سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
جوزيف ناي
هجمات برامج الفدية، التدخل في الانتخابات، التجسس على الشركات، التهديدات التي تتعرض إليها شبكات الكهرباء؛ تلك هي العناوين الرئيسة الحالية بكل ما تحمله من تحذيرات ومؤشرات خسائر، ما يجعل الأمل ضئيلاً في جلب قدر من النظام إلى فوضى الفضاء السيبراني.
هكذا بدأ جوزيف ناي، أستاذ العلوم السياسية والعميد السابق لمدرسة جون كينيدي بجامعة هارفارد، مقالته التي نشرتها مجلة “فورين أفيرز” مؤخراً؛ حيث قال ناي إن القصص الإخبارية التي لا هوادة فيها ترسم صورة قاتمة لعالم الإنترنت غير الخاضع للرقابة، والذي يزداد خطورة يوماً بعد يوم؛ مع تداعيات مروعة ليس فقط على الفضاء السيبراني نفسه، ولكن أيضاً على الاقتصاد، والجغرافيا السياسية، والمجتمعات الديمقراطية، والمسائل الأساسية المتعلقة بالحرب والسلام.
وبالنظر إلى هذا الواقع المؤلم، حسب ناي، فإن أية إشارة إلى إمكانية صياغة قواعد للفضاء السيبراني تُقابل عادة بالتشكك؛ حيث إن السمات الأساسية للفضاء السيبراني، وفقاً لهذا التفكير، تجعل من المستحيل فرض أية قواعد أو حتى معرفة ما إذا كان يتم انتهاكها من الأساس.
ففي ديسمبر 2015، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة، لأول مرة، مجموعة من 11 معياراً سيبرانياً دولياً طوعياً. وساعدت روسيا في صياغة هذه القواعد، ووقعت لاحقاً على نشرها. وفي الشهر نفسه، شنت هجوماً سيبرانياً على شبكة الكهرباء في أوكرانيا، خلَّف ما يقرب من 225000 شخص دون كهرباء لعدة ساعات، كما كثَّفت جهودها للتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016.
ويُظهر التاريخ أن المجتمعات تستغرق وقتاً لتتعلم كيفية الاستجابة للتغيرات التكنولوجية التخريبية الكبرى ولوضع قواعد من شأنها جعل العالم أكثر أماناً من الأخطار الجديدة. فقد استغرق الأمر عقدَين من الزمن بعد أن أسقطت الولايات المتحدة القنابل النووية على اليابان، لكي تتوصل الدول إلى اتفاق بشأن معاهدة الحظر المحدود للتجارب النووية ومعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.
ومع ترسيخ هذه المعايير، سوف تكتسب أهمية متزايدة للحد من المخاطر التي يمكن أن يشكلها التقدم التكنولوجي السيبراني على النظام الدولي؛ لا سيما إذا عززت واشنطن وحلفاؤها وشركاؤها تلك المعايير بوسائل أخرى للردع. وعلى الرغم من أن بعض المحللين يجادلون بأن وسائل الردع لن تنجح في الفضاء السيبراني، فإن هذا الاستنتاج يتسم بالتبسيط؛ فهي قد تنجح بطرق مختلفة مقارنة بالمجال النووي.
حقيقة جديدة عن الحياة (والحرب)
ويشير ناي إلى أنه مع تزايد الخسائر التي تتسبب فيها الهجمات السيبرانية، فإن استراتيجية الولايات المتحدة للدفاع ضد هذه الهجمات تظل غير كافية؛ حيث ينبغي لأية استراتيجية جيدة أن تبدأ من الداخل، لكن مع الاعتراف في الوقت نفسه بعدم قابلية الفصل بين الجوانب المحلية والدولية للفضاء السيبراني، حيث إن المجال السيبراني عابر للحدود بطبيعته.
وينطوي الأمن السيبراني على طمس مواطن الضعف العامة والخاصة. فالإنترنت عبارة عن شبكة مؤلفة من عدة شبكات، ومعظمها مملوكة للقطاع الخاص. وخلافاً للأسلحة النووية أو التقليدية، فإن الحكومة لا تسيطر عليها. وبالتالي فإن الشركات تقوم بإجراء مفاضلتها الخاصة بين الاستثمار في الأمن وتحقيق أقصى قدر من الأرباح على المدى القصير.
وفي مجال الصراع العسكري العالمي، أصبحت شبكات الكمبيوتر هي النطاق الخامس، بالإضافة إلى النطاقات الأربعة التقليدية: البرية، والبحرية، والجوية، والفضاء، وقد اعترف الجيش الأمريكي بذلك من خلال إنشاء القيادة السيبرانية الأمريكية في عام 2010.
وفي عام 2017، تسبب هجوم برنامج الفدية السيبراني “واناكراي”، في إلحاق الضرر بدائرة الصحة الوطنية البريطانية من خلال ترك أجهزة الكمبيوتر مشفرةً وغير قابلة للاستخدام؛ مما أدى إلى إلغاء مواعيد آلاف المرضى، كما تم استهداف المستشفيات ومنتجي اللقاحات بشكل مباشر من قِبل هجمات برامج الفدية والقرصنة خلال جائحة كورونا.
ولا يزال هناك الكثير مما لا يفهمه حتى الخبراء حول كيفية تحويل استخدام الأدوات السيبرانية إلى صراع مادي. ويمكننا الوقوف طويلاً أمام حقيقة أن الجيش الأمريكي يعتمد بشكل كبير على البنية التحتية المدنية، وأن الاختراقات السيبرانية يمكن أن تؤدي إلى تدهور خطير في القدرات الدفاعية للولايات المتحدة. ومن الناحية الاقتصادية، فإن حجم وتكلفة الحوادث السيبرانية تزداد بشكل كبير.
ووفقاً لبعض التقديرات، فإن هجوم “نوت-بيتيا” لعام 2017 الذي شنته روسيا على أوكرانيا، وأدى إلى محو بيانات أجهزة الكمبيوتر التابعة للبنوك، وشركات الطاقة، ومحطات الغاز، والوكالات الحكومية، قد كلَّف الشركات أكثر من 10 مليارات دولار في هيئة أضرار جانبية، كما أن عدد الأهداف آخذ في الازدياد بسرعة.
وقد اندرج تعطيل روسيا للانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016 في مثل هذه المنطقة الرمادية. وعلى الرغم من أن بعض الهجمات السيبرانية الصينية والروسية الأخيرة يبدو أنها قد نفذت في المقام الأول لأغراض التجسس؛ فقد اشتكت إدارة بايدن من أن نطاقها ومدتها جعلاها تتجاوز التجسس العادي.
إرساء بعض القواعد
وعن الحلول ووسائل الحماية ضد الحرب السيبرانية، قال ناي إن التفاوض بشأن معاهدات الحد من الأسلحة السيبرانية يبدو أمراً بالغ الصعوبة، فلن يكون من الممكن التحقق من تنفيذها؛ لكن الدبلوماسية في مجال الفضاء السيبراني ليست مستحيلة. والواقع أن التعاون الدولي بشأن تطوير المعايير السيبرانية مستمر منذ أكثر من عقدَين. وفي عام 1998، اقترحت روسيا، لأول مرة، معاهدة للأمم المتحدة لحظر الأسلحة الإلكترونية والمعلوماتية.
وقد رفضت الولايات المتحدة هذه الفكرة بحجة أن المعاهدة في هذا المجال لا يمكن التحقق منها كون الاتفاق على اعتبار الشفرات البرمجية سلاحاً أم لا أمراً يعتمد على نية المستخدم. وبدلاً من ذلك، وافقت الولايات المتحدة على أن يعين الأمين العام للأمم المتحدة فريقاً من 15 خبيراً حكومياً (تم توسيعه لاحقاً إلى 25 خبيراً)؛ لوضع مجموعة من القواعد، وقد اجتمعوا لأول مرة عام 2004.
كما اجتمعت 6 مجموعات بخصوص الموضوع نفسه منذ ذلك الحين، وأصدرت 4 تقارير؛ مما أوجد إطاراً واسعاً للمعايير التي أقرتها لاحقاً الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقد عزز عمل هذه المجموعات الإجماع على أن القانون الدولي ينطبق على مجال الفضاء السيبراني، وأنه ضروري للحفاظ على السلام والاستقرار بداخله.
ورغم اعتبار هذا التقرير إنجازاً؛ فإن التقدم تباطأ في عام 2017، عندما فشل فريق الخبراء في الاتفاق على القضايا القانونية الدولية ولم يُصدِر تقريراً بالإجماع. وفي أوائل 2021، أصدرت المجموعة الجديدة تقريراً موسعاً، وإن كان غير حاسم، أعاد تأكيد معايير عام 2015، فضلاً عن أهمية القانون الدولي في الفضاء السيبراني.
وفي يونيو الماضي، أكمل فريق الخبراء السادس عمله وأصدر تقريراً أضاف تفاصيل مهمة إلى القواعد الإحدى عشرة التي تم تقديمها لأول مرة عام 2015. ولا تزال الصين وروسيا تضغطان من أجل إبرام معاهدة؛ لكن ما سيحدث على الأرجح هو التطور التدريجي لـ “هذه القواعد”.
وبالإضافة إلى إجراءات الأمم المتحدة، كان هناك العديد من المنتديات الأخرى للنقاش بشأن المعايير السيبرانية؛ بما في ذلك اللجنة العالمية لاستقرار الفضاء السيبراني والتي بدأت عام 2017 من قِبل مركز أبحاث هولندي، بدعم قوي من الحكومة الهولندية، وشارك في رئاستها إستونيا والهند والولايات المتحدة، وضمت مسؤولين حكوميين سابقين، وخبراء من المجتمع المدني، وأكاديميين من 16 دولة.
القراصنة الجدد
ووفقاً لرؤية جوزيف ناي، فإن هذه القواعد لن تكون فعالة حتى تصبح ممارسة دولية شائعة؛ لكن ذلك سوف يستغرق وقتاً. فقد استغرق الأمر عقوداً عديدة حتى تطورت المعايير المناهضة للعبودية في أوروبا والولايات المتحدة في القرن التاسع عشر. ومن ثم يظل السؤال الأساسي هنا هو: لماذا قد تسمح الدول لهذه المعايير بتقييد سلوكها؟
وقد أجاب ناي عن هذا التساؤل عبر 4 أسباب رئيسة؛ هي: التنسيق، والحذر، وتكاليف السمعة، والضغوط المحلية؛ بما في ذلك الرأي العام والتغيرات الاقتصادية، حيث ظهرت فوائد التنسيق -والمخاطر التي يشكلها غيابه- بشكل واضح في الفضاء السيبراني في المناسبات القليلة التي تم فيها اختراق الأهداف من خلال إساءة استخدام نظام أسماء النطاق للإنترنت، والذي يُطلق عليه أحياناً “دليل هاتف الإنترنت”، والذي تديره منظمة الإنترنت للأرقام والأسماء المُخصصة غير الربحية “آيكان”.
وهناك مثال أكثر بعداً، ولكنه تاريخي، على الكيفية التي ينتج بها الحذر قاعدة ضد استخدام تكتيكات معينة، ألا وهو مصير القرصنة. ففي القرن الثامن عشر، استخدمت القوات البحرية الوطنية بشكل روتيني الأفراد أو السفن الخاصة لزيادة قوتها في البحر؛ لكن في القرن التالي، تحولت الدول بعيداً عن القراصنة، لأن نهبهم اللا منهجي أصبح مكلفاً للغاية.
كما أن المخاوف بشأن الضرر الذي قد يلحق بسمعة بلد ما وقوته الناعمة يمكن أن يؤدي إلى ضبط النفس الطوعي. وتتطور المحرمات بمرور الوقت وتزيد من تكاليف استخدام أو حتى امتلاك سلاح يمكن أن يسبب أضراراً جسيمة.
ولنأخذ على سبيل المثال اتفاقية الأسلحة البيولوجية، التي دخلت حيز التنفيذ عام 1975، وأدت إلى أن أية دولة ترغب في تطوير أسلحة بيولوجية يتعين عليها أن تفعل ذلك سراً، وأن تواجه إدانة دولية إذا تسربت أدلة على أنشطتها، كما حدث مع صدام حسين.
وخلال جائحة كورونا، ساعد الاشمئزاز العام من هجمات برامج الفدية على المستشفيات في تعزيز هذا الحظر والتفكير في تطبيقه على مجالات أخرى في عالم الفضاء السيبراني. كما يمكن للتغيير الاقتصادي أن يعزز المطالبة بمعايير جديدة تدعم الكفاءة والنمو. مثلما اكتسبت القواعد المناهضة للقرصنة والعبودية الدعم عندما كانت تؤدي إلى تدهور اقتصادي.
وقد أكد ناي أن المعايير لها دورة حياة طبيعية؛ فهي تبدأ عادةً بـ”رواد الأعمال العاديين”، من أفراد ومنظمات ومجموعات اجتماعية ولجان رسمية، تتمتع بتأثير هائل على الرأي العام. وبعد فترة معينة، تصل بعض المعايير إلى نقطة تحول، حين تُترجم سلسلة القبول إلى اعتقاد واسع الانتشار، ويجد القادة أنهم سيدفعون ثمناً باهظاً لرفضها.
القواعد السيبرانية وُضِعَت ليتم كسرها
ويلفت أستاذ العلوم السياسية، في مقالته، إلى أن الرئيس الصيني شي بينغ، والأمريكي باراك أوباما، قد اتفقا على عدم استخدام التجسس السيبراني لتحقيق منفعة تجارية في عام 2015، لكن شركات الأمن الخاصة أفادت أن الصين التزمت بهذا التعهد لمدة عام أو نحو ذلك قبل أن تعود إلى عادتها القديمة في اختراق البيانات التجارية والفيدرالية الأمريكية، على الرغم من أن ذلك حدث في سياق تدهور العلاقات الاقتصادية التي تميزت بتصاعد حروب الرسوم الجمركية.
فهل يعني ذلك فشل الاتفاق؟ وبدلاً من جعله سؤالاً بنعم أو لا، يجادل النقاد بأن التركيز ينبغي أن ينصب على مقدار الضرر، وليس الخطوط الدقيقة التي تم تجاوزها أو كيفية تنفيذ الانتهاكات. فعندما تتجاوز الصين أو روسيا خطاً ما، سوف يتعين على الولايات المتحدة الرد بانتقام محدد الهدف، وفقاً لناي.
حيث شمل هذا الانتقام فرض عقوبات عامة واتخاذ إجراءات خاصة؛ مثل تجميد الحسابات المصرفية لأعضاء الأقلية الحاكمة أو الكشف عن معلومات محرجة عنهم. ويمكن أن تكون الممارسات المستمرة للقيادة السيبرانية الأمريكية للدفاع الاستباقي مفيدة هنا، على الرغم من أنه من الأفضل أن تكون مصحوبة بعملية اتصال هادئة.
وأضاف ناي أنه قد تكون المعاهدات المتعلقة بالفضاء السيبراني غير قابلة للتطبيق؛ لكن قد يكون من الممكن أيضاً وضع قيود على أنواع معينة من السلوك والتفاوض بشأن قواعد تقريبية. فخلال الحرب الباردة، كانت القواعد غير الرسمية هي التي تحكم معاملة الجواسيس.
وقد تجعل الاختلافات الأيديولوجية التوصل إلى اتفاق تفصيلي أمراً صعباً، لكن الاختلافات الأكبر لم تمنع التوصل إلى اتفاقات ساعدت في تجنب التصعيد خلال الحرب الباردة؛ حيث تكون الحكمة أحياناً أكثر أهمية من الأيديولوجية.
ويرى جوزيف ناي أن إحدى المشكلات المتعلقة بتحديد ما يلزم حمايته تتمثل في أنها تشير ضمنياً إلى جوانب أخرى، وأن هجمات برامج الفدية من جانب المجرمين في روسيا سوف تستمر بغض النظر عن أي شيء. ففي الفضاء السيبراني، تعمل الجهات الفاعلة غير الحكومية كوكلاء للدولة بدرجات متفاوتة، ويجب أن تتضمن القواعد تحديدها وتقييدها.
وبالتالي فإن الدبلوماسية بين الديمقراطيات بشأن هذه القضايا لن تكون سهلة. وكما قال جيمس ميلر وروبرت بتلر، وهما من كبار المسؤولين السابقين في البنتاغون: “إذا دعم حلفاء الولايات المتحدة وشركاؤها المعايير السيبرانية، فمن المرجح أن يكونوا أكثر استعداداً لدعم فرض التكاليف على المخالفين، وبالتالي تحسين المصداقية والحزم (من خلال فرض التكاليف متعددة الأطراف) واستدامة التهديدات الأمريكية بفرض تكاليف رداً على الانتهاكات”.
والآن، يقول ناي، تصارع إدارة بايدن حقيقة أن مجال الفضاء السيبراني قد نجح في خلق فرص جديدة ونقاط ضعف مهمة في السياسة العالمية. ولا بد أن تكون إعادة تنظيم الداخل في صميم الاستراتيجية المعتمدة؛ لكنها تحتاج إلى عنصر دولي قوي قائم على الردع والدبلوماسية.
كما يجب أن يشمل المكون الدبلوماسي إقامة التحالفات بين الديمقراطيات، وبناء القدرات في البلدان النامية، وتحسين المؤسسات الدولية. وأن تتضمن هذه الاستراتيجية وضع معايير تهدف في الأمد الطويل إلى حماية البيت الزجاجي القديم للديمقراطية الأمريكية من الأحجار الجديدة في عصر الإنترنت.
المصدر: كيو بوست عن فورين أفيرز
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر