أسباب تفاقم أزمة الطاقة في الدول الأوروبية | مركز سمت للدراسات

أسباب تفاقم أزمة الطاقة في الدول الأوروبية

التاريخ والوقت : الخميس, 28 أكتوبر 2021

نرمين سعيد – نوران عوضين

 

تفاقمت أزمة الطاقة في الدول الأوروبية لتعرقل بذلك عملية الانتعاش الاقتصادي التي يتعطش لها العالم في أعقاب أزمة فيروس كورونا.

إذ أعلنت كبريات الشركات المصنعة، مثل شركة BASF SE الرائدة في مجال الكيماويات، عجزها أمام تلافي تداعيات أزمة زيادة أسعار الكهرباء، على الرغم من قدرتها على توليد 80% من طاقتها المستخدمة في عملية التصنيع. وهو الأمر الذي أكدته شركة (Aurubis)، أكبر منتج للنحاس في القارة الأوروبية، حين أشارت إلى تفاقم تأثير ارتفاع أسعار الطاقة، مما أثر سلبًا على هامش ربح بعض الدول مثل بريطانيا، حيث ساءت الأوضاع إلى حد إغلاق مصنعين للأسمدة. وفي النرويج أوقف مصنع الأمونيا إنتاجه، مما يؤكد أن الوضع في القارة غير مبشر.

مسببات عالمية

(*) حسب التقرير المنشور على موقع بلومبرج، شهدت أوروبا والولايات المتحدة وآسيا ارتفاعًا كبيرًا في أسعار الطاقة مع خروج الاقتصادات العالمية من الوباء. حيث تضاعفت أسعار الغاز في أوروبا إلى أكثر من ثلاثة أضعاف، بينما تضاعفت أسعار الطاقة -بشكل عام- خلال العام الجاري، مما عرقل النشاط الاقتصادي المتراجع بالأساس بسبب تداعيات الجائحة. يأتي هذا في الوقت الذي تقوم فيه روسيا بتصدير كميات أقل من الغاز إلى أوروبا، وسط تطلّعات سوقية للحصول على إمدادات جديدة عبر خط أنابيب “نورد ستريم 2” الذي لم يكتمل بعد والذي يربط بين روسيا وألمانيا.

(*) ووفقًا بلومبرج، تحصل أوروبا على الغاز الروسي أكثر مما تحصل عليه من أي مورد آخر، ومع انخفاض الإنتاج المحلي واحتمال إغلاق حقل غاز “جرونينجن” العملاق في هولندا قبل ثلاث سنوات من الموعد المحدد، تصبح القارة العجوز أكثر عرضة لتقلبات سوق الغاز العالمية، مع الأخذ في الاعتبار أن الأزمة الحالية لا تقتصر فقط على الطلب المرتفع في أوروبا وآسيا، فقد تعطلت إمدادات الغاز من النرويج هذا العام بسبب أعمال الصيانة الثقيلة بعد التأثيرات الناجمة عن الوباء أيضًا. ومن ناحية أخرى، يتطلع المشترون الأوروبيون (مثل شركات الغاز الوطنية) إلى سوق الغاز الطبيعي المسال (LNG) لتعويض النقص، مما عزز التنافس مع مشترين في الصين واليابان، حيث يتزايد الطلب على الغاز الطبيعي المسال، ما أدى في النهاية إلى ارتفاع أسعاره.

(*) دفعت “جوزفين فوكهول”بأن خطط تخفيض انبعاثات الكربون لعبت دورًا في ارتفاع أسعار الطاقة، حيث تدفع المرافق أسعارًا شبه قياسية لشراء تصاريح “الحد من التلوث” الضرورية لمواصلة إنتاج الطاقة من الوقود الأحفوري، ناهيك عن التباطؤ غير المعتاد على صعيد توربينات الرياح التي تولد حوالي 10٪ من الطاقة في أوروبا خلال فصل الصيف. ففي ألمانيا على سبيل المثال، وخلال أول أسبوعين من شهر سبتمبر الجاري، انخفض معدل توليد طاقة الرياح بنسبة 50٪ مقارنة بمتوسط الإنتاج في السنوات الخمس الماضية.

(*) وعليه، تبدو أزمة الطاقة الحالية منطقية ولا سيما في ضوء الخطط الأوروبية الطموحة للحد من انبعاثات الكربون، حيث كشفت الدول الأوروبية في شهر يوليو الماضي عن خطط لخفض الانبعاثات بنسبة 55٪ -على الأقل- بحلول عام 2030 مقارنة بمثيلتها في عام 1990، بينما تمارس باريس ضغوطًا وراء الكواليس لتقليص أو تأخير التخفيض المقترح، وبخاصة في ظل عمليات التدفئة والنقل البري. وفي المملكة المتحدة، تثار تساؤلات عن تكلفة “صافي الصفر”؛ إذ لا يزال من غير الواضح كيفية إقناع 600 ألف شخص سنويًا باستبدال غلايات الغاز بمضخات حرارية باهظة الثمن. فقد اضطرت إسبانيا بالفعل إلى خفض الضرائب على الطاقة مع ارتفاع أسعارها إلى مستويات قياسية. وفي هذا السياق، تمثل التكلفة المرتفعة للطاقة “صداعًا” للسياسيين قبل أقل من 100 يوم من اجتماع قادة العالم في “أسكتلندا”؛ حيث تتخوف الحكومات من ردود أفعال عنيفة. وقد رفض الناخبون السويسريون بالفعل هذا العام قانونًا طموحًا للمناخ من شأنه أن يرفع الضرائب على الطيران والقيادة وغيرهما.

(*) لا تنحصر أزمة الطاقة الأوروبية في نقص واردات الغاز الطبيعي؛ بل تمتد لتطال ارتفاع أسعار الفحم أيضًا، إذ تتجه شركات الطاقة الأوروبية إلى الفحم عند ارتفاع أسعار الغاز ومصادر الطاقة البديلة، بيد أن تضاؤل المعروض من المناجم الأوروبية وارتفاع الطلب الصيني أدى إلى ارتفاع أسعار المواد السوداء أيضًا، ناهيك عن التكلفة المتزايدة لتصاريح الكربون الأوروبية من حوالي 30 يورو للطن في بداية العام الجاري إلى 63 يورو في أوائل شهر سبتمبر الجاري، وإذا تزايد حرق الفحم للتعويض عن ندرة الغاز الطبيعي؛ فسيزداد بالتبعية الطلب على التصاريح، مما سيرفع سعرها مرة أخرى.

تداعيات الأزمة

(*) يتوقع التحليل المنشور على موقع The Economist أن تظل الأسعار مرتفعة طوال فصل الشتاء، لا سيما مع وصول الطلب على التدفئة والطاقة إلى ذروته. ولمواجهة ذلك، أقر مجلس الوزراء الإسباني إجراءات طارئة لوضع حد لسعر الغاز وأرباح شركات المرافق، بينما تراجع الحكومة الإيطالية كيفية احتساب فواتير الكهرباء. لكن ذلك لا يعني بالضرورة قدرة صانعي السياسات على حماية المستهلكين من تداعيات نقص الغاز الطبيعي، ومن ثم يعتقد بعض المحللين أن الشتاء البارد قد يؤدي إلى انقطاع التيار الكهربائي وانخفاض فواتير المرافق العامة. كما تواجه الشركات الأوروبية الصغيرة كثيفة استهلاك الطاقة صعوبات هي الأخرى مع عدم امتلاكها عادةً منشآت إنتاج طاقة خاصة بها من ناحية، وتراجع قدرتها على الوصول إلى أدوات بديلة متطورة من ناحية أخرى.

(*) دفع “وليم وليكس” بأن شركة “جولدمان ساكس جروب” قد تواجه انقطاعًا في التيار الكهربائي خلال فصل الشتاء القادم، داعيًا إلى الحدّ من معدلات الاستهلاك الحالي تحسبًا لموسم التدفئة المقبل، وبخاصة مع وصول المخزون إلى أدنى مستوى له منذ أكثر من عقد مضى. وعلى صعيدٍ متصل، أشارت “آنا شيريا يفسكايا”إلى أن شبكة الغاز الطبيعي المسال الواسعة -التي تغطي العديد من المناطق الأوروبية- لن تتمكن من إنقاذ القارة من قساوة الشتاء القادم. ومن ناحية أخرى، يتوقع استمرار ارتفاع أسعار الغاز ومصادر الطاقة المتجددة ذات الأداء الضعيف حتى نهاية عام 2021، الأمر الذي يُهدد مشاريع وخطط نزع الكربون الذي تنشد الدول الأوروبية تحقيق.

البدائل المتاحة

(*) يسد الغاز الطبيعي فجوات إنتاج الطاقة الأخرى، وقد أدى تداخل الجفاف مع إنتاج الطاقة الكهرومائية إلى ارتفاع سعر التصاريح اللازمة لانبعاث الكربون في الاتحاد الأوروبي، مما أسفر بدوره عن ارتفاع أسعار الفحم. وعليه، قد تُضطر الدول الأوروبية إلى إقناع الشركات والأسر باستخدام كميات أقل من الطاقة، بيد أن التدخلات الحكومية ودعم الغاز لن يؤدي إلا إلى تفاقم الأمور، حيث تثير الطاقة الباهظة غضب الناخبين وتؤذي الفقراء. أما دعم الطاقة في حالة إيطاليا أو تحديد الأسعار في حالة بريطانيا فسيؤدي إلى تفاقم النقص، ويفرغ التزام السياسيين من التحول الأخضر.

(*) وعليه، يجب على الحكومات استخدام نظام الرفاهية لدعم دخول الأسر -إذا لزم الأمر- مع مساعدة أسواق الطاقة على العمل بكفاءة. وفي الأجل الطويل، يتمثل التحدي في تخفيف تقلبات الأسعار مع استمرار التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة. وفي نهاية المطاف، قد يحل التخزين الرخيص للبطاريات مشكلة التقطع الذي تعاني منه مصادر الطاقة المتجددة.

(*) يتفق ما سبق مع ما أوضحه “هيلين تومبسون” في مقاله المنشور على موقع “فاينانشيال تايمز”؛ فقد تزامنت أزمة الغاز مع أزمات مماثلة على صعيد مصادر الطاقة المتجددة. وعليه، لا توجد حلول لهذه الأزمة وبخاصة مع تحكم الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” المحتمل في الخيارات الأوروبية، ذلك أن الفشل الروسي في تلبية الطلب الأوروبي الأخير على الغاز كان متعمدًا لتسليط الضوء على الحاجة إلى “نورد ستريم 2″، وبالتالي تجاوز العديد من التأخيرات القانونية والبيروقراطية التي لا تزال تقوض توصيل الغاز من روسيا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق. وفي النهاية، يمكن فرض أسعار طاقة عالية أو تقنين أسعارها من قبل الدول الأوروبية؛ وقد تبنت بعض الدول الخيار الأول لدعم تكلفة الطاقة المنزلية وتقديم ائتمان طارئ لشركات الطاقة. في حين يشبه الخيار الثاني -إلى حد كبير- العودة إلى الاعتماد على الغاز الروسي للإيفاء بالالتزامات الخضراء.

هل القادم أسوأ؟

(*) قد يسهم تراجع الطلب في القارة الآسيوية -بعد انتهاء فصل الصيف- في دفع التفاؤل الأوروبي، على نحو يخلق فائض تصدير يسمح بإعادة ملء الخزانات؛ إلا أن توقعات السوق حاليًّا تشير إلى أن القادم أسوأ على صعيد أسعار الطاقة، كما تشير أيضًا إلى أن برودة الشتاء القادم -على وجه التحديد- يمكن أن تدفع سعر برميل النفط الواحد إلى 100 دولار محطمًا الأرقام القياسية، خصوصًا في ظل تراجع احتياطات الغاز والفحم إلى مستويات أقل بكثير مما كانت عليه في هذا التوقيت من العام منذ عقود. إن محدودية الإمدادات التي تصل إلى أوروبا من الغاز الروسي، وتراجع إنتاج بحر الشمال، والمنافسة المحتدمة في آسيا على الغاز الطبيعي المسال؛ قد تؤدي إلى تأجيج حالة ارتفاع الأسعار لتدفع المشهد القادم إلى سيناريو هو الأشد قتامة.

 

المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر