سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
فالي جول محمدي
في الشرق الأوسط، الذي يعاني باستمرار من اضطراب مزمن أصبحت أنظمة إمدادات المياه على نحو متزايد رافعة سياسية وأهدافًا للعمل الاستراتيجي، حيث ترى الدول أن الحصول على المياه هو قضية تتعلق بالأمن القومي.
تواجه منطقة الشرق الأوسط حاليًا أزمات أمنية بالتزامن مع تغير مناخي وندرة مياه، فندرة المياه قضية بيئية ملحة في الشرق الأوسط، وأصبحت بشكل متزايد مصدرًا إضافيًا للصراع في المنطقة غير المستقرة بالفعل، وتبلغ الموارد المائية الداخلية السنوية للمنطقة 6% فقط، من متوسط هطول الأمطار السنوي مقابل متوسط عالمي يبلغ 38% وتعد المنطقة موطنًا لنحو 6% من سكان العالم، ولديها 1% فقط من موارد المياه العذبة في العالم، كما يعيش ما يقرب من ثلثي سكان المنطقة في مناطق تفتقر إلى موارد مياه متجددة كافية، ويعيش أكثر من 60% في مناطق تعاني من إجهاد مائي سطحي مرتفع مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ حوالي 35%، وفي الوقت نفسه يتم تنفيذ ما يقرب من 70% من الأنشطة الاقتصادية في الشرق الأوسط، في مناطق ذات إجهاد مائي مرتفع أو مرتفع للغاية، أي أكثر من ثلاثة أضعاف المتوسط العالمي البالغ 22%، فالبرغم من التطورات الأخيرة في تكنولوجيا إمدادات المياه وإدارتها، فإن الندرة الشديدة وسوء الإدارة وتغير الهيدرولوجيا والطلبات المتزايدة في مختلف القطاعات، تؤدي إلى الاستغلال المفرط لموارد المياه الشحيحة في المنطقة، وتقوض الإعانات المرتفعة الحوافز للإدارة الفعالة للمياه.
رغم أن منطقة الشرق الأوسط تتمتع بموارد مياه عذبة عابرة للحدود، إلا أن عدم وجود امتياز متبادل بشأن تخصيص المياه في الأنهار وطبقات المياه الجوفية المشتركة، يضيف طبقة من التعقيد الصراع المحتمل إلى حالة ندرة المياه في المنطقة، حيث تُستخدم المياه العذبة من الأنهار الرئيسية العابرة للحدود في المنطقة- دجلة والفرات ونهر النيل والأردن- للأغراض الزراعية والصناعية والمنزلية بكميات غير مستدامة، ومع ذلك فإن معظم تدابير السياسة المائية، تهدف إلى زيادة الوصول من خلال زيادة استغلال طبقات المياه الجوفية أو تحلية مياه البحر، بدلاً من توفير المياه وضمان الإدارة الفعالة.
ازدياد ندرة المياه تؤدي إلى تقويض الأمن البشري، وهو ما يزيد من مخاطر العنف والهشاشة والصراع، مما يؤدي إلى انعدام الأمن والنزوح في جميع أنحاء الشرق الأوسط كنظام إقليمي مليء بالصراعات، تتميز الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط بالدول الفاشلة، وعدم الاستقرار السياسي، والتهجير القسري، والصراعات العسكرية، وانعدام الأمن المزمن، فعلى مدى العقود الماضية اتسعت وتنوعت الأسباب المحتملة لانعدام الأمن في المنطقة، وبصرف النظر عن المصادر التقليدية للتوترات، تساهم القضايا الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، بشكل متزايد في التسبب في تأجيج الصراع في الشرق الأوسط المضطرب، كما تظهر الاتجاهات في المنطقة فإن ندرة المياه هو القضية البيئية الأكثر إلحاحًا في الشرق الأوسط، جنبًا إلى جنب مع النمو السكاني الهائل والتحضر، وتتحول ندرة المياه بشكل متزايد إلى مصدر إضافي للصراع في منطقة غير مستقرة بالفعل.
عدم تناسق القوة والنضال من أجل الهيمنة المائية
وكأصل إستراتيجي؛ لم تعد المياه مرتبطة فقط بالقضايا البيئية والأمن الغذائي، ولكنها تلعب أيضًا دورًا مهمًا في الترتيبات الأمنية الإقليمية، فالدول تنظر إلى المياه على أنها وسيلة للضغط السياسي وكمصدر للسلطة، فالمياه في الشرق الأوسط هي من مصادر قوة الدولة، وترتبط ندرة المياه بشكل كبير بالأمن القومي، فقد لاحظ العديد من الخبراء أن النزاعات على المياه العابرة للحدود، لا يمكن تفسيرها دون فهم علاقات القوة وأهمية التمركز، بين الدول المتنافسة أو المتصارعة بين المنبع والمصب.
من الناحية التاريخية، رغم أن عدم تناسق القوة هو السبب الرئيسي لغياب الحروب على المياه العابرة للحدود، إلا أنه يشكل أيضًا عقبة مهمة في طريق اعتماد تدابير مشتركة، وآليات تعاونية في الحوض لإدارة ندرة المياه، ويؤدي هذا الاختلال الشديد في توازن القوى بين الدول المشاطئة، إلى توزيع غير متماثل للمياه العابرة للحدود، ولا يعني غياب الحرب عدم وجود صراع في الحوض، ففي الشرق الأوسط يحدث الصراع المائي السياسي، عندما تكون دول المصب ضعيفة وغير قادرة على التكيف مع ندرة المياه، حيث تكون القوة النسبية غير متكافئة، مثل الوضع بين إسرائيل وفلسطين أو تركيا والعراق.
وفقًا لإطار الهيمنة المائية- هيكل تحليلي لدراسة كيفية تأثير الهيمنة وعدم تناسق القوة على سياسات المياه العابرة للحدود- فإن اختلال التوازن النسبي في القوة يؤدي إلى الهيمنة المائية في الحوض، حيث تتحكم الدول الأقوى في تدفقات المياه وتفرض على الدول الأضعف اتباع تعليماتها.
تحدد القوة النوعية من هو المهيمن، فالدولة المهيمنة تتمتع بالقدرة على إجبار الدولة الأضعف، فهي من تحدد جدول الأعمال لجميع الدول الواقعة على ضفاف أو داخل حوض النهر بصرف النظر عن الموقع الجغرافي، ويشير إطار العمل إلى أن استخدام القوة والموافقة المرتبطين بإنفاذ القواعد على الحوض، وهو ما يعد عاملًا أقوى من القوانين الدولية المتعلقة بالاستخدام غير الملاحي للمجاري المائية الدولية أو موقع النهر، وتستخدم دول المنبع المياه لكسب المزيد من الطاقة، بينما تستخدم دول المصب الطاقة لتوفير المزيد من المياه، فعلى سبيل المثال تركيا هي القوة المهيمنة في المنبع، أما إثيوبيا فهي دولة منبع لكنها ليست دولة مهيمنة.
في الظروف غير المتكافئة، مثل أن تكون دولة المنبع هي القوة المهيمنة في الحوض من غير المرجح أن يتحقق التعاون، وعلى النقيض من ذلك، فعندما تكون دولة المصب هي القوة المهيمنة في الحوض، فمن المرجح أن يستمر التعاون، ومع ذلك فغالبًا ما يتم فرض الاتفاقية من الطرف الأقوى على مقدار الفائدة النهر ، وعلى سبيل المثال فإن الموقع الاستراتيجي والهيمنة المائية لتركيا على نهري دجلة والفرات، ولإسرائيل على نهر الأردن يسمحان لهما بالحفاظ على اليد العليا على سوريا والعراق وفلسطين على التوالي، ورغم أن علاقات القوة لدول الحوض تتطور من خلال التعايش والتفاعلات المتضاربة والتعاونية، إلا أنه من الصعب تحقيق إدارة فعالة للمياه العابرة للحدود تسهل من التعاون، وفي سياق القوة غير المتكافئة في الحوض حيث يتم تطبيق حوكمة المياه، فيُنظر إلى المياه على أنها منفعة عامة، وتملي الهيمنة المائية آلية التكيف التعاوني دول حوض النهر الأضعف في المشاركة القسرية.
وفي ظل عدم التناسق المستمر في السلطة على الأنهار الرئيسية العابرة للحدود في المنطقة – دجلة والفرات والأردن – يبدو أن دول المصب الضعيفة غير قادرة على تغيير الترتيبات ، مما لا يترك مجالًا للتفاوض والمصالحة مع تصعيد الصراع على المياه المتصاعد في الشرق الأوسط.
ما وراء الحدود: تهديد أمني دولي ناشئ
تعتبر ترتيبات المياه العابرة للحدود سياسية بطبيعتها، ويتم تحديدها من خلال سياق الضمان الاجتماعي الأوسع للدول المشاطئة، ففي الشرق الأوسط الذي يعاني من اضطراب مزمن ، أصبحت أنظمة إمدادات المياه على نحو متزايد رافعة سياسية وأهدافًا للعمل الاستراتيجي، حيث ترى الدول أن الحصول على المياه هو مسألة تتعلق بالأمن القومي، لذلك يظهر سوء توزيع المياه العذبة العابرة للحدود جنبًا إلى جنب مع تزايد السكان والتوسع الحضري، وغياب سيادة القانون الدولي للمياه وتضاؤل موارد المياه.
أن المياه أصبحت محفزًا بالغ الأهمية للسياسات والصراعات بين الدول، ففي المناطق شبه القاحلة كالشرق الأوسط تكون الحرب على المياه مرجحة للغاية، لأن الدولة المهيمنة مائيًا تبني سدود ضخمة على الأنهار المشتركة، كما يمكنها استخدام المياه كسلاح لتحقيق مصالحها الاستراتيجية.
في العقود الأخيرة، شرعت تركيا في مشروع جنوب شرق الأناضول الواسع والطموح والذي يستلزم بناء 22 سد على نهري دجلة والفرات، مما أدى إلى تقليص ما يقرب من 80% من نسبة تدفق المياه إلى العراق وسوريا، بالنسبة لتركيا فإن السدود المائية ليست مجرد مصادر للطاقة والعائدات، ولكنها أدوات قوية للضغط الجيوسياسي لتشكيل الترتيبات الأمنية في بلاد الشام والعراق والتي تستهدف السياسة الكردية، فمن خلال السيطرة على 90 %- 44% على التوالي من تدفقات المياه في نهري دجلة والفرات، فإن أنقرة ترفض الالتزام بالمعاهدات الدولية، وترفض مطالب جيرانها باتفاق رسمي لتقاسم المياه وتنظيم التدفقات في الحوض.
فبالإضافة إلى خلفية التوترات السياسية الناشئة عن التوغل التركي في شمال سوريا والعراق، هناك أيضًا خطر أن تستخدم أنقرة المياه بشكل متزايد كسلاح في أي صراع مستقبلي مع منافسيها الإقليميين وجيرانها.
والوضع متشابه في حوض النيل وحوض الأردن العابر للحدود، فقد كانت مصر وإسرائيل تتلاعبان بالاضطرابات المستمرة، لدفع أجندتهما الطموحة لتصبحا هيمنتان إقليميتان، فعدم تناسق القوة والتكنولوجيا المتقدمة في حوض نهر الأردن، تمكن إسرائيل من الاستيلاء على موارد المياه في فلسطين والدول العربية المجاورة، حيث يمكنها استخدام المياه كأداة حاسمة في استمرار الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، وبصرف النظر عن استخدامه كأداة للسيطرة، فقد كان الصراع على المياه بالفعل سببًا رئيسيًا في الحروب، مثل حرب الأيام الستة في العام 1967، ويظهر عدد متزايد من الدراسات أيضًا أن ندرة المياه والجفاف وتغير المناخ، لعبت دورًا مباشرًا في تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السورية مما أدى للحرب الأهلية العنيفة، فضلًا عن ظهور الجماعات المسلحة المتطرفة في العراق أو سوريا مثل داعش.
إن ندرة المياه في الشرق الأوسط هي قضية ذات أهمية دولية، في تحوِّل الصراع بين الدول المشاطئة إلى مخاوف أمنية إقليمية ودولية رئيسية، فندرة المياه عامل مضاعف للتهديد وآثارها الاجتماعية والاقتصادية لها تداعيات خطيرة على الأمن الدولي، حيث يمكن أن تؤدي العوامل المشددة إلى النزوح الجماعي، وتدفقات الهجرة، والمخاوف الملحة بشأن الأمن الغذائي، والتدهور البيئي، وعدم الاستقرار السياسي، والتمرد الاجتماعي، وفشل الدولة، والصراع العنيف بين الدول، وعودة ظهور التطرف والإرهاب بكل ما في وسعه لإحداث تأثيرات الدومينو خارج المنطقة.
يجب على المجتمعات الدولية والمؤسسات ذات الصلة بالمياه، أن تبدأ الدعوة إلى إجراء حوار سياسي بنّاء بين الدول المشاطئة، بهدف التعاون الدولي لتمهيد الطريق في إيجاد حلول مستدامة لندرة المياه في الشرق الأوسط، وللبدء في تعاون دولي فعال ومصالحة يجب أولًا الاعتراف بندرة المياه في المنطقة، واعتبارها التهديد الأمني الأكثر إثارة للقلق بسبب احتمالية زعزعة الاستقرار العميقة وآثارها الدومينو، كما يجب أن تُبنى المبادرات متعددة الأطراف على إنشاء اتفاقيات إدارة موارد المياه العابرة للحدود، والتي تساعد على تجاوز الحواجز السياسية المحلية، وتؤدي إلى اعتماد إطار متكامل لإدارة العرض والطلب على المياه على المدى الطويل.
في حين أن التعاون والتفاوض قد لا يرحب بهما جميع الدول المشاطئة، فإن المشاركة البناءة للقوى والمؤسسات الأجنبية يمكنها أن توازن مجال التفاوض في الحوض، وتشجع الهيمنة المائية على اعتبار المياه منفعة عامة وتُسهِّل من الإدارة الفعالة للمياه العابرة للحدود في الشرق الأوسط، إلى جانب إعادة ضبط استراتيجيات المياه الوطنية وإدارتها من قبل الدول المشاطئة، فمن المرجح أن تصبح دبلوماسية المياه عاملًا حاسمًا على نحو متزايد.
وللقيام بذلك يمكن للمجتمع الدولي والمؤسسات الدولي مثل الاتحاد الأوروبي، تقديم الدعم المالي والتقني لتعزيز التعاون العابر للحدود، كما يمكنهم تهدئة وتسهيل المفاوضات بين الدول المشاطئة، وبدء وقيادة منصات التعاون الإقليمي ومراقبة تنفيذ المعاهدات كطرف ثالث.
أخيرًا، إذا استمرت الاتجاهات الحالية، فهناك خطر كبير من نشوب صراعات وشيكة، وحروب على المياه في منطقة الشرق الأوسط، مع آثار أخرى غير مباشرة واسعة النطاق، مما يحتم على المجتمع الدولي أن يتحرك الآن.
إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات
المصدر: Observer Research Foundation
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر