سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
محمد الدخاخني
من السّهل التكهن بأن الصيف قد انتهى؛ لأنّ المشاحنات بين تركيا واليونان، اللتين تتصارعان على السّيادة السّياسيّة في جنوب شرق أوروبا، اندلعت من جديد بعد هدنة ضمنيّة في الوقت المناسب لموسم السّياحة في كلا البلدين.
حضر وزير الخارجيّة اليونانيّ، نيكوس ديندياس، الأسبوع الماضي، افتتاح المتحف البيزنطيّ والمسيحيّ واغتنم الفرصة للتّنديد بخصم اليونان، قائلاً: “نتوقّع أن تغيّر تركيا سياستها العثمانيّة الجديدة… [و] تحترم الآثار التي أقامتها الحضارات الرّوحيّة القويّة الأخرى على أراضيها”، في إشارة إلى إعادة تحويل تركيا لبناء آيا صوفيا الأيقونيّ في إسطنبول، عام 2020، إلى مسجد.
بالنّسبة إلى الكنيسة الأرثوذكسيّة اليونانيّة، التي يتبعها 90% من اليونانيّين، كانت هذه الخطوة بمثابة ضربة قاصمة، بنى البيزنطيّون آيا صوفيا عام 537 ككاتدرائيّة بطريركيّة للكنيسة، قبل أن يحوّلها العثمانيّون الفاتحون إلى مسجد، عام 1453، وجعلها مؤسّس تركيا، مصطفى كمال أتاتورك، متحفاً في الثّلاثينيّات من القرن العشرين.
كمال أتاتورك، الذي كان لواءً مغتراً بنفسه خلال حرب الاستقلال التّركيّة، حشد المشاعر القوميّة وبنى جيشاً تركيّاً شرساً من القوّات العثمانيّة المنتشرة في كافّة أنحاء الأناضول في نهاية الحرب العالميّة الأولى، قبل قرن من الزّمان، في مثل هذا الشّهر، قاد الكتيبة التركيّة التي اشتبكت مع قوّة يونانيّة بقيادة الملك قسطنطين الأوّل على طول نهر سكاريا، خارج أنقرة، وتصدّت لها في النّهاية.
أجرى الخصمان التركي واليوناني أكثر من 60 جولة من المحادثات على مدى العقدين الماضيين، لكنّهما غير قادرين حتّى على الاتّفاق على نقاط النّقاش
احتفل الرّئيس التّركي، رجب طيب أردوغان، بالذّكرى المئويّة لانتصار سكاريا الحاسم، الأسبوع الماضي، ولم يكن مفاجئاً أنّه رأى في ذلك لحظةً مناسبةً لانتقاد اليونان، قال: “هذه الحلقة من تاريخنا أظهرت لنا أيضاً الوجه الحقيقيّ لعدوّنا، الّذي أضرم النّار ودمّر كلّ شيء في طريقه أثناء انسحابه من سكاريا”.
تاريخ العداء
يعود تاريخ تبادل الاتّهامات بين القادة الأتراك واليونانيّين إلى ما لا يقلّ عن ألف وخمسمائة عام، إلى القرن السّادس، بعد لقائه كبار المسؤولين في القسطنطينيّة، اتّهم تاردوس، رئيس الخاقانية التّركيّة، البيزنطيّين بـ “التّحدّث بعشرة ألسنة والكذّب بهم جميعاً”، لكنّ موقعة ساكاريا مهّدت للفترة الممتدّة الوحيدة من الصّداقة التّركيّة اليونانيّة في العصر الحديث.
استسلّمت اليونان بعد ذلك بعام، وحدّدت معاهدة لوزان حدود الدّولتين وتبادلاً سكانيّاً هائلاً، مئات الآلاف من المسلمين الأتراك في اليونان والمسيحيّين اليونانيّين في تركيا تحرّكوا عبر بحر إيجه، خاتمة مظلمة ميّزت الدّولتين أيضاً على أنّهما متساويتان.
في الثّلاثينيّات من القرن العشرين، وافقت الجارتان على حقوق التّجارة والملاحة، وعقدتا ميثاق صداقة ودّيّة، ووقّعتا معاهدة دفاع مشترك مع الحلفاء الإقليميّين، وخلال الحرب العالميّة الثّانية، نقلت تركيا مساعدات غذائيّة لليونانيّين الّذين كانوا يواجهون مجاعةً في ظلّ احتلال دول المحور. قاتل البلدان في الحرب الكوريّة، وعام 1952 رُحِّب بهما معاً في حلف شمال الأطلسيّ، وفي العام نفسه، أصبح الملك بول أوّل ملك يونانيّ يزور تركيا، وردّ الرّئيس التّركي، جلال بايار، الجميل، وعام 1953، وقّعت تركيا واليونان ويوغوسلافيا اتّفاقيّة دفاع لردع التّوسّع السّوفيتيّ.
بدا كلّ شيء بأفضل حال، ولكن تحت السّطح، كانت قوى الظّلام تتّجه نحو الاصطدام. تحرّك القبارصة اليونانيّون بهدوء نحو الكفاح المسلّح من أجل الاتّحاد مع اليونان، المعروف أيضاً باسم “إينوسيس”، وعام 1954، حثّت أثينا الأمم المتّحدة على المطالبة بتقرير مصير قبرص، ممّا أدّى إلى ردّ فعل قوميّ في تركيا، لا سيّما إنشاء جمعيّة “قبرص تركيّة”.
كانت الدّولة التّركيّة تضغط على مواطنيها من أصل يونانيّ محلّياً لسنوات، وعام 1932، منع البرلمان التّركيّ اليونانيّين في تركيا، يُذكَر أنّ أكثر من 100,000 قد أُعفوا من عمليّة التّبادل السّكانيّ، من عشرات المهن الكبرى، بما في ذلك الطّبّ والقانون والنّجارة، وبعد عقد من الزّمان، فرضت الدّولة التّركيّة ضريبة ثروة على الأقلّيّات غير المسلمة رأى كثيرون أنّها تستهدف الشّركات اليونانيّة، وفي هذا الوقت تقريباً، وضعت اليونان قانوناً للجنسيّة يمكن بموجبه حرمان أيّ شخص غير يونانيّ من الجنسيّة، ومن بين هؤلاء الـ 100,000 مسلم تركيّ الّذين سكنوا تراقيا الغربيّة، وغادروا تركيا دون نيّة للعودة.
بعد انتشار إشاعات عن هجوم بالقنابل
بحلول صيف عام 1955، كانت الصّحف التّركيّة تتّهم البطريرك المسكونيّ للقسطنطينيّة بجمع تبرّعات من أجل اتّحاد “إنوسيس”، وتهدّد بمعاقبة اليونانيّين في إسطنبول ردّاً على ذلك، وبعد انتشار إشاعات عن هجوم بالقنابل اليونانيّة على القنصليّة التّركيّة في ثيسالونيكي، موطن طفولة أتاتورك، حيث قام موظّف تركيّ في الواقع بزرع قنبلة، شرعت عصابة تركيّة في حملة هياج لمدّة 10 ساعات طوال الّليل ضدّ الجالية اليونانيّة في حي بيوغلو في إسطنبول، وتعرّض الأرمن واليهود للاعتداء، وقُتل أكثر من عشرة أشخاص، ودُمّرت مئات المتاجر حرقاً وتخريباً.
أدّت المذبحة إلى تسريع الهجرة الجماعيّة لليونان من تركيا، من 70,000 في عام 1950 إلى عدد قليل يصل إلى 3000 اليوم، وحوّلت الأصدقاء الواعدين إلى أعداء لدودين، وعام 1971، أغلقت تركيا معهد هالكي في إسطنبول، المكان الوحيد في البلاد الذي يمكن أن يتعلّم فيه رجال الدّين الأرثوذكس، وبعد ثلاثة أعوام، غزا الجيش التّركيّ قبرص لدرء انقلاب، ممّا أدّى إلى الانقسام القائم اليوم: جمهوريّة قبرص العضو في الاتّحاد الأوروبيّ في الجنوب وفوقها جمهوريّة شمال قبرص التّركيّة، المعترف بها من قِبل أنقرة فقط.
من المتوقّع استمرار الخلاف في المستقبل المنظور. وعلى الأقلّ حتّى مجيء الحلقة التّالية المغيّرة لقواعد الّلعبة، ستستمرّ أثينا وأنقرة في ازدراء بعضهما البعض
اندلعت حرب يونانيّة تركيّة في الأفق، عام 1987، ومرّةً أخرى، عام 1995، في المرّتين بسبب نزاعات على جزيرة بحر إيجه، أصبحت انتهاكات المجال الجويّ بين الدّولتين حدثاً يوميّاً، إلى جانب التّبادل شبه المستمرّ للتّهديدات والتّحذيرات، عندما توقّفت سفينة تابعة للبحريّة اليونانيّة في جزيرة كاستيلوريزو اليونانيّة قبالة السّاحل التّركي، في آب (أغسطس) 2020، سارعت أنقرة بطائرات هليكوبتر هجوميّة، ممّا وضع الجانبين على شفا الحرب مرّةً أخرى.
كما يحدث مع زوجين بينهما مشاحنات طويلة، عندما تنبثق قضيّة واحدة، تطفو على السّطح مجموعة كاملة من الخلافات، تتسرّب الخلافات الدّينية إلى قبرص، وهو ما يمسّ الحقوق الهيدروكربونيّة والبحريّة، وهو ما يشير بدوره إلى مطالبات إقليميّة، وأمن حدوديّ، وجرف قاريّ. القضايا الّتي تفصل بين تركيا واليونان، بما في ذلك اللاجئون والهجرة، ومراقبة الحدود والسّيادة، والتّحالفات الدّوليّة، والسّعي للحصول على موارد الطّاقة، من بين القضايا الأكثر أهميّة بالنّسبة إلى الاتّحاد الأوروبيّ، ومع ذلك، فقد أجرى الخصمان أكثر من 60 جولة من المحادثات على مدى العقدين الماضيين، لكنّهما غير قادرين حتّى على الاتّفاق على نقاط النّقاش.
لا أفق للتراجع
من غير المحتمل أن يتراجع أيّ من الجانبين قريباً، إذا كانت الثّقة العسكريّة تمثّل أيّ مؤشّر، تستعدّ تركيا لإطلاق أوّل حاملة طائرات محلّية الصّنع، ووضعها إلى جانب أسطولها من الطّائرات بدون طيار المتطوّرة والمتميّزة. تحرّكت اليونان لتحديث أسطولها البحريّ، ووقّعت صفقات دفاعيّة كبرى مع إسرائيل وحلفاء إقليميّين آخرين، وفي نيسان (أبريل)، أجرى سلاح الجوّ اليونانيّ تدريبات مشتركة مع العديد من هذه الدّول.
تأتي فرصة أخرى مع انعقاد الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، سيكون السيّد ديندياس في نيويورك وقد حدّد مواعيد لعقد عشرة اجتماعات، بالرّغم من عدم وجود أيّة اجتماعات مع كبار المسؤولين الأتراك، ومن المتوقّع أيضاً حضور أردوغان، لكنّ تركيزه سينصبّ على تقديم كتابه الجديد “عالم أكثر عدلاً ممكن”، والّذي يشير إلى إصلاحات للنّظام الدّولي المنهار.
من المتوقّع استمرار الخلاف في المستقبل المنظور. وعلى الأقلّ حتّى مجيء الحلقة التّالية المغيّرة لقواعد الّلعبة، ستستمرّ أثينا وأنقرة في ازدراء بعضهما البعض.
المصدر: حفريات
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر