سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
أحمد دياب
تُولي الولايات المتحدة أهميةً بالغةً لمواجهة نفوذ الصين المتصاعد وطمأنة حلفائها في منطقة الإندوباسيفيك (الهندي والهادي)، وفي سياق هذه الأهمية تطرح واشنطن إمكانية إحياء وتنشيط التحالف الرباعي (كوادQUAD) (الولايات المتحدة، والهند، واليابان، واستراليا)، الذي تأسس كمنصة للتعاون الأمني والاستخباري بين الدول الأربع، ليكون نواة لـ”ناتو آسيوي مُوسَّع”، يضم دولاً آسيوية وأوروبية وربما دول شرق أوسطية، في إطار الاستراتيجية الأمريكية لـ”احتواء الصين” على غرار استراتيجية الاحتواء تجاه الاتحاد السوفيتي السابق خلال الحرب الباردة.
وفي حين يرى البعض أن هناك إمكانية وفرصة حقيقية لتحويل هذا التحالف الرباعي إلى “ناتو آسيوي مُوسَّع”، يستبعد آخرون في المقابل إمكانية تشكيل “الناتو الآسيوي”، بالنظر إلى العديد من الأسباب والعوائق والاختلافات بين الناتو الغربي والناتو الآسيوي المقترح.
“الناتو الآسيوي” .. السياقات والتصورات
1. بروز التحالف الرباعي (كواد)
كانت جهود الإغاثة من كارثة تسونامي عام 2004 التي أودت بحياة أكثر من 200 ألف شخص حول شواطئ المحيط الهندي، بداية لتعاون بين دول التحالف الرباعي (كواد)، بعدما أظهر رئيس وزراء اليابان السابق شينزو آبي حماسة لإيجاد شركاء من أجل إقامة توازن مع الصين الصاعدة بقوة، و”حماية المشاع البحري الممتد من منطقة المحيط الهندي إلى غرب المحيط الهادئ”. وعقدت الدول الأربع اجتماعاً افتتاحياً في مانيلا عام 2007، وأجرت تدريبات بحرية كبيرة، إلى جانب سنغافورة، في خليج البنغال. ودعم الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما هذا التحالف الأمني باعتباره ركيزة في “محوره نحو آسيا”، واقترح الجمهوري رودولف جولياني، توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) ليشمل إسرائيل والهند وأستراليا وسنغافورة واليابان، وأن تنشئ الولايات المتحدة قاعدة بحرية في سنغافورة، وتتعاون بنشاط مع الفلبين.
وفي حين كانت دول التحالف الرباعي حذرة (لاسيما الهند واستراليا) في البداية حيال استعداء الصين، إلا أن صيغة الرباعي توسّعت في السنوات الأخيرة مع تدهور علاقاتها مع بكين؛ إذ انخرطت الولايات المتحدة والصين في حرب تجارية وتكنولوجية، وتصاعدت التوترات بين بكين وطوكيو بسبب المتنازع عليها جزر دياويو/سينكاكو، وكشفت أستراليا التدخل الصيني في سياساتها الداخلية، واشتبكت القوات الصينية والهندية في عدة مواجهات على طول حدودهما المتنازع عليها.
وشهدت المجموعة الرباعية بعدها تطوراً ملحوظاً، فقد دفعتها المشاورات المنتظمة على المستوى الوزاري، وتوسيع التنسيق إلى إطار “كواد بلس”، بما في ذلك كوريا الجنوبية ونيوزيلندا وفيتنام وإسرائيل والبرازيل، والتحول إلى آلية إقليمية نشطة. وفي الوقت نفسه، كان هناك تعزيز للعلاقات الثنائية بين دول الرباعي تبدى من خلال: اتفاقية الخدمات اللوجستية العسكرية بين الهند واليابان (اتفاقية شراء وخدمة مشتركة)؛ واتفاقية التبادل والتعاون الأساسية بين الهند (BECA) مع الولايات المتحدة؛ والارتقاء بالعلاقات بين الهند وأستراليا إلى شراكة استراتيجية شاملة. وأظهرت دول الرباعية أيضاً تعاوناً متزايداً من خلال الالتزام المشترك بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة والشاملة؛ فهم يرون قواسم مشتركة متزايدة في وجهات نظرهم الأمنية، لاسيما بشأن الاعتراف المشترك بـ”التهديد الصيني”.
2. دفْع إدارة ترامب باتجاه “الناتو الآسيوي”
تنفيذاً للدعوة التي أطلقها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ومفادها أنه يجب على “الناتو” ألا يحصر مواجهته على روسيا فحسب، بل على الصين أيضاً، بدأت واشنطن في اتخاذ تدابير عديدة لإنشاء ما يسمى بـ”الناتو الآسيوي”. وفي حين أن الرئيس السابق ترامب كان أقل تركيزاً من أسلافه على الترويج لفكرة تجمُّع الديمقراطيات في المحيطين الهندي والهادئ، فإن التحالف الرباعي (كواد) تماشى مع ازدرائه للتعددية على نطاق واسع وتركيزه على تقاسم الأعباء مع الحلفاء والشركاء الأمنيين.
وخلال قمة القادة الثالثة لمنتدى الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والهند في 31 أغسطس 2020، أعلن نائب نائب وزير الخارجية الأمريكي ستيفن بيجون أن الولايات المتحدة ترغب في عقد شراكة مع الأعضاء الآخرين في “الرباعية” لإنشاء منظمة تشبه الناتو، والتصدي لأي تحديات محتملة تطرحها الصين. إذ تريد واشنطن – بحسب قوله – أن تتعاون مع هذه البلدان وسواها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لإنشاء كتلة داعمة للقيم والمصالح المشتركة بين تلك الجهات، أو حتى إقناع بلدان أخرى بتأسيس حلف مشابه للناتو، مُشيراً إلى أن الولايات المتحدة تريد أن تنضم دول مثل فيتنام وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا في النهاية إلى نسخة موسعة من الرباعية.
وخلال اجتماعٍ جديد لـ”الحوار الأمني الرباعي” في طوكيو في أكتوبر 2020، قام وزيرا الدفاع والخارجية الأمريكيين بالمزيد من المحاولات لتحقيق فكرة “الناتو الآسيوي” على المستوى العملي، حيث حدد مايك بومبيو هدف التحالف بشكلٍ واضح، مؤكداً أن “التعاون اليوم بات أكثر أهمية من أي وقت مضى لحماية شركاء الولايات المتحدة من الاستغلال والفساد والإكراه من قبل الصين”. وأجرت دول “كواد” أربع مناورات بحرية في نوفمبر 2020 في خليج البنغال وبحر العرب، حيث شاركت أستراليا للمرة الأولى منذ أكثر من عقد. ولهذا السبب، أعطى ترامب رؤساء حكومات أستراليا (موريسون)، واليابان (شينزو آبي، رئيس الوزراء السابق)، والهند (مودي)، أعلى وسام عسكري أمريكي، وهو وسام الاستحقاق، في أواخر عام 2020.
3. إدارة بايدن ومساعي تشكيل “الناتو الآسيوي”
أكدت تصريحات إدارة الرئيس جو بايدن التزامها بإعادة إحياء وتقوية ما يسمى حوار أو تحالف “كواد” الأمني الرباعي. وقال بايدن بعبارات صريحة وواضحة في فبراير 2021، إن الولايات المتحدة على أتم استعداد لمواجهة الصين حتى عسكرياً عند الضرورة. كما أعلن عن إنشاء فرقة عمل صينية جديدة تضم مزيجاً من الخبراء في مختلف المجالات تابعة للبنتاغون، مهمتها مراجعة نهج أمريكا الشامل وليس العسكري فقط تجاه الصين.
وقام وزير خارجيته أنتوني بلينكن بأول جولة خارجية له في منطقة الإندوباسيفيك في منتصف فبراير 2021، ثم عقدت قمة افتراضية بين الرئيس بايدن وزعماء تحالف “الكواد” في 12 مارس 2021، وأخيراً زار وزير الدفاع لويد أوستن عدة دول في المنطقة، في أواخر مارس 2021. وحملت تلك الزيارات والنشاطات إشارة صريحة إلى نية إدارة بايدن النهوض بهذا التحالف ليكون نواة لتشكيل “ناتو آسيوي” موسَّع تنضم إليه دول أخرى في المستقبل للتصدي للصين.
الحسابات والمُحفِّزات
1. رغبة واشنطن في استمرار تفوقها في الإندوباسيفيك
ذكرت الولايات المتحدة، في سلسلة من الوثائق، أنها ستسعى إلى أن تكون القوة الرائدة في العالم. وفكرة “الأسبقية” أو “التفوق” لها تاريخ طويل في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، فهي تعود إلى الأيام الأولى بعد الحرب العالمية الثانية. وثمة إشارات صريحة إلى ضرورة أن تتبنى واشنطن سياسات وتكتيكات جديدة في آسيا بهدف الحفاظ على السيادة الاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة، من خلال استراتيجية متعددة الأطراف، بمعنى بناء شبكة من التحالفات مع القوى المتشابهة في التفكير والمخاوف، لا تقتصر على القوى الآسيوية الكبيرة، وإنما تضم أيضاً القوى الأوروبية الكبرى لاسيما بريطانيا، واستخدام الدبلوماسية والمبادرات النوعية.
وفي أوائل يناير 2021، رفعت الإدارة الأمريكية السرية عن وثيقة أعدت لإدارة ترامب عام 2018. تُسمى هذه الوثيقة “إطار العمل الاستراتيجي للولايات المتحدة لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ”، وتنص بوضوح على أن هدف الولايات المتحدة في آسيا هو “الحفاظ على تفوق الولايات المتحدة في المنطقة”. وتشير الوثيقة كذلك إلى أن “فقدان التفوق الأمريكي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ من شأنه أن يضعف قدرتنا على تحقيق المصالح الأمريكية على الصعيد العالمي”.
وفي أوائل مارس 2021، قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين إن “الصين هي الدولة الوحيدة التي تمتلك القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لتحدي النظام الدولي المستقر والمفتوح بشكل جدي”، مُضيفاً أن قواعد هذا النظام وقيمه “تجعل العالم يعمل بالطريقة التي نريدها، لأنه يخدم في النهاية المصالح ويعكس قيم الشعب الأمريكي”.
2. تهديدات الصين في المنطقة
قامت الصين على مدى العقد الماضي باستثمارات هائلة في تحديث قدراتها العسكرية، بما في ذلك العمليات المشتركة والحروب الإلكترونية، ولم تكفّ الصين أيضاً عن تطوير أسلحتها النووية وتكنولوجيا الفضاء وحاملات الطائرات وأدوات حرب المعلومات، وهي توشك على التحول إلى قوة عسكرية من الطراز العالمي وتطرح في الوقت نفسه تهديداً جدياً على المصالح الأمريكية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
ونشرت وزارة الدفاع الأميركية في 1 سبتمبر 2020 “تقرير القوة العسكرية لعام 2020″، وهو يذكر أن الصين تمتلك نحو 200 رأس حربي نووي يمكن إطلاقها من البر والبحر والجو، كما أنها تُخطط لتوسيع أسلحتها النووية وتحديثها بدرجة إضافية، فتُضاعف على الأقل عدد رؤوسها الحربية النووية خلال السنوات العشر المقبلة. وقد نجحت القوة العسكرية الصينية في مواكبة القدرات الأمريكية، حتى أنها تفوقت عليها في عدد من المجالات الأساسية.
وفي 9 مارس 2021، طالب الأدميرال فيليب ديفيدسون، رئيس قيادة البحرية الأمريكية في المحيطين الهندي والهادئ، لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، بمضاعفة إنفاقه إلى 4.68 مليار دولار لعام 2022 (22.69 مليار دولار من 2023 إلى2027)، مُعتبراً أن هذه الأموال ضرورية لأن الولايات المتحدة “يجب أن تكون مستعدة للقتال والفوز إذا تحولت المنافسة إلى صراع”. وقال كذلك إن الحرب التجارية يمكن أن تتسارع بسهولة إلى حرب ساخنة في وقت أقرب من عام 2050.
3. الحفاظ على حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي
يعد بحر جنوب الصين الذي تمر عبره تجارة بتريليونات الدولارات كل عام، نقطة خلاف منذ مدة طويلة بين واشنطن وبكين؛ فالصين أقامت قواعد عسكرية على جزر صناعية بالبحر الغني بموارد الطاقة، مؤكدةً أن نحو 95% من هذا البحر ملك خاص لها، وأن لها حقوقاً تاريخية فيه، في حين تحتج جاراتها (تايوان، وفيتنام، والفلبين، وماليزيا، وبروناي)، وتطالب بما تعتبره حقوقاً لها في تلك المياه يكفلها قانون البحار. وفي السنوات الأخيرة، صعّدت الصين من مطالبتها بالسيادة على أغلبية بحر الصين الجنوبي، من خلال بناء جزر صناعية مجهزة لاستقبال طائرات حربية، مما أثار غضب الدول الأخرى التي تخوض معها نزاعات.
4. رغبة الولايات المتحدة في تقاسم أعباء الحماية الأمنية والعسكرية في الإندوباسيفيك
لا تريد الولايات المتحدة مواجهة الصين بمفردها، فثمة محاولة أمريكية لتقويض القدرات الصينية انطلاقاً من محيطها، ودون أن يكون للولايات المتحدة دور مباشر فيها. لذا من المتوقع أن يلعب الحلفاء دوراً أكبر في إرساء توازن جديد للقوة في منطقة الإندوباسيفيك، لكن واشنطن ستتوقع بشكل متزايد من شركائها أن يتحملوا عبئاً أكبر في الاستراتيجية العامة مقارنة بالماضي؛ فهم يريدون احتواء أي تهديد من الصين بمساعدة الحلفاء والشركاء، وليس من جانب واحد.
لقد نظر الرئيس السابق ترامب إلى التحالفات بوصفها عبئاً ومسؤولية، في حين يرى فريق بايدن أنها أحد الأصول، باعتبارها مثبتات للنظام ومضاعفات للقوة ومرتكزات للشرعية. ومفتاح النجاح في تحالفات الولايات المتحدة أن معظم البلدان ليس لديها بدائل أفضل؛ فدول المنطقة لا تتمتع بمخزون ثقة كبير نحو جيرانها مما هو عليه تجاه الولايات المتحدة، كما أن واشنطن تجلب مزايا الثقل الدبلوماسي والاقتصادي والتدخل العسكري في مواجهة الصين.
العقبات والتحديات
1. غياب التحالفات الأمنية والدفاعية متعددة الأطراف في آسيا
في حين أن إعادة التزام الولايات المتحدة بالتعددية والتحالفات الأمنية في المحيطين الهندي والهادئ يمكن أن يؤدي إلى تسريع ظهور الناتو الآسيوي، فإن تقدُّم واشنطن سيواجه تحديات. إذ لم تعد الولايات المتحدة تحتفظ بالموقف الإقليمي الذي كانت تشغله من قبل، وسيحتاج بايدن إلى إعادة بناء التحالفات الأمريكية من أجل تشكيل أي نوع من التحالف الآسيوي العسكري ضد الصين. ولطالما كان نظام التحالف الأمني متعدد الأطراف غائباً في آسيا، حتى مع نمو حلف الناتو وتحوله ركيزة قوية للشراكة عبر الأطلسي في أوروبا، وليس بسبب عدم المحاولة أيضاً. ومنظمة معاهدة جنوب شرق آسيا (SEATO) هي مثال حيوي على هذه الجهود، إذ تأسست في عام 1954، وتضم الولايات المتحدة، وفرنسا، والمملكة المتحدة، وأستراليا، ونيوزيلندا، والفلبين، وتايلاند، وباكستان، وظلت “السياتو” مقصورة على إطار استشاري مجرد بدلاً من “التحالف الدفاعي” المتوخى المتجذر في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
وكان فشل “سياتو” يعتمد على عدة عوامل، ليس أقلها عدم مشاركة القوى الإقليمية الكبرى، بما في ذلك الهند واليابان والصين. إذ يتشكل الترتيب الأمني ”المحوري” في آسيا من خلال عدد من المحددات، أهمها: عدم وجود “هوية آسيوية” جماعية في القارة الشاسعة والمتنوعة جغرافياً؛ والمظالم التاريخية العميقة والمستمرة (مثل تلك المتعلقة بالإمبريالية اليابانية)؛ والحساسية الاستعمارية للتدخل الغربي؛ وعدم وجود تصور مشترك ومُلزِم للتهديد (مثل الذي قدمه الاتحاد السوفيتي والشيوعية لأوروبا والولايات المتحدة)؛ وتفضيلات الجهات الفاعلة لمتابعة تحالفات أمنية ثنائية. وتعطي الأعراف الآسيوية عموماً الأولوية لعدم التدخل وسيادة الدولة على أي هيكل أمني مؤسسي متعدد الأطراف، مما يجعل أي تحالف أمني بقيادة الغرب يشبه الناتو أمراً صعباً من الناحية العملية.
2. عدم اتفاق حلفاء واشنطن الآسيويين على “معاداة” الصين
تُمثِّل مساعي الولايات المتحدة الهادفة إلى تحويل التحالف “الرباعي الأمني” إلى “ناتو آسيوي” محاولة طموحة، تفتقد مقومات النجاح في الواقع. فلدى كل دولة من الدول الثلاث المشاركة مع واشنطن في تحالف “كواد”، بل وبعض الدول الأخرى المرشحة للانضمام لهذا “الناتو الآسيوي”، أسباب كافية لإجهاض هذه المساعي الطموحة من قبل واشنطن:
فالهند ليست في الغالب بصدد التورط في تحالف جدي تصعيدي ضد الصين، ذلك أن سقف ما تريده الهند حتى الآن لا يتعدى حدود عزمها على تنويع علاقاتها السياسية والعسكرية والتكنولوجية، بما يضمن لها موقفاً قوياً لا أكثر، إذ تطمح الهند إلى أن تصبح قوة عظمى عالمية، وبالتالي تُفضِّل سياسة الهند “المستقلة”، وتاريخياً أصرّت الهند على عدم الانحياز في سياستها الخارجية. والهند والصين حضارتان قديمتان، عاشتا جنباً إلى جنب على مدى آلاف السنين. علاوة على أن انضمام الهند إلى الناتو الآسيوي سيؤدي أيضاً إلى انهيار العلاقات مع روسيا، في المقام الأول فيما يتعلق بالتعاون العسكري التقني. وليس سراً أن روسيا هي المورد الرئيس للأسلحة إلى الهند.
وبالنسبة لليابان، ورغم أن المجموعة الرباعية كانت من بنات أفكار رئيس الوزراء السابق شينزو آبي، إلا أن طوكيو لا تريد المخاطرة غير الضرورية بإثارة استياء الصين. وبعيداً عن علاقاتها الاقتصادية مع الصين (تستوعب السوق الصينية 20% من صادرات اليابان)، فإن منطق اليابان في إنشاء الناتو الآسيوي يستند بشدة إلى دستور ما بعد الحرب، والذي “يتخلى عن الحرب كحق سيادي للأمة والتهديد باستخدام القوة أو استخدامها كوسيلة لتسوية النزاعات الدولية”. وعلى الرغم من أن شينزو آبي قام بمحاولات قوية لتعديل هذا البند، إلا أن المعارضة الشعبية المستمرة والحذر أعاقا مراجعته.
من ناحية أخري، فإن اليابان ليس لديها جيران غير ودودين فحسب: الصين وروسيا وكوريا الجنوبية، بل لديها علاقات صعبة، إن لم تكُن متوترة، مع البلدان الثلاثة. ويمكنها إدارة العلاقات الصعبة مع روسيا وكوريا الجنوبية؛ فكلاهما لهما اقتصادات أصغر، لكن اليابانيين يدركون تماماً أنه يتعين عليهم الآن التكيف مع الصين الأكثر قوة مرة أخرى. وهذه ليست ظاهرة جديدة؛ فباستثناء النصف الأول من القرن العشرين، عاشت اليابان دائماً في سلام مع جارتها الأقوى، الصين.
أما أستراليا فقد تكون الأكثر استعداداً للانضمام إلى “الناتو الآسيوي” لاحتواء الصين، ولكن لسوء الحظ، فإن الحقائق الجغرافية والاقتصادية تعترض طريقها. إذ يعتمد اقتصاد أستراليا بشكل كبير على الصين، ويفخر الأستراليون بثلاثة عقود من النمو الملحوظ الخالي من الركود، وحدث ذلك فقط لأن أستراليا أصبحت، وظيفياً، مقاطعة اقتصادية في الصين: ففي 2018-2019، ذهب 33 في المائة من صادراتها إلى الصين، بينما ذهب 5% فقط منها إلى الولايات المتحدة.
وليست الدول الآسيوية الأخرى مثل كوريا الجنوبية أقل حماساً بشأن اختيار الجانبين: فالصين ليست فقط شريان الحياة الاقتصادي، وليس لدي كوريا مصلحة في أن تكون جزءاً من ساحة المعركة لأي صراع عسكري بين الولايات المتحدة والصين. وفي هذا السياق، من اللافت أيضاً أنه حتى القادة الآسيويين الذين لديهم مواقف سلبية تجاه بكين، يحاولون عموماً تجنّب احتمالات الاضطرار إلى الاختيار بين الولايات المتحدة والصين. وفي هذا الصدد، صرح رئيس الوزراء السنغافوري، لي هسين لونج: “إذا كنت صديقاً لبلدين يقعان على جانبين متقابلين من المتاريس، فيمكنك أحياناً التوافق مع كليهما بشكل جيد. أعتقد أنه من الأفضل عدم الانحياز إلى جانب أحد”.
المصدر: مركز سمت للدراسات
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر