فتلك الصورة النمطية تسبب في مشكلة مزدوجة: من ناحية فقد أدت لافتراض أن الإرهابي هو دائمًا شخص ملتحي يرتدي الجلباب ويتحدث بالفصحى المتقعرة ولا يقول سوى “قال الله وقال الرسول” مما يعني أن الإرهابي الحقيقي لا يحتاج للتمويه سوى أن يحلق لحيته وأن يتخلى عن جلبابه وأن يغير من طريقة حديثه.. ومن ناحية أخرى فقد تسببت في نظرة ظالمة لمن قد تكون هذه هيئتهم وأسلوب حديثهم بغير أن يكونوا من معتنقي الفكر التكفيري أو الإرهابي.

بينما واقع الأمر أن التكفيري أو الإرهابي قد يكونا من حيث الهيئة بل وربما نمط الحياة على غير ما نتخيل إطلاقًا.. وإليكم بعض النماذج:

– منذ سنوات انشغل الإعلام بفتى يشتهر بإسم “أبو سلمة يكن”وانضم لتنظيم داعش الإرهابي، هو في الحقيقة شاب مصري من أسرة ميسورة وقد درس في مدارس أجنبية وكان له نمط حياة على شيء من التحرر كما كان من ممارسي رياضة كمال الأجسام.. هذا الفتى فجأة أظهر التشدد ثم اختفى وفجأة ظهر في مناطق النفوذ السابقة لداعش في سوريا والعراق.. بمطالعة صفحته على موقع فيسبووك لا تجد آيات من القرآن ولا أحاديث بل مزاح حول المسلسل الأجنبي “لعبة العروش/Game of thrones” وحديث عن رغبته في الزواج ممن تشبه إحدى شخصياته النسائية “كاليسي”.. فضلًا عن قيامه برفع فيديوهات لمزاح ثقيل نوعًا ما مع إرهابي زميل له كان من أصدقاءه بمصر ثم انضم لنفس التنظيم الإرهابي!

– عرفت منذ سنوات شابًا كان نموذجًا للطيبة الشديدة إلى حد السذاجة، ورقة المشاعر بشكل ملحوظ.. وكانت له ابتسامة طيبة دائمة وصوتًا منخفضًا هاديء النبرات ثم فجأة وبدون مقدمات انقلب على أصدقاءه من معارضي الإخوان وانضم لزمرة من معتنقي فكر “السلفية الجهادية” في مهاجمتهم المسلحة لمظاهرة معارضة لحكم الإخوان ومحمد مرسي في عام 2012 ثم سرعان ما فر من مصر وانضم لتنظيم القاعدة وأخيرًا لقي مصرعه في اشتباكات مع الجيش المصري!

– التقيتُ ذات مرة رجلًا كان قد اشترك مع عناصر من جماعة الإخوان الإرهابية ومؤيديها في مهاجمة بعض المعارضين لهم خلال حكم الإخوان ورئاسة المخلوع محمد مرسي.. فقال لي بشكل صريح:”أنا كنت رجلًا بلطجيًا قضيتُ في السجن سنوات من عمري ثم عندما أُفرِجَ عني آخر مرة قررت أن التزم وأن أقضي يومي بين العمل والبيت والمسجد… فذات يوم ناداني الشيخ وقال لي:هل تريد أن تقوم بعمل يرضي الله؟ فقلت له: بالتأكيد يا شيخ! فقال:إذن هيا معي.. وأخذني للاشتراك في مهاجمة معارضي الإخوان”

لدينا إذن: شاب رياضي مهزار ثقافته أجنبية، شاب رقيق المشاعر خجول، وبلطجي سابق من وسط شعبي..  وأؤكد لك عزيزي القاريء أن العامل المشترك بينهم هو ذهول الجميع أن هؤلاء إرهابيين أو اشتركوا مع إرهابيين في أعمال عنف!

بمناسبة هذه النماذج، فقد صادفت توًا منشورًا لأحد أعضاء الجماعة المحظورة من المقيمين في تركيا والمتعاملين مع نظامها ضد الدولة المصرية، كان يتحدث فيه بمناسبة ذكرى إعدام المتطرف سيد قطب عن أن هذا الأخير قد شهد له كاتبًا أجنبيًا بأنه كان ذكيًا واسع المعرفة مهذبًا كريمًا محبًا للموسيقى الكلاسيكية.. طبعًا المنشور شديد الخبث فهو يعزف على وتر تلك الصورة النمطية سالفة الذكر للإرهابي من أجل أن يصل لتأكيد فكرة أن سيد قطب كان رجلًا طيبًا يستحيل أن يخطط لأعمال أرهابية وأن حكومة مصر قد ظلمته! وكأن كتابات الرجل لا تشهد بما يعتنقه من أفكار متطرفة! وكأن من يحبون الموسيقى ويُظهرون الرقة لا يمكن أن يكونوا من الأشرار.. ألم يحب النازيين الموسيقى الكلاسيكية؟ ألم يكن الإرهابي أسامة بن لادن معروفًا بابتسامته الهادئة وأنه ذو أسلوب ودود في الحديث لمن حوله؟ وكم من سفاح أو قاتل أو إرهابي صاح الكل بعد انكشاف أمره قائلين: مستحيل! لقد كان طيبًا ودودًا دمث الخلق!

بل أن ثمة نوع من الإرهابيين هو-في رأيي-الأكثر خطورة-هو “الإرهابي صاحب نمط الحياة المنحل”… فهو ببساطة شاب يعيش حياة منحلة أو يرتكب بعض الانحرافات السلوكية، وفي نفس الوقت هو يعيش إحساسًا دائمًا بالذنب، لكنه أضعف من تقويم نفسه ولديه قدر لا بأس به من اليأس من فكرة “تكرار التوبة”مما يترتب عليه خوف دائم من الحساب في الآخرة ورغبة في “الخلاص” و”الخروج الآمن” من مرحلة الحساب.. وفجأة تقفز في ذهنه فكرة: “الشهداء يدخلون الجنة بغير حساب فلماذا لا أصبح شهيدًا؟”.. يتزامن ذلك مع تحميله المجتمع مسئولية فساده، فيبدأ في تكوين فكرة أن المجتمع فاسد و”جاهلي” ولهذا فقد فسدت أنا والحل في هجر هذا المجتمع والانضمام للفئة التي توفر “شهادة مجانية سهلة” ألا وهي التنظيمات المتطرفة..

هذا الشاب لا ينضم للتنظيم المتطرف لأنه يؤمن بأفكاره ولا هو يرغب في انتصار فصيله أو تنظيمه ولكنه يبحث عن ميتة تمنحه الخروج الآمن الذي يطمح إيه.. أي أنه ببساطة ذاهب ليموت.. وأنا أراه أخطر أنواع الإرهابيين لأنه شخص ليس لديه ما يخسره بل أنه يرغب في أن يخسر بقاءه مما يعني صعوبة ردعه أو رده بالتهديد عن إجرامه!

بالمناسبة، ما يبلغنا أحيانًا من العثور على مواد مخدرة مع بعض العناصر الإرهابية بعد مقتلها إثر الاشتباكات مع الجيش والشرطة يؤكد وجهة نظري هذه!

المشكلة أن تلك الصورة النمطية قد غرستها فترة الثمانيينيات والتسعينيات والتي كان الإرهابيون خلالها يحرصون على هذا المظهر والنمط.. ولكن ما ساهم في ترسيخها هو الدراما التي كانت دائمًا تقدم الإرهابي أنه رجل ملتحي يرتدي جلبابًا أبيضًا قصيرًا ويضع على رأسه طرحة بيضاء ويوزع “ثكلتك أمك” على الرائح والغادي.. ولكن مما يحسب للدراما مؤخرًا تحررها من هذ النمط وهو ما بدا واضحا في عمل مثل مسلسل “الاختيار” بجزئيه.

تلك الصورة النمطية هي ثغرة في أمننا المجتمعي، فالإرهابيون وأصحاب الانتماءات التكفيرية يستغلونها فيتعمدون أن يخالفوها ليسهل عليهم الاندساس بيننا أو ممارسة “التقية” مما يُضعِف عنصر “الوعي المجتمعي بالإرهابي وكيفية رصده وأداء واجب الإبلاغ عنه للسلطات”

 فهل حان الوقت لنعيد النظر فيها؟