سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
يوسف عادل
سقوط كابول وتوسيع الصدع بين نيودلهي وموسكو
في أول رحلة خارجية له في عام 2014، سافر رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى مدينة فورتاليزا البرازيلية ليحضر قمة البريكس -التي تعقد سنويا وتجمع بين قادة (البرازيل، وروسيا، والهند، وكوريا الجنوبية، وجنوب إفريقيا)– ومقابلة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هامش القمة، وأكد حينها رئيس الوزراء الهندي على عمق النوايا الحسنة للهند تجاه روسيا، وأخبر الرئيس الروسي بوتين ( إنه حتى لو سُأل طفل في الهند عن صديق الهند المفضل سيجيب إنها روسيا، لأن روسيا كانت مع الهند في أوقات الأزمات ).
كانت قمة البريكس تعقد منذ فترة طويلة، ولكن الآن رئيس الوزراء الهندي قد جذب الهند بشكل أكبر من أي وقت مضى إلى الولايات المتحدة الأمريكية والعالم الغربي، وهو أيضا عالق في صراع عميق مع الصين تحت قيادة الرئيس الصيني تشي جين بينغ، وهذا يعني أن ناريندرا مودي عليه إدارة علاقات أكثر تعقيدا مع روسيا.
كل هذه التحولات ستكون على مرأي ومسمع حين سيستضيف مودي بوتين وتشي في قمة البريكس، ومن المرجح أن الجو بينهم سيكون أكثر توترا مما كان عليه في 2014. يستعد مودي أيضا للانضمام إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن في اجتماع شخصي في البيت الأبيض في وقت لاحق.
وإذا كان نزاع نيودلهي المستمر مع بكين وقربها المتزايد من واشنطن قد اكتسبا اهتمامًا متزايدًا، فإن علاقتها مع القوة العظمى الثالثة مع موسكو تمر بتحول أكثر تعقيدًا، لكنه أقل ملاحظًة، وقد تسارع هذا التحول في الأسابيع الأخيرة وسط الخلاف السياسي المتزايد حول أفغانستان، حيث إنه في اجتماع لمجلس الأمن، التابع للأمم المتحدة، الأسبوع الماضي تعاونت الهند فيه مع القوى الغربية الثلاث -(الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، والمملكة المتحدة)– لطرح بعض المطالب الصارمة لطالبان، بينما انضمت روسيا إلى الصين في سعيها لتخفيف لغة القرار الخاص بأفغانستان وامتنعت عن التصويت عليه.
كان هذا النوع من الخلاف بين الهند وروسيا غير وارد على أرض الواقع، حيث إنه لطالما تمتعت الهند بعلاقة قوية مع روسيا والاتحاد السوفيتي من قبلها، حيث تعود جذور هذه العلاقة إلى مناخ تقارب المصالح الدائم على المستويين العالمي والإقليمي بين الدولتين، حيث إنه عندما تحالفت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة مع باكستان -منافس الهند وخصمها الأول -في خمسينيات القرن الماضي، دعم الاتحاد السوفيتي الهند وقدر الهنود هذا الدعم، الدعم الذي تمثل في شحنات السلاح واستخدام حق الفيتو على القرارات المتعلقة بكشمير في مجلس الأمن، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي ظلت روسيا على المستويين الدولي والإقليمي الشريك السياسي الرئيسي للهند، ولكن مع انهيار هذا التقارب بين موسكو ونيودلهي تتعلم الأخيرة التعايش مع الاختلاف المتزايد مع الأولى بشأن القضايا الإقليمية والدولية الرئيسية.
رغم كل ما تم ذكره إلا إن مودي ( رئيس وزراء الهند) ليس مستعدا للتخلي عن الشراكة طويلة الأمد مع روسيا بالرغم من عدم رضا واشنطن عن تلك الشراكة، ولكنه أيضا ليس مستعدا لعدم رضا واستياء روسيا من علاقته مع الولايات المتحدة، والتي هي علاقة أقرب مما كانت عليه في الماضي، كما يدرك مودي أنه أيضًا لا يمكنه الاعتراض على شراكة روسيا الاستراتيجية والمتنامية مع الصين، والتي تحركها التهديدات المشتركة التي تتصورها كل من موسكو وبكين من واشنطن.
مع الوقت تم استبدال شعور الهند بالتعلق بروسيا بشعور بالواقعية في إدارة مودي حول المسارات الإقليمية والدولية المتباينة بشكل متزايد بين البلدين، ويبدو أن مودي مصمم على إدارة مصدر هذا التنافر بهدوء في ظل التوترات التي تحدث في علاقات القوى العظمى.
تدرك روسيا أيضًا أنها لا تستطيع تقييد التعاون الاستراتيجي القوي بين مودي والولايات المتحدة، والذي لم يعد يتخذ مجرد شكل ثنائي، من المؤكد أن موسكو أيضًا مستاءة من الدور المتنامي لنيودلهي في الحوار الأمني الرباعي، المعروف باسم الرباعي الذي يربط الهند ويلزمها بالولايات المتحدة وحلفائها في المحيط الهادي ( اليابان وأستراليا) .
موسكو تلاحظ أيضًا تعاون الهند المتزايد مع الولايات المتحدة وأوروبا في مجموعة من المناسبات متعددة الأطراف، ابتداءً من مجلس الأمن حتى منظمة الصحة العالمية، ولكن على الرغم من استمرار الهند في المشاركة في المؤتمرات والمناسبات التي تستبعد دول الغرب، مثل دول البريكس إلا أن الحوار الأمني الرباعي اكتسب مكانة بارزة في علاقات الهند الدولية.
تعرف روسيا أيضا أن اشتداد النزاع بين الهند والصين يدفع الهند أكثر جانب الولايات المتحدة ولكنها تأمل في استغلال منتدى البريكس لتعزيز التفاعل البناء وتنمية الثقة بين البلدين، لكن الصراع الهندي – الصيني كان عميقا. لذلك، فإن المسكنات الدبلوماسية لن تحل المشكلة؛ هذا يضع روسيا أمام تحدي كبير يتمثل في محاولة موازنة علاقاتها مع الهند والصين وإبقاء الهند إلى جانبها.
تعمق روسيا بشكل مستمر شراكتها مع الصين، والتي أصبحت أكثر أهمية من الناحية الجيوسياسية والاقتصادية من علاقاتها مع الهند، ولكن على الرغم من ذلك فإن موسكو لم تتخل عن الهند طوال الأزمة العسكرية الواقعة مع الصين والقائمة على حدود الهيمالايا، حيث إن موسكو لم تتوقف عن دعم الهند وإمدادها بقطع غيار ومعدات عسكرية، على الرغم من عدم رضا الصينيين.
نلاحظ من كل ما سبق أن كل من موسكو ونيودلهي يتكيفان مع التغير الديناميكي في علاقات كل منهما مع واشنطن وبكين، وتختلف هذه الديناميكية الجيوسياسية الجديدة بشكل كبير عن سياسات القوة العظمى التي جعلت الهند قريبة من روسيا في الماضي.
فخلال الحرب الباردة كانت سياسات الهند القائمة على عدم الانحياز ومعاداة الإمبريالية تتزامن مع بحث السوفيت عن شراكات مع بلدان نامية ليست متحالفة مع الغرب، سعت الهند إلى موازنة مع باكستان المتحالفة مع الولايات المتحدة من خلال تطوير علاقات استراتيجية مع روسيا، كما أن النخبة السياسية الهندية حينها، خاصة اليسار المعاديين للولايات المتحدة وميل الهند نحو السياسات الاقتصادية الاشتراكية أثناء حكم حزب المؤتمر الهندي ودعمها لراديكالية العالم الثالث قد وفر مناخا سياسيا داخل الهند للشراكة الاستراتيجية مع الاتحاد السوفيتي.
ومع ذلك، فإن تعلق نيودلهي بموسكو لم ينته بانهيار الاتحاد السوفيتي، وعلى الرغم من أن الهند بدأت في الانخراط بشكل أكبر مع واشنطن في بداية التسعينيات إلا أن الهند كانت قلقة حول المناخ أحادي القطب الذي يسود النظام العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كما أن سعي إدارة كلينتون النشط لإيجاد حل للنزاع الهندي الباكستاني حول كشمير ومحاولته لدحر برامج الهند الصاروخية والنووية جعل الهند أكثر احتياطا وتمسكا بشراكتها مع موسكو، كما أن التوترات العسكرية المستمرة مع باكستان واعتماد القوات المسلحة الهندية على الأسلحة السوفيتية والروسية من بعدها جعلها استراتيجيا أكثر حكمة بشكل مضاعف.
في الفترة بعد الحرب الباردة كانت الهند تركز على إدارة المصاعب الاستراتيجية التي تواجهها في تلك الفترة، بينما كانت روسيا مهتمة بمشروع أيديولوجي أكبر للحد من قوة الولايات المتحدة، وكانت وسيلتها المختارة عبارة عن تحالف جديد مع الهند والصين يهدف إلى تنمية مناخ عالمي متعدد الأقطاب، وفي النهاية توسع التحالف الثلاثي الذي انطلق في التسعينيات ليشمل منتدى البريكس.
بحلول القرن الحادي والعشرين، أيقنت الهند أنها كانت تتخذ أسلوبا خاطئا تجاه الولايات المتحدة، حيث بدأ الرئيسان جورج بوش الابن وباراك أوباما يتخذان خطى ثابتة نحو تغيير علاقة الولايات المتحدة مع الهند، من خلال تخطي الخلافات السابقة حول كشمير والقضايا النووية.
أثناء ذلك أجبرت مشاكل الهند المتزايدة مع الصين الجانب الهندي على التحول في موقفها الحيادي تجاه الصين، حيث لجأت الهند في النهاية إلى الولايات المتحدة وحلفائها في المحيط الهادي من أجل تحقيق توازن مع الصين، وبعد إدراك واشنطن المتأخر للمخاطر والتحديات التي تمثلها بكين أصبحت الهند ذات أهمية استراتيجية أكبر في النظرة الأمريكية للعالم، وقد ظهر ذلك في قرار إدارة ترامب بوضع الهند في قلب استراتيجية واشنطن الجديدة لمنطقة المحيطين الهندي والهادى.
مع ازدياد حدة المشاكل الروسية الأمريكية، وازدياد عمق التحالف الروسي – الصيني، أصبحت العلاقات الهندية – الروسية مجرد حجر جيوسياسي في رقعة الشطرنج بين الأطراف الأربعة. وإذا كان الخلاف الهندي – الروسي المتزايد في منطقة المحيطين الهندي والهادى يدور حول الصين والولايات المتحدة فإن الخلاف حول أفغانستان يتمركز حول باكستان، وهي جبهة تقترب أكثر من أمن الهند وأكثر خطورة.
على عكس موقف روسيا التي لم تستطع إخفاء شماتتها من الانسحاب الأمريكي المهين من أفغانستان، كانت الهند قلقة للغاية بشأن المخاطر الناشئة عن الانسحاب، حيث إن عقدين من الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان مكن الهند من توسيع نشاطها الاقتصادي والسياسي في أفغانستان بشكل كبير، والآن لا يمكنها التراجع -على الأقل في الوقت الحالي- عن نشاطها في البلاد بعد عودة طالبان بدعم من باكستان.
على مدى سنوات قليلة ماضية، كشفت روسيا عن مشاركتها مع طالبان ونسقت مع باكستان بشأن القضايا المتعلقة بأفغانستان، كما سعت إلى إبقاء الهند خارج عملية القرار الخاص بأفغانستان من خلال الادعاء بأن نيودلهي ليس لها تأثير يذكر على طالبان.
بينما تأمل موسكو أن إسلام آباد وطالبان سيساعدانها على إدارة التحديات الأمنية المستقبلية بشكل أفضل لجنوبها في آسيا الوسطى، فإن نيودلهي مقتنعة بأن أفغانستان بقيادة طالبان ستصبح -مرة أخرى– موطنا للجماعات الإرهابية المناهضة للهند التي تدعمها وتشجعها باكستان؛ فليس من الغريب أن تتخذ نيودلهي موقفا أكثر تشددا من أي طرف آخر في المنطقة ضد طالبان، حتى في الوقت الذي كانت روسيا تحاول فيه إقامة علاقة صداقة مع طالبان.
ولكن على الرغم من الاختلافات الخطيرة القائمة بينهما شجع السقوط السريع لكابول والتطور السريع للوضع الأمني على الأرض؛ قام بوتين ومودي بإنشاء قناة اتصال دائمة بينهما بشأن القضايا المتعلقة بأفغانستان.
في الماضي، كانت نيودلهي تميل إلى مراعاة وتجنب الحساسيات الروسية، حيث كانت الهند من بين الدول القليلة في المنطقة التي لم تكن ترغب في انتقاد الاتحاد السوفيتي علنا لغزو أفغانستان عام 1979، واليوم لم يعد مودي ومستشاري سياسته الخارجية غير مرتاحين لإثارة الخلافات مع روسيا بشأن القضايا الحرجة مثل المحيطين الهندي والهادى، الحوار الأمني الرباعي وأفغانستان، توصلت نيودلهي إلى استراتيجية وسطية تحاول تطبيع العلاقة مع موسكو من خلال توسيع التعاون أينما كان ذلك ممكنا، ولكنها لم تعد تخفي الخلافات القائمة.
تواصل الهند مشاركتها في مجموعة البريكس والمنتديات الأخرى متعددة الأطراف التي تهيمن عليها روسيا والصين، ودون أي قلق بشأن الخلافات المفتوحة مع الأولى والصراعات الجارية مع الأخيرة، في الوقت نفسه تحاول نيودلهي بقوة تعزيز العمل في إطار رباعي.
لا تتعلق الاستراتيجية الهندية بعدم الانحياز أو التحالفات المتعددة، كما قد يميل الكثيرون إلى الاستنتاج، بل بالأحرى السعي القوي إلى سياسة خارجية تقوم على المصالح؛ استراتيجية لم تعد دفاعية –كما كانت سابقا– تتمركز حول الشراكة المتنامية مع الولايات المتحدة والغرب، والتي ستظهر بشكل كبير مستقبلا.
المصدر: مجلة السياسة الدولية
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر