حيازة المكان والمُتخيل | مركز سمت للدراسات

حيازة المكان والمُتخيل

التاريخ والوقت : الأربعاء, 1 نوفمبر 2017

د. منيرة الغدير

 

 

كنتُ بيتك. وعندما تغادر، متخليًا عن هذا المسكن، أنا لا أعرف ماذا أفعل مع جدراني؟ هل كان لدي جسد في أي وقت مضى غير الذي شيدتَ وفقًا لفكرتك عنه؟ هل سبق لي أن جربتُ جلدًا آخر غير الذي أردتَ مني أن أسكن في داخله؟  لوس إيريغاراي

 

في هذا المقطع الذي ترجمته عن الفرنسية، تتأمل وتتساءل الفيلسوفة لوس إيريغاراي، عن علاقة الجسد الأنثوي بالمسكن، البيت، الذي شيَّدته أنت كرجل، ورسمتَ تخومه حسب فكرتك المسبقة عن هذا الجسد الأنثوي الذي لا تملك المرأة غيره؛ لكي تفكك فرضياته المتخيلة التي تتحكم في الفضاء الخاص والعام. المسكن/ المكان، ليس حيزًا معماريًا فقط، بل بُني على مفاهيم متعددة عبر الأزمنة. وفي كتبها، تركز “إيريغاراي” على تحليل دلالات “المسكن، المكان الحميم” في الخطاب الفلسفي الغربي، “وعلى وجه الخصوص، لدى دريدا، وتاريخ كامل للفلاسفة الغربيين، كما تعتمد بشكل كبير على استعارات البيت، السكن، البناء، الحفر، المقابر، الأطلال، المعابد، المنازل، الكهوف، السجون،” كما تخبرنا إليزابيث غروتز.

 وفي سياقنا المحلي، نجد أن الفضاء، المكان، الحيز، ليس مقصورًا على التصميم المعماري المادي أيضًا، بل تمَّ تشكيل المكان بناء على ثقافة وإيحاءات اجتماعية قسمته وحشدته بالتمثيلات السيميائية التي قد تتجاوز رمزيتها ما وظفته العمارة العربية. وعلى الرغم من أن روايات المرأة السعودية كتبتْ بطريركية المكان، فقلّما نجد تحليلًا نظريًا يناقش اختلاف وجندرية الأمكنة، وإن كان هذا الغياب التحليلي يُلاحظ في نظريات العمارة بشكل عام، كما تشير إليزابيث غروتز: “نادرًا ما كانت المفاهيم المكانية والزمانية، هي الهدف الجلي للتفكير النسوي.”

نعيش في المملكة على مسرح تتفاعل فيه الأحداث وردود الفعل بعد التغيرات الجديدة والمتعلقة بإعادة تخطيط الفضاء العام، وخاصة المتعلق بمشاركة المرأة: السماح للعائلات بحضور المباريات، قيادة المرأة للسيارة، افتتاح صالات السينما، المسارح، وكل هذا سينعكس على تشكيل الفضاءات الأخرى، مثل: الطرق، قاعات المحاضرات، المقاهي، مراكز الترفيه، وغيرها من الأماكن العامة وما تحمله من أبعاد ثقافية واجتماعية مغايرة. وسترسم جغرافية هذه الفضاءات، حركة الأجساد فيها، وعلاقتها مع الأنوثة التي كانت شبه مغيبة، بما في ذلك الأسرة التي نالها التقسيم بسبب إخفاقات المشروع الحداثي والحضري. ولعقود اعتاد بعضنا أن يصعد الطائرة في رحلة للخارج، أو يعبر الجسر إلى مدينة خليجية، وتتغير إلى حد ما علاقته مع الجسد والمكان؛ وحين يعود يتجزأ حرصًا على الانقسام المكاني الفصامي الذي تماهى الأفراد مع لغته المعمارية وحواجزها.

 

ولكيلا تمر القرارات الجديدة باحتفالية عابرة، أو عبارات ساخرة فاضت بها بعض “الهاشتاقات”، نحتاج إلى قراءات متفحصة ودراسات تناقش هذه التحولات التي ستبلور معالم هذا التغيير في الفضاء العام في المدن السعودية، وخاصة لأننا نفتقر إلى الأبحاث النظرية المستفيضة عن علاقتنا بالمكان، وعمارته، وتشكيلات الحيز الأنثوي فيه. مثل هذه الدراسات النظرية، ستمنحنا سياقًا ننطلق منه لنقاش وفهم العلاقات المكانية وانعكاساتها على السلوك الاجتماعي بكل أنواعه. فالمكان يشكل حركة هوية الفرد، وطرائق تواصله وعلاقته بالآخر. فكيف نعيد تشكيل وفهم علاقتنا بهذه الفضاءات الجديدة التي كانت تَفصل، وتُقسم وتُغيب أفرادًا من المجتمع حسب هرمية السلطة بشتى تمثيلاتها؟ وفي جملة قصيرة، وصفت لوس إيريغاراي، مشهدًا يشبه مشهدنا وعلاقتنا بالجسد الذي نخفيه أو نمحوه في عوالم متخيلة: “في ثقافتنا تغلبت النظرة على الرائحة، والطعم، واللمس، والسمع، وجلبت إفقارًا في العلاقات. اللحظة التي تسيطر فيها النظرة، الجسد يفقد ماديته.”

 

المكان الذي نقطنه يقتضي قراءة تقسيماته، وتحليل الحواجز المادية والثقافية الغائرة في ملامحه، التي تشكل أكثر الأشياء الصامتة كلامًا ورمزية، وهنا أستدعي عبارة إدوارد هول الشهيرة “المكان يتكلم” في كتابه (اللغة الصامتة) التي حلل فيها التواصل الثقافي عبر لغة الرموز والأشياء التي نتعامل معها كجماد أخرس. وأعتقد أن أكثر الأمكنة رمزية، هي تلك المساحات التي شيدت لاحتواء  النساء واستبعادهن، أو طمسهن. بالإضافة إلى أن المرأة – في الغالب – لا تملك سوى مساحة ضيقة في الأماكن والمرافق العامة التي تتمثل في تقشف الأقسام النسائية في بعض الوزارات والهيئات. هذه الفضاءات المقتطعة عنوة من المبنى الرئيسي المهيب، تدعو لإعادة هيكلتها وإنتاجها؛ لأنها تحدُّ من مساهمة المرأة إداريًا واقتصاديًا، وتعيق التعبير عن الذات، بل إنها تكرس لتهميشٍ لا ينفك من بث سطوة رمزيته.

 

ولكي نساهم في تجربة المكان الجديد وتطوير الوعي الحضري الرفيع، لا بدَّ أن نغير تصورنا وفهمنا للمكان والمساحات المشتركة والسيادة على الفضاء، والتي ستجسد قيمًا ثقافية تجعلنا ندرك علاقتنا بالفضاءات العامة، وخاصة ذات الهوية الجندرية.

 

أكاديمية سعودية درّست في جامعتي كولومبيا وهارفارد*

@arabia77

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر