سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
محمد وردي
خلال العقدين الأخيرَين على أقل تقدير، غلب الطابع الديني على معالجات موضوع “التطرف”؛ أي اعتباره حالة دينية تستدعي الاهتمام بالخطاب اللاهوتي عموماً والإسلامي خصوصاً.
ولكننا نظن أن التطرف ليس حالة دينية فقط؛ فهناك أنواع أخرى من التطرف، لا تقل عنفاً عن التطرف باسم الأديان؛ لا بل ربما تفوقت على التطرف الديني إجراماً وتوحشاً، إذ على الدوام كانت السياسة ميداناً خصباً للتطرف بأقسى وأبشع أنواعه، ونماذجه القريبة في التاريخ متعددة؛ لعل أقساها وأعنفها الحرب الكونية الثانية.
وبعدها ظهرت في الستينيات الماضية توجهات “يسار اليسار” الراديكالية، التي قامت على بنية التطرف الديني؛ أي على القاعدة الشهيرة “نحن على صواب، والآخرون على خطأ”؛ حتى لو كانوا ينهلون من المشارب العقائدية عينها، كما حصل في ممارسة بعض التيارات الاشتراكية والماركسية والقومية ضد رفاقها من التيارات عينها، مثلما فعل هتلر وستالين (على المستوى الدولي)، وحافظ الأسد وصدام حسين (على الصعيد العربي)، وهناك نماذج أخرى متعددة على مستوى العالم أجمع.
وبعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك، أطلق الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش الابن، مقولته الشهيرة “من ليس معنا فهو ضدنا”؛ فأسست لأشكالٍ متعددة من التطرف، يتدثر بعباءات خادعة؛ مثل “الانتصار للحق” أو “للعقلانية/ المنطقية”، أو حتى “للكرامة الإنسانية”، وأدت جميعها إلى ممارسة الاضطهاد المعنوي ضد المخالفين الأمريكيين من النخب كافة، فضلاً عن العنف المادي، الذي مورس ضد الآخرين من غير الأمريكيين، تحت شعار “الحرب العادلة” أو “الحرب على الإرهاب”، التي جرت نحو اثنتين وثلاثين دولة من العالم المتمدن إلى العنف؛ على الرغم من يقين العالم بأنه لا توجد حرب عادلة. ولذلك لم تحصل على تفويضٍ دولي من قِبل الأمم المتحدة. وقبل ذلك بأزمان طويلة؛ مارس الأباطرة وجميع الديكتاتوريات المستبدة في العالم التطرف؛ ضد المخالفين أو المعارضين سياسياً وفكرياً أو ثقافياً.
ما يعني أن التطرف ليس مجرد ممارسة فكرية/ دينية مغالية لشخصية أو جماعة معينة، كما أنه ليس سمة عرقية أو ثقافية، تختص بها ثقافة دون غيرها، أو شعب دون سواه، وإنما هو في الأصل والجوهر، تفكير شيطاني خبيث، يشوه جوهر الأنسنة، فيزيح تجلياتها الأخلاقية والدينية جانباً، ويعمل على بعث الثقافة البدائية من رقادها العميق؛ بل يعيد إحياء سيرة التوحش الإنساني في التاريخ.
إذن؛ من أين يأتي التطرف؟ أو كيف يحدث الشر؟
في الواقع؛ ينضح التطرف عنفه وتوحشه من بنية ذهنية راسخة أو أصيلة، تؤسسها نزعات دفينة في النفس، هي في الغالب نزعات لا واعية، أي لا عقلانية، وتعززها البيئة الثقافية مع موروثاتها، التي تلعب الدور الرئيس في تشكيل وعي الإنسان أو تكوين مدركاته، وَفق نظرية “الهابيتوس”، حسب المصطلح الذي نحته بيير بورديو؛ حيث يرى أن “الإنسان الاجتماعي يسلك ويتصرف بدافع من بنية منظمة من الاستعدادات، دون أن يعرف لماذا يسلك على هذا النحو، أو يتصرف على تلك الطريقة”.
كذلك يرى العديد من علماء النفس أن أفكارنا وتصوراتنا هي نتاج أدمغتنا. وما تقوم به أدمغتنا يتحدد من خلال الحالة الفيزيائية للعالم وقوانين الفيزياء؛ ما يعني أننا “مجرد دمى كيميائية حيوية”، حسب تعبير عالم الأعصاب سام هاريس (sam harris).
لقد “استنتج كثير من العلماء أن التداعايات والاتجاهات اللا واعية، تمارس نفوذاً قوياً على حياتنا، وأن الاختيار الواعي غير ضروري إلى حد كبير، كما يقول عالم الأعصاب ديفيد إيغلمان (David eagleman). ولكن بورديو يلاحظ أن الإنسان “يتمتع بالقدرة على تعديل هذا (الهابيتوس)، أو حتى على التخلّي عنه؛ إنْ عقد العزم على ذلك”؛ أي أن الإنسان يستطيع بالإرادة وملكة العقل النقدي التحرر من سطوة هذا “الهابيتوس”.
فكيف يتشكل هذا “الهابيتوس”، وكيف تصبح نزعة التطرف بنية ذهنية غالبة في الوعي والسلوك البشري؟
المؤكد أن التطرف سوف يصبح سمة غالبة على السلوك؛ ما لم يُلجم بلجام قوي وأصيل؛ أي بنيوي، لأن التطرف (حسبما نظن) يصدر عن القوى الحيوية التي تمايز بها الإنسان عن سائر الكائنات، وهي “الغريزة والعقل والروح”. فهذه الخاصيات الثلاث، تصدر عنها مجمل أفعال الإنسان؛ من خير وشر وما بينهما، فهي الحاكمة على الدوام في الوعي والسلوك الإنساني من المهد إلى اللحد، على اختلاف الثقافات، كما اختلاف الأزمنة وتباين الأمكنة.
ولكن البنية الذهنية التي تؤسس التطرف، تتشكل على مرحلتَين:
تبدأ المرحلة الأولى من اللحظات التأسيسية للوعي؛ أي التنشئة التربوية والتعليمية عموماً، حيث تتعرض القوى الحيوية للتشويه، أو تُصاب بالعطب، فتتعطل الفاعلية الإنسانية؛ بالمعنى الإبداعي الخلاق، ما يحتم الحرص على تنشئة تربوية، تركز على تنامي قوى الإنسان الحيوية بتناغم وانسجام في بيئة ثقافية آمنة. ذلك لأن الطفل يتمتع بحاسة عفوية، تجعله يستبطن ما تضمره نفس المربي من دون الإفصاح عنها، حسبما تقول الدراسات الحديثة في علوم النفس والاجتماع والسلوك الإدراكي. وهذا يعني بادئ ذي بدء، أنه يتعين على المربي (الأب والأم أو المعلم) أن يتمتع بحيوية لافتة تستثير مخيلة الطفل، وتحثه على التفكير الحر. والمربي الذي يتمتع بالحيوية يُفترض أنه يعرف بالضرورة أن صياغة الأطفال أو تشكيلهم، كما يفعل الخزاف، ليس من واجبه، ولو فعل ذلك فسينتج قالباً مشوهاً غير طبيعي؛ لأنه يشوه قوى الطفل الحيوية، ومع الوقت يصبح هذا التشويه غير قابل للتغيير، وربما يرافقه حتى الممات. والمؤكد سينشأ عنه قلق وتوتر روحي، ينتجان قسوة وحسداً ونزوعاً إلى العنف، يؤسس ذلك اعتقاد راسخ لدى المرء بأن الآخرين يجب أن يُشوَّهوا بالطريقة عينها التي جرى فيها تشويهه في الطفولة.
إن الغريزة والعقل والروح أمور جوهرية لحياةٍ كاملة، وكلاً منها له ما له من فساد، وكلاً منها يمكن أن يبلغ مرتبة زائفة من الفضل على حساب صاحبيه، ومن شأن كلٍّ منها أن يُلحق الحيف بصاحبيه.
أما في الحياة التي يجب أن نجري وراءها، وهي الحياة التي أرادتها لنا الطبيعة البشرية السوية، فيجب أن تقوم على تنمية الخاصيات الثلاث تنمية متساوية، وبصورة يندمج فيها الثلاث بانسجام وتناغم. ذلك لأن الغريزة هي مصدر الحيوية، وهي الرباط الذي يربط بين حياة الفرد، وحياة الجنس البشري عموماً.
إنها أساس تلك الحاسة العميقة للاتحاد بالآخرين، وهي الوسيلة التي تغذي بها حياة الجماعة؛ حياة الذوات المنفصلة، وهو ما يجعل الإنسان “كائناً اجتماعياً”، حسب تعبير ابن خلدون.
أما الروح فهي الترياق؛ لاستخفاف العقل، لأنها تجعل الغلبة للعواطف التي تنبع من الغريزة؛ ولكن حينما تشيع الروح في الفكر، يفقد سمته القاسية المخربة، ولا يكون سبباً في التعجيل بموت الغريزة؛ بل هو لا يعمل إلا على التعجيل؛ بتطهيرها من الإصرار وتحجر القلب، ثم تحريرها من سجن الظروف المفاجئة، كما يقول براتراند راسل في كتاب «نحو حياة أفضل»؛ فالغريزة هي التي تهبنا القوة، والعقل هو الذي يهبنا وسيلة توجيه القوة إلى الغايات المنشودة، والروح هي التي توحي بالفوائد غير الشخصية للقوة، أي النفع الكوني؛ من خلال الإبداع وصناعة الخير والجمال، وهو ما يسميه الفلاسفة الخير الخالص، أو الخير الأسمى، الذي يكون من نوع لا يستطيع العقل أن يحط من شأنه بالنقد، وإنما يعمل على تطويره، كما هو الأمر في نقد الإبداع الإنساني بكل صوره المعرفية والجمالية أو القيمية.
أما من حُرموا من نعمة تنامي قواهم الحيوية؛ بالتساوي أو بتناغم وانسجام، فهؤلاء معطلة خاصياتهم الخلاقة، ولا يستطيعون أن يأتوا بجديد؛ لأن تعطيل أو فساد قوى الإنسان الحيوية يكبح الغريزة التي ينبغي أن تؤدي إلى حياة العقل والروح، ما يؤدي في أحيان كثيرة جداً إلى انحرافها نحو التدمير؛ بوصفه العمل الوحيد الفعال الذي يمكنها القيام به. ومن هزيمتها أو انحرافها ينشأ الحسد، ومن الحسد تنشأ النزعة إلى تدمير القدرة الخلاقة عند مَن كانوا أوفر حظاً منهم. وهذا من أكبر مصادر الفساد الإنساني؛ بل من أخطر مصادر التطرف والعنف والتوحش، الذي يهدد الحياة البشرية على الدوام.
ولكن، مرة أخرى، يستطيع العقل الذكي (أي العقل الذي أنتج الحضارة)، أن يتجاوز الأعطاب التي قد تصيب القوى الحيوية للإنسان؛ من خلال ملَكة النقد، والعزم والحزم في الجرأة النقدية، وإمكانية المخاطرة الذهنية في مقاربة أو تلقي المعارف عموماً.
المصدر: كيو بوست
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر