يبدو أن هناك منطقة لم يسبق لمعظم الأميركيين أن سمعوا بها، ولكنها تهدد بأن تصبح موضوع التركيز الكبير المقبل في المعركة ضد «القاعدة» و«داعش» وتنظيمات أخرى متحالفة معها.
إنها منطقة «الساحل،» وهي عبارة عن شريط شبه قاحل من الأراضي العشبية يمتد عبر أفريقيا الشمالية جنوب الصحراء مباشرة. فبعد قرابة 10 سنوات من القتال غير الحاسم، يقوم اللاعبون العسكريون الخارجيون الرئيسيون الآن – بقيادة قوة لها تجربة إستعمارية سابقة وهي فرنسا وبمشاركة دول أوروبية أخرى والولايات المتحدة – بإعادة تقييم خياراتهم.
بلدان منطقة «الساحل» المتضررة من الإرهاب : مالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو. ففي هذه المنطقة تبنت الحكومات الغربية استراتيجية تقوم على ثلاثة أركان: 5 آلاف جندي فرنسي يديرون عمليات محاربة الإرهاب، مع دعم لوجيستي واستخباراتي وبقوات خاصة من الولايات المتحدة، وجيوش محلية تخضع للتدريب وترقية معداتها، وأوروبا تضخ مساعدات مالية وتنموية كبيرة الحجم.
وهناك أوجه شبه أخرى. ومن ذلك أن عدد الهجمات التي تشنها التنظيمات المتطرفة، على جنود الجيوش المحلية والمدنيين، آخذ في ارتفاع. وعلى سبيل المثال، فإن غارة في مالي العام الماضي حصدت أرواح نحو 100 قروي. وهذا العام، قُتل أكثر من مئة في هجوم في النيجر. وقبل ثلاثة أشهر، قتل متمردون «إسلاميون» 160 قروياً على الأقل في شمال بوركينا فاسو.
كما أن هناك النوع نفسه من الاستياء من الحكومات والجيوش الحكومية على غرار ما كان عليه الحال في أفغانستان. فالفساد والمعاناة الاقتصادية يغذّيان التظلمات السياسية في المناطق الريفية. وكذلك تفعل الفظاعات. وفي هذا السياق، وثّقت منظمة «هيومان رايتس ووتش» مؤخراً مئات «أعمال القتل غير القانونية» التي نُفّذت في عمليات لمحاربة الإرهاب من قبل جنود من مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
أمر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخراً بخفض عدد الجنود الفرنسيين في منطقة «الساحل» اعتباراً من بداية العام المقبل، باحثاً عن طريقة أكثر استدامة لاحتواء القوات الإسلامية وإرساء الاستقرار في المنطقة. وقال إن فرنسا لن تخوض حرباً «إلى ما لا نهاية»، محذراً من «أننا لا نستطيع تأمين مناطق تغرق في الفوضى وانعدام الأمن من جديد لأن دولاً قررت عدم تحمل المسؤولية».
أحد الخيارات التي استبعدها ماكرون حتى الآن هو نهاية شاملة وسريعة على النمط الأميركي للمهمة الفرنسية في منطقة «الساحل». والأرجح أنه استمع إلى التعليق القوي والمقتضب لزعيم إسلامي في مالي، إياد أغ غالي، على انتصار «طالبان» في أفغانستان: «عقدان من الصبر…».
وهكذا، فإنه يعتزم الإبقاء على نحو 2500 جندي فرنسي. ولكن الهدف هو جعلهم العمود الفقري لقوة جديدة يتم إنشاؤها، تدعى «تبوكا»، وتشمل جنوداً من بلدان أوروبية أخرى أيضاً.
وفي مقاربة يأمل أن تُظهر نجاحاً سينتقل التركيز إلى عمليات محاربة الإرهاب المستهدفة وبرامج التدريب العسكري المكثفة لجنود بلدان منطقة الساحل.
ماكرون لم يخفِ استياءه بسبب الاضطرابات الداخلية التي تعصف بشركاء مهمين في منطقة الساحل – انقلابان عسكريان في مالي، واغتيال الرئيس التشادي الذي حكم البلاد لفترة طويلة العام الماضي. كما أنه ليس بصدد بناء الدول. غير أنه يرى أن الاستقرار على المدى الطويل يعتمد على استخدام حكومات الساحل مليارات الدولارات التي تتلقاها من مساعدات التنمية الأوروبية للفوز في معركة القلوب والعقول ضد المتطرفين
ماكرون وزعماء أوروبيون آخرون، ما زالوا مقتنعين بأن لديهم مصلحة مستمرة في محاولة إنجاح تلك الاستراتيجية. وأحد الأسباب المهمة لذلك قد يكون هو أنه إذا كانت كابول تبعد عن الولايات المتحدة بنحو 11 ألف كيلومتر، فإن منطقة الساحل توجد على الخاصرة الجنوبية لأوروبا. وبالنظر إلى مئات الآلاف من الأشخاص الذين نزحوا عن مناطقهم بسبب القتال، فإن المنطقة تمثّل مصدراً ممكناً لارتفاع جديد للاجئين.
ومن الواضح أن الزعيم الفرنسي يعتقد أيضاً أن الطريقة التي انسحب بها الجنود الأميركيون من كابول الشهر الماضي – من دون أي إشعار لحلفائهم تقريباً – يضفي قدراً أكبر من التبرير والمصداقية على دعواته الأخيرة لأوروبا من أجل تأكيد «استقلالية استراتيجية» عن واشنطن بشأن التحديات القريبة من حدودها.
وليس في منطقة الساحل فقط. فهذا الأسبوع فقط، أعلن ماكرون في قمة في بغداد أنه «بغض النظر عن الاختيار الذي سيقوم به الأميركيون، فإننا سنبقي على وجودنا في العراق من أجل محاربة الإرهاب».
ثم هناك درس أخير، وأساسي ربما، يبدو أن ماكرون قد استخلصه من المراحل الأخيرة لحرب أفغانستان، درس يمكن أن يؤدي إلى اشتباك دبلوماسي صعب في الشهور المقبلة مع الرئيس بايدن.
والواقع أن واشنطن تتقاسم بواعث قلق باريس في منطقة الساحل، أشار بايدن إلى تهديدات «إرهابية» في أماكن أخرى في العالم، مشيراً إلى أفريقيا بشكل صريح، كما أن كلا الرئيسين يقران بأهمية استمرار الدور العسكري الأميركي في منطقة الساحل.
ولكن الأميركيين أشاروا إلى أنهم قد يكونون منفتحين على إمكانية التفاوض مع متمردي «منطقة الساحل»، أو على الأقل مع أولئك الذين لم يتورطوا منهم في هجمات إرهابية بشكل مباشر. والحال أنه بالنسبة لماكرون، لطالما شكّل ذلك خطاً أحمر.