سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
د. منيرة الغدير
هناك صهيل خيول عتيقة، ومشاهد سجال طويل، حين نتحدث عن المرأة السعودية، بعضه محلي بنبرة من هُمِّشَ نتيجة لبنية اجتماعية تراتبية ما زالت تتعثر في انتقالها من مجتمع تقليدي إلى حديث. وآخر، خطاب غربي لا يكاد يتخلص من استعاراته الاستشراقية عن المرأة السعودية، إلا لتبحر به سخرية مقارنة قضاياها بمبادئ الثقافة الغربية. ويظل هذان الخطابان يتجاوران ويتباعدان في محاولاتهما لفهم هذه المرأة السعودية والدفاع عنها، وعن قوانين حقوقها في أكثر الصحف الغربية والمحلية مقروئية، وفي الفضاء السيبراني اللامتناهي، بما فيه من حملات التجمع الرقمي للمرأة.
يوم الثلاثاء ٢٦ سبتمبر ٢٠١٧م، احتفلت السعودية بقرار السماح للمرأة بقيادة سيارة، كان يقودها رجل من العائلة، أو آخر غريب في أغلب الأحيان، بعد عن ابتلع وطن بكل فئاته طُعمًا عرقل التنمية، وأهدر ميزانيات ضخمة، وساهم في خلق تركيبة سكانية تتطلب خططًا تنموية مختلفة. والمؤسف أن هذا كله، أسَّس لتوجس عظيم في علاقة المرأة والرجل تحتاج إلى سنوات لتتعافى. هذه العوامل وغيرها، كانت مكلفة اقتصاديًا وإنسانيًا، وسيتوقف التحليل واللغة الساخرة كثيرًا عند حالة مجتمع أُدخل في صراع مع نفسه حتى انقسم وتشظى! القرار أيضًا كشف أن رنة فرح أطربتْ الناس؛ لأنهم كانوا يعيشون حدادية غامقة، قد لا يعي مداها الكثير. بعد القرار كثُرَ التندر، ورقصت “الهاشتاقات”، وابتهج الناس، بل كادوا من فرحهم أن ينساهم النوم!
وكان متوقعًا أن تعبِّر النساء في الغرب، وخاصة اللاتي في مناصب قيادية، أو إعلامية (هيلاري كلينتون، إيفانكا ترمب، أو هذر ناورت، المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية) عن فرحتهن، ولكنها مغلفة بنبرة إنقاذية، خلاصيّة تتعثر في ثنايا خطاب معقد، وكأن المرأة الغربية ساهمت في إنقاذ الشرقية من إثم الاضطهاد! حتى إن القرار أصبح تمرينًا مدرسيًا بفقرات كاملة، كما نشرته صحيفة نيويورك تايمز: “السعودية تسمح للمرأة بقيادة السيارة”. لن أستطرد هنا عن قيادة المرأة للسيارة، وإنما عن القرار الذي يحاول الإطاحة بالنمط.
اللافت أن المرأة السعودية في الخطابين الغربي والمحلي، أصبحت مجرد فكرة صُنعَ منها بطلة عمل درامي بجماليات منقوصة، ويختزل الخطابان تمثيل المرأة السعودية لتصبح كل النساء السعوديات – تقريبًا – مجموعة متجانسة بنفس مقاييس المعاناة، ومن نفس الطبقة، وتجاربهن تكاد تكون متشابهة، حتى إن المرء يعتقد أنه يسمع نفس عبارات المظلومية ومرارة الشكوى، ولكن بلهجة مختلفة حسب الخارطة اللغوية التي ينتمي إليها.
وبعد تقصٍ بحثي، يظهر أن هذين الخطابين أنتجا امرأتين سعوديتين؛ إحداهما تتخيلها، تراها، وترسمها عيون غربية لتعيد كتابة اضطهادها للرأي العام الغربي في شذرات مرتبكة ومتورطة في ترجمة إشكالية الاختلافات الثقافية والجندرية في مجتمعات الشرق الأوسط. ومع ذلك يُصر هذا الخطاب الغربي على نهج خلاصي، يكرر السعي لإنقاذ المرأة السعودية المسلوبة الصوت والحق، كما هو ذات الطرح حول إنقاذ المرأة العربية والمسلمة من قسوة الرجل الأسمر، كما كتبت عن ذلك، المفكرة جايتري سبيفاك، منذ ثلاثة عقود، وجاءت بعدها لتحلل هذه الظاهرة أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة كولومبيا، ليلى أبو لغد في كتابها (هل المسلمات بحاجة لإنقاذ؟) لتناقش كيف أن الأطروحات الغربية عن المرأة المسلمة تراها من منظور حاجتها للخلاص مما حلَّ بها من غبن دينها وثقافة ذكوريّة قاسية.
وهكذا، يُزجُ بجسد المرأة المسيس في كل فترة مثقلة بالصراعات في المنطقة العربية، وتعيد تصويره وصياغته مقالات عديدة لا تكاد تنقذ مفرداتها من عناصر الاستشراق الجندري التي تعلو مجددًا في تغطية زيارات القيادات النسائية الغربية للمملكة العربية السعودية. إن جاذبية الموضوع، تدعو وسائل الإعلام الغربية، معلنة أن هذه القيادات النسائية الغربية، تقدم “نمذجة التحرير”؛ بل إن هذه القيادات وعدد من المستشارات، غالبًا ما تختار بإدراك مثل هذا الدور لأنفسهن، وتعبر عنه عبارات صرّحن بها بثقة لا ينتابها تأمل.
فمثلًا، قبل زيارتها للسعودية، ذكرت رئيسة وزراء بريطانيا، تيريزا ماي، أنها ستكون نموذجًا للمرأة تحتذي به النساء السعوديات المضطهدات! أي أنها ستلهم النساء للنظر في كل ما “يمكن للمرأة أن تحققه”، وقدرة رئيسة وزراء بريطانيا، خير شاهد على فعل ذلك.
تيريزا ماي، ليست وحدَها من بين من نصَّبن أنفسهن في أعلى قمة الإلهام؛ فعدد لا بأس به من القيادات النسائية الغربية، يعتقدن أنهن النموذج الإلهامي للمرأة السعودية، وأحد أسباب تكرار نزعة الإنقاذ، واضح وساخر في نفس الوقت: نموذج المرأة السعودية الناجحة، شبه غائب في الصحافة الغربية، وكلما زارت القيادات الغربية الرياض أو جدة، لا يقابلن إلا عددًا من الشخصيات النسائية المعروفة، هذا إذا كانت الزيارة منظمة مسبقًا، وإلا فإنه يتم اختيار مجموعة من النساء السعوديات على نحو مرتجل، وتغيب المتمكنة من حوار الثقافات القادرة على النقاش والحديث بندية وثقة.
ويكشف لنا عصر الانفتاح المعلوماتي، كيف تُغَيَّب المرأة تمامًا عن بعض اللجان والفعاليات المحلية والدولية، وقد تعجَّب البعض أو فُوجئ من صور كلها لرجال في التغطيات الإعلامية عن فعاليات لا توجد فيها امرأة واحدة، على الرغم أن هذه الأنشطة تتطرق لنقاش مواضيع لها وعنها! واللافت أن المرأة ما زالت غائبة، أو يكون تمثيلها ناقصًا في عدد من المناصب القيادية، بل ما زالت بعض الهيئات لا تحظى بتجربة ومساهمة المرأة، ويكاد يكون التشكيل الإداري والتنفيذي لهذه الكيانات، خاليًا من النساء المؤهلات والقادرات على المشاركة في عملية التفكير، والقرار، والإنجاز.
هيئة الخبراء مثال يحضرني منذ بدأتُ بكتابة هذا المقال، والحقائب الوزارية، والحضور البارز في وزارة الخارجية، والسفارات العربية والأجنبية، ووزارة الإعلام. أتحدث هنا عن مناصب قيادية تدعم الجيل الجديد من الشباب من الجنسين، الذي يفور بالإلهام ويحفزه الأمل؛ لأن حكومة شابة ستقوده إلى مستقبل منافس في هذا العالم التقني المليء بأنواع الفرص والتغيرات المتسارعة.
وكنتيجة متوقعة لغياب المرأة السعودية في المشاهد الإعلامية، واللقاءات الرسميّة، ولسطوة التمثيلات المترسخة في الإعلام الغربي والمدعومة بردود الرأي العام الغربي، تتبوأ المرأة الغربية هذا الفراغ لتتصدر الإطار النموذجي والإلهامي، لنرى كلًا من: إيفانكا ترمب، وهيلاري كلينتون، ولورا بوش، زوجة الرئيس الأمريكي السابق، جورج بوش، وليز ابنة ديك تشيني، نائب الرئيس السابق. الأخيرة جالت بعض العواصم العربية والإسلامية ببرنامج إصلاح أوضاع المرأة العربية والمسلمة، وقد خصصت عشرات الملايين لذلك البرنامج، للتدريب على مفاهيم غربية، لا تفهم النسيج الممزوج بأشعة شموس الخارطة العربية والمتنوعة الثقافات كتضاريسها. لا أحد يسأل – الآن – عما فعل وأنتج ذلك البرنامج وملايينه المباحة من أجل دمقرطة عقل المرأة العربية.
المهمُّ من كل هذا، هو تصدر المرأة الغربية لقيادة المرأة العربية، والسعودية بالتحديد، وفتح طريق الخلاص من عذاباتها التي أرقت الفنتازم الغربي الذي نشأ وارتكز على المفهوم الاستعماري الذي يبرر عنفه بأغراض قصوى للتحديث والحريّة. لا بد لكل هذا السرد المتخيل، والبعيد عن التجارب اليومية المتعددة في مدن وأزقة الأحياء السعودية، من أن يُفكك بنقيض لا يعكسه في المرآة، وإنما يكشف الآخر في المرآة ذاتها، وما يسكن في ثنايا المجتمع السعودي من قدرات وطاقات نسائية متنوعة، بعضها ناضجة التجربة وبسجل نجاحات متميزة، وإلى جانبها تمامًا صفوف من الشابات المؤهلات اللاتي يستطعن العمل والإنجاز إلى جانب الرجل لكي تكتمل الصورة، لكي يتم كشف قصور الخطابات المهيمنة على امرأة لم تصوَّر كما هي، وإنما كفكرة أثارت الحماس لإنقاذها.
إذا كانت المرأة جزءًا من هذه الحكومة الشابة، فمشاركتها القيادية ملحة؛ المجتمع أمام جيل من الشباب، أمهاتهم وأخواتهم متعلمات ومؤهلات، بل إن البعض قد درَّسته أستاذة في جامعة الابتعاث، أو أشرفت عليه في جامعة محلية، فكيف له أن يعمل والمرأة ليست حاضرة معه تشاركه التفكير وصنع القرار؟
إن تفعيل دور المرأة القيادية، هو أحد القرارات التنفيذية – لست أتحدث عن تمثيل عابر، وإنما تحقيق لتمكين النماذج النسائية المتعددة الخبرات – الذي سيشعل ذروة الحماس والمنافسة والإنتاجية لدى أعداد كبيرة من النساء، وبخاصة الفتيات الصغيرات اللاتي ترنو أعينهن إلى المستقبل؛ حينها لن نقرأ خبرًا عن رئيسة وزراء بريطانيا، أو ابنة الرئيس دونالد ترمب، وهما تقدمان أنفسهما نموذجًا ملهمًا للمرأة السعودية!
أكاديمية سعودية قامت بالتدريس في جامعة كولومبيا وجامعة هارفارد*
@arabia77
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر