيس أردوغان لأسعار الفائدة؟ وماذا يقول الاقتصاديّون؟

من خلال الحفاظ على أسعار الفائدة منخفضة، يحاجج أردوغان بأنّ المستهلكين سيكونون أكثر حرصاً على مواصلة التّسوّق وأنّ الشّركات ستكون أكثر ميلاً للاقتراض واستثمار الأموال في الاقتصاد وتوظيف العمّال.

ويقول إنّه إذا فقدت الّليرة قيمتها مقابل الدّولار، فإنّ صادرات تركيا ستصبح أرخص ببساطة وسيرغب المستهلكون الأجانب في شراء المزيد.

تقول ميهريبان أصلان، وهي تنتظر في طابور طويل لشراء الخبز في حي سلطان غازي بإسطنبول: لا يمكننا كسب العيش. لزوجي تقاعد مقداره 1,800 ليرة، أي حوالي 125 دولاراً

ذلك صحيح إلى حدّ ما، لكنّه يأتي بثمن باهظ، تعتمد تركيا اعتماداً كبيراً على الواردات، مثل: قطع غيار السّيّارات والأدوية، وكذلك الوقود والأسمدة ومواد خام أخرى، عندما تنخفض قيمة الّليرة، تزداد تكلفة شراء هذه المنتجات.

في الوقت نفسه، أثار ازدراء أردوغان للنّظريّة الاقتصاديّة التّقليديّة مخاوف بعض المستثمرين الأجانب، الذين كانوا متحمّسين لإقراض الشّركات التّركيّة بمئات الملايين من الدّولارات، لكنّهم الآن يفقدون الثّقة في العملة.

وكلّما انخفضت معدّلات الفائدة، ارتفع معدّل التّضخّم بشكل أسرع؛ خلال العام الماضي، فقدت الليرة أكثر من 45% من قيمتها، وارتفع معدّل التّضخّم الرّسميّ إلى ما يزيد عن 20%، بالرّغم من أنّ العديد من المحلّلين يعتقدون أنّ المعدّل في الشّوارع أعلى من ذلك بكثير.

بالمقارنة؛ فإنّ معدّل التّضخّم البالغ 6.8% حتّى الآن هذا العام في الولايات المتّحدة (الأعلى منذ أربعة عقود تقريباً) ومعدّل 4.9% في منطقة اليورو كافيان لإطلاق الإنذارات.

في تركيا؛ يتسبّب الارتفاع الهائل في الأسعار في البؤس بين الفقراء وإفقار الطّبقة الوسطى.

تقول ميهريبان أصلان، وهي تنتظر في طابور طويل لشراء الخبز في حي سلطان غازي بإسطنبول: “لا يمكننا كسب العيش”، وتضيف: “زوجي يبلغ من العمر 60 عاماً، ولا يمكنه العمل كثيراً الآن، لديه معاش تقاعديّ صغير قدره 1,800 ليرة، والذي يساوي في الوقت الحالي حوالي 125 دولاراً”، تقول: “أحياناً أقوم بأعمال خياطة في المنزل لجلب أموال إضافيّة”.

تفضّل الشركات تخزين البضائع على بيعها؛ لأنّها لا تعتقد أنّها ستكون قادرة على استبدالها.

يشتكي إسماعيل أرسلانتورك (22 عاماً)، وهو محاسب في محلّ بقالة في الحيّ، من أنّ سعر العدس الأخضر قد تضاعف تقريباً، يقول أرسلانتورك: “لا أعتقد أنّ الاقتصاد سينصلح بعد هذه النّقطة”، مضيفاً أنّه أجبر على ترك المدرسة الثّانوية للمساعدة في إعالة أسرته. يتابع: “لا أمل عندي”.

ما هو ردّ أردوغان على الأزمة المتصاعدة؟

ضاعف الرئيس من مقاربته، مؤكّداً أنّه لن “يتنازل أبداً” عن معارضته لرفع أسعار الفائدة، وقال في مقابلة على التّلفزيون الوطنيّ الشّهر الماضي: “أسعار الفائدة تجعل الأثرياء أكثر ثراءً والفقراء أكثر فقراً”، وأضاف: “منعنا بلدنا من أن يُسحق بهذه الطّريقة”.

استند الرّئيس إلى تعاليم إسلاميّة ضدّ الرّبا وأشار إلى رسوم الفائدة على القروض على أنّها “أمّ وأبّ كلّ شرّ”، وألقى بالّلوم على التّدخّل الأجنبيّ في ارتفاع الأسعار. يقول محلّلون مثل باركي من “مجلس العلاقات الخارجيّة”؛ إنّ مثل هذه التّعليقات تهدف في المقام الأول إلى جذب المزيد من القطاعات الدّينيّة المحافظة في البلاد والّتي تمثّل جوهر دعم أردوغان.

ويؤكّد باركي أنّ مشكلة تركيا الأساسيّة هي أنّ لديها حاكماً واثقاً جدّاً من نفسه وفي السّلطة لفترة طويلة. يقول باركي: “أردوغان يؤمن بقدرته المطلقة ويرتكب الأخطاء، لكنّه محاط برجال لا يقولون سوى نعم ولا يمكن لأحد أن يتحدّاه”.

المصدر: حفريات

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر