سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
أندرياس كون
يعتبر التحول الرقمي نقطة التحول لأي مجتمع في سبيل تحقيقه للتنمية المستدامة والرخاء المستمر، كما يُعد مثل الترياق السحري لتحسن مستويات المعيشة في الدول ذات المستويات الاقتصادية المنخفضة ومتوسطة الدخل، بالإضافة إلى كونه إحدى الدعامات المستخدمة في رفع مستوى بعض الحكومات المتعثرة.
إذ انبثقت أهمية التحول الرقمي في خضم إصابة العالم بوباء فيروس كورونا المستجد من استراتيجيات التعامل مع الأزمة نفسها، حيث أظهرت أوجه التباينات المتزايدة وغير المتكافئة للانتعاش والتعافي حول العالم مدى الحاجة الملحة لهذه المسألة. وسمحت التقنيات الرقمية للبلدان النامية بتطبيق الحلول المصرفية وحلول أنظمة الاتصالات، وفي بعض الحالات تحقيق قفزات نوعية من الإبداع التكنولوجي التي كانت ستتطلب دون ذلك الكثير من الاستثمارات التقليدية في البنية التحتية والهياكل الأساسية لهذه التكنولوجيا. قدمت الهواتف المحمولة وبطاقات الهوية الـتي تحمـل السمات الحيوية خدمات حكومية ومصرفية لمئات الملايين من مواطني الهند، كما أصبحت الهواتف المحمولة ذات النطاق العريض هي وسيلة الاتصال الوحيدة بالإنترنت للعديد من المستخدمين الأفارقة. ويتوقع أن تؤدي الزيادة في انتشار خدمات الإنترنت المحمولة في إفريقيا بواقع 10% إلى ارتفاع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.5%.
على مدار التاريخ البشري، ساهم التقدم التكنولوجي والتحول الرقمي في الازدهار والرخاء الاقتصادي للمجتمعات البشرية. فمنذ بداية الألفية الجديدة ساهم التقدم التكنولوجي في زيادة الناتج المحلي الإجمالي العالمي بمقدار الضعف، ليبلغ حجم الاقتصاد الرقمي العالمي 11.5 تريليون دولار أميركي، ويمثل 15.5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، في حين تجاوز معدل نمو الاقتصاد الرقمي الأميركي للفترة ما بين 2006 و2018 والبالغ 6.8% سنويًا معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الأميركي المماثل والبالغ 1.7% بسرعة فائقة. على الرغم من أن مساهمة الاقتصاد الرقمي في الناتج المحلي الإجمالي تكون في أغلب الأحيان أكثر أهمية في المجتمعات ذات المستويات الاقتصادية المتقدمة، فإنه من المتوقع أن تشهد البلدان النامية تطورًا ونموًا رقميًا سريعًا في السنوات القليلة المقبلة، مع وجود بعض الفروقات الكبيرة وفقًا لموقع تلك المجتمعات، وهو ما من شأنه أن يوفر فرصة للبلدان المنغلقة بسد الفجوة الرقمية وتعزيز مستواها الاقتصادي.
وعلى الرغم مما ذُكر آنفًا، يجب على الدول النامية ضخ الكثير من الاستثمارات في مجال تطبيق التحول الرقمي لكي تجني ثمار عملية التطور التكنولوجي، ما يخلق صراعًا داخل أروقة تلك الدول لحاجتها إلى تنفيذ بعض القضايا العاجلة والأكثر إلحاحًا والمُدرجة على جدول أعمال السياسات العامة لتلك الدول.
قدمت الهواتف المحمولة وبطاقات الهوية الـتي تحمـل السمات الحيوية خدمات حكومية ومصرفية لمئات الملايين من مواطني الهند، كما أصبحت الهواتف المحمولة ذات النطاق العريض هي وسيلة الاتصال الوحيدة بالإنترنت للعديد من المستخدمين الأفارقة.
لا تحظى جميع الدول بمقدار متساوٍ من الاقتصاد الرقمي، بل تهيمن الولايات المتحدة الأميركية والصين على أغلبية نسبة الاقتصاد الرقمي العالمي، بالإضافة إلى بعض الدول الرئيسية الأخرى مثل: اليابان وفرنسا وكندا والهند وتايوان. وتعتبر دول العالم الثالث دولاً منتفعة من منتجات وخدمات الاقتصاد الرقمي التي تقدمها الشركات المالكة لتلك الخدمات والتي تقع مقرها عادة في بلدان أخرى. إذ يتجاوز عدد مستخدمي تطبيق “فيسبوك” وحده 790 مليون مستخدم نشط في كلٍّ من: الهند والبرازيل وإندونيسيا والمكسيك والفلبين وفيتنام وتايلاند. وتزداد مخاوف السيطرة والمراقبة الرقمية وسوء استخدام البيانات بين البلدان النامية مع زيادة شركات التكنولوجيا العالمية التي تقود عملية التحول الرقمي حول العالم؛ لذلك لا يزال يتعين على مئات الملايين من المستخدمين الجدد في دول العالم الثالث معرفة هل هذه المنصات الرقمية تلبي القيم الثقافية والتطلعات الفكرية الخاصة بهم أم لا.
التمحور نحو مزيد من الانفتاح في وضع قواعد الرقمنة العالمية
يتعين على البلدان النامية التحقق من أن الاحتياجات والأولويات الرقمية لها تقع ضمن أطر الحوكمة الرقمية الدولية، لما لها من أهمية في تحديد مدى إمكانية أن تستفيد دول العالم الثالث من الفضاء السيبراني والخدمات التي تعمل على سد الفجوة الرقمية لتلك الدول.
أجرت الأمم المتحدة العديد من المداولات المُتعلقة بأمن البنية التحتية لشبكة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الدولية واستقرار الفضاء السيبراني على مدار عقدين من الزمن، وغالبًا ما تهيمن عليها المواقف الأميركية والروسية والصينية المتنافسة. لكن في الآونة الأخيرة، أدى انهيار نظام المعايير السيبرانية للأمم المتحدة إلى إتاحة المجال لبعض الأساليب والطرق الجديدة والأكثر شمولاً، وهو ما أدى إلى تمكين البلدان التي هي الأقل نموًا من حيث التطور الرقمي من تشكيل قواعد تطبيق الفضاء السيبراني بشكل أكثر نشاطًا.
لم يتم تصحيح التمثيل الهامشي لدول العالم الثالث في الجلسات المغلقة لفريق الخبراء الحكوميين لعام 2018 فقط، بل قام الفريق العامل المفتوح العضوية أيضًا بتوسيع نطاق المشاركة بشكل كبير ليشمل جميع الدول الأعضاء المعنية في الأمم المتحدة ودعم مشاورات الأطراف المستفيدة المتعددة في الفترات الفاصلة بين الدورات. وانحسرت الانتقادات الأولية حول الحاجة إلى التنسيق وفقاً إلى نوعين من العمليات حيث اعتمد كل فريق تقريرًا نهائيًا بإجماع الآراء.
تؤدي منتديات الأمن الإقليمي دورًا هامًا وبارزًا في تلبية احتياجات دول العالم الثالث، وذلك من أجل التنفيذ العملي للقواعد والمعايير والمبادئ الرقمية العالمية. وينبغي أن تعكس تدابير بناء الثقة والقدرات الخصوصيات الثقافية والسياسية التي من الأفضل تناولها ومعالجتها على الصعيد الإقليمي.
ومن الأمثلة على الجهود التنفيذية المبذولة من قبل دول العالم الثالث من أجل تشكيل الأطر الدولية والتأقلم معها لتعزيز التنمية وعملية التحول الرقمي، ما يلي: اعتماد اتفاقية الاتحاد الإفريقي فيما يتعلق بمجال الأمن السيبراني وحماية البيانات الشخصية لعام 2014، وإطلاق برنامج إنماء القدرات السيبرانية في بلدان رابطة أمم جنوب شرق آسيا في عام 2016، والاتفاق على مجموعة من تدابير بناء الثقة لمنظمة الدول الأميركية في عام 2018.
أجرت الأمم المتحدة العديد من المداولات المُتلعقة بأمن البنية التحتية لشبكة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الدولية واستقرار الفضاء السيبراني على مدار عقدين من الزمن، وغالبًا ما تهيمن عليها المواقف الأميركية والروسية والصينية المتنافسة.
تدابير دعم عملية بناء القدرات الرقمية المستدامة
تمثل الأولويات الأمنية وشُح الموارد وقصور الهيئات القانونية المحلية، قلة قليلة من العقبات الكبيرة التي تواجه البلدان النامية أمام عملية بناء القدرات الرقمية المستدامة. بالإضافة إلى أن التوترات الجغرافية السياسية المتزايدة تجعل من عملية تنفيذ القواعد والمعايير والمبادئ السيبرانية مسألة سياسية دقيقة ومعقدة. فمع تقدم الصين بسرعة فائقة في تنفيذ مبادرتها المسماة “طريق الحرير الرقمي” لتوسيع وتأمين بصمتها الرقمية حول العالم، تراجعت الولايات المتحدة الأميركية عن هذه الطموحات وطلبت من حلفائها وشركائها بطريقة صريحة وواضحة اتخاذ “الخيارات الصحيحة التي تقبع في صالحها”. إذ يخشى الغرب من قيام الدول الاستبدادية بتعزيز عملية الرقمنة والتطور السيبراني الخاضع للرقابة الصارمة على حساب حقوق الإنسان وحريته. فالعديد من دول العالم الثالث الآن عالقة في خضم منافسة قوية على النفوذ الاقتصادي والأمني والسياسي الذي توفره مثل تلك التقنيات الرقمية. ومن المحتمل أن يؤدي إجبار تلك الدول على اختيار أحد الجانبين إلى إعاقة قدرتها على اتخاذ أفضل القرارات وتشكيل مسار التقنيات المستقبلية لصالحها.
نص التقرير النهائي للفريق العامل المفتوح العضوية على مبادئ دعم بناء القدرات، إذ لا ينبغي أن تكون الأنشطة مستدامة ومدفوعة بالطلب فقط، بل ينبغي أيضًا أن تكون ملائمة لبعض الاحتياجات المحددة، وتحترم حقوق الإنسان وحريته، وتدعم فضاء سيبرانيًا منفتحًا وآمنًا وسلميًا:
التوترات الجغرافية السياسية المتزايدة تجعل من عملية تنفيذ القواعد والمعايير والمبادئ السيبرانية مسألة سياسية دقيقة ومعقدة.
ولم يتبين بعدُ كيف للمحاولات التالية للأمم المتحدة، بجانب مواصلة التركيز على تنفيذ عملية التحول الرقمي، أن تُترجم أولويات دعم وإدماج التحول الرقمي لدول العالم الثالث لتدخل حيز التنفيذ. حتى ذلك الحين، ستعاني العديد من دول العالم الثالث من الارتياب والشك فيما يتعلق بمستقبل الوسائل والخدمات التكنولوجية الهامة والحديثة. إذ أشارت مقولة المؤلف الروائي الأميركي “ويليام جيبسون” “المستقبل هنا بالفعل لكنه لم يوزع بعدُ بعدالة” إلى وضع دول العالم الثالث بشكل لافت للنظر. فقد وصل المستقبل إلى موطن الأثرياء والمجتمعات المتقدمة، ولكن ليس من أجلهم. فعملية جني فوائد التكنولوجيا الرقمية هي مسؤولية عالمية من أجل تحقيق التنمية المستدامة والرخاء المشترك. ولتحقيق ذلك، ينبغي أن تتولى الدول ذات الاقتصادات المتقدمة، بالتعاون الوثيق مع دول العالم الثالث واسترشادًا بالمبادئ الديمقراطية، عجلة القيادة لضمان توزيع تكنولوجيا المستقبل بشكل متساوٍ وعادلٍ، وهو ما من شأنه تضييق وسد الفجوات والتفاوتات العالمية، وتعزيز الرخاء، وتقوية الأمن والاستقرار الدوليين.
إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات
المصدر: orfamerica
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر