فمن دستورٍ يُغَلّب سلطة الهيئة التشريعية في البلاد علي كافة السُلَط أي  السلطات إلي الحد الذي لا يمكن القول معه برؤوس ثلاثة في تونس: أي رئيس الجمهورية و رئيس الوزراء و رئيس البرلمان، و الأخير يمكن نعته  بالرأسٍ المركزيٍ للنظام السياسي والدستوري في البلاد ، فضلا التنازع المريب بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ، وغير ذلك من مفارقات آخرها دخول اتحاد الشغل في تونس علي خط  الجبهة المحتدمة واقتراحه برجوع رئيس الوزراء عن تسميته لأربعة من الوزراء الجدد الذين اعترض علي تسميتهم رئيس  الجمهورية.

لا مِرية أن السياق الدستوري الحاصل الآن في تونس أقل ما يَنعته أنه نظام استثنائي حاول كغيره من دساتير الدول  التي خُبِرت بثورات الربيع العربي أن يُحد من السلطات الواسعة التي كانت يتمتع بها رئيس البلاد في هذه الدول، و تكريس جانب كبير من السلطات و الاختصاصات لرئيس الحكومة والبرلمان، ولكن الأخير في تونس تحديدا حاز النصيب الأكبر من السلطات والاختصاصات للحد الذي يجعل الكًثر من المراقبين يَصفوا النظام السياسي المُرَسخ  في الدستور بمقتضي  الوثيقة الدستورية لعام 2014 بالنظام شبه البرلماني، وبالرغم من ذلك تفتق ذهن السيد “راشد الغنوشي” زعيم حزب  النهضة التونسي ورئيس البرلمان بضرورة تعديل الوثيقة  الدستورية الحالية حتي يصير النظام السياسي في تونس نظاماً برلمانياً قلباً وقالباً.

وأردف يُصَرح في خضم السجال الحالي غير المسبوق، أن رئيس الجمهورية يجب أن يؤدي وظيفة رمزية، ولربما يجمح “الغنوشي” في ذلك ووفقا لتصوره الذاتي أن تتبني تونس وبمقتضي دستورها إن عُدل كما يحلو له، نظام ” الجمعية المجلسية “حيث تعود فيها السّلطة الأصليّة داخل الدّولة إلى هيكل جماعي، في شكل مجلس، يكون مصدرا لكلّ السّلط في الدّولة، وهنا يتأسى الغنوشي بسويسرا وهي تكاد تكون الدولة الحصرية التي تتبني ذلك النظام.

إن النظام الهجين الذي تتبناه  تونس الآن يعد نموذجا لتطوّر الأنظمة الدّستوريّة ، وهي تلك التي تمزج بين آليّات النّظام الرّئاسي وآليّات النّظام البرلماني حيث تسمّى أنظمة شبه رئاسيّة أو شبه برلمانيّة ، والأخيرة كما أسلفنا تجد ضالتها في النموذج  التونسي الحالي ، ولا نبالغ حين نزعم أن التطوّرات السياسية، و الحقوقية، والاجتماعية، و الثقافية التي تمخضت عن ثورة الياسمين في تونس في يناير 2011 هي التي عَجّلت بذلك التحوير الدراماتيكي المباغت حتي لمن شاركوا في تأسيسه، و لمل يدركوا  ولو لطرفة عين أن الهندسة الدستورية المُختلة ، و قطف الثمار المختلفة من البساتين الأربعة المختلفة – المسودات الأربعة للوثيقة الدستورية – أفضت  إلي تشويه النظام السياسي التونسي قبل أن تشوه ذلك المنتوج أي الوثيقة الدستورية.

جليٌ أن الخلط غير الحاذق بين  النّظام البرلماني والنّظام الرّئاسي أمُر جلل ، تعاني منه تونس أكثر معاناة ، وكان حرياً بالهيئة  التأسيسية التونسية التي اختارت الوثيقة الدستورية الحالية من بين المسودات الأربعة أن  تدرس البواعث التي من أجلها تخلت العديد من دول ثورات ما بعد سقوط جدار برلين عام 1989 في شرق أوربا ووسطها و غيرها أيضا من الدول عن النظم  السياسية الهجينة  ، و بعد سنوات قليلة نفاذ هذه الدساتير، فالعبرة دوما عند تبني أي نظام سياسي أن يواكب ذلك النظام الوثيقة الدستورية التي تكفل بل وترسخ التعاون لا  الانفصال المطلق بين السلطات و الهيئات العامة  في البلاد، بغرض التّنسيق وتحقيق الاندماج بين الآليات، لتكوّن في مجملها منظومة متكاملة مترابطة ، لكن ثبت عكس ذلك في السياق  الدستوري  التونسي الحالي ، فوفق  الثُقاتِ من المراقبين التونسيين تَغلّب علي إعداد الوثيقة الدستورية الحالية الحياكة الدستورية المغرضة، و ليس الهندسة الدستورية الحاذقة من أجل ترضية  سياسيّة لفصيل سياسي إسلاموي وهو حزب  النهضة الذي يتحكم في مفاصل البرلمان ويرأس الأخير أيضا زعيم ذلك الفصيل.

 الحاصل الآن في تونس ، ومن أسفٍ، تعطل استمرارية المرافق العامة في تونس ،  واستمرارية المرفق العام نص عليها  الفصل الخامس عشر من الدستور التونسي ، واستمرارية المرفق العام هي الذريعة  التي يتشبث بها الرئيس التونسي قيس سعيد بأهدابها ، حين يرفض ودون سند دستوري صريح قيام الوزراء الذين سماهم رئيس الوزير مؤخراً أن يحلفوا اليمين الدستورية ، ومن ثم يباشروا وظائفهم المنوطة  من أجل تسيير المرافق العامة في البلاد ، و الشاهد أيضا أن التجاوز الصارخ لأحد أهم المبادئ  الدستورية  الحاكمة في كافة الأنظمة الديمقراطية وهو التعاون والتوازن بين السلطات الثلاثة في الوثيقة الدستورية ، أفضي ودون ثمة شك إلي تداعيات  سلبيّةٍ خطيرةٍ على السّير الطّبيعي والمتناسق للمرافق العامة في الدولة ، ولا نبالغ حين نُوصم المشهد المؤسساتي الحاصل في تونس بالاهتزاز و الاضطراب ، ومن ثم سيقود ذلك لعجز المرافق  العامة في  تونس عن أداء مهامها الدستورية بفاعلية و تفشل في الاستجابة الدائمة للصالح العام  في الدّولة.

ختاماً، نَخشي ما نخشاه أن تُفضي حالة الجمود والانفصال بين رئيس الجمهورية التونسية ورئيس وزراءها إلي الانزلاق إلي ما يعرف ب ” دولة الكسوف ” حين يُفضي انعدام التواصل والاتصال بين السلطات والمرافق العامة في الدولة إلي فراغ سياسي ومؤسساتي داخلها، ونُذَكّر بأن المجلس الدستوري الفرنس في قراره بتاريخ 25 يونيو عام 1975 قد رفع مبدأ استمرارية المرفق العام الدولة غلي مصاف المبادئ ذات القيمة الدستورية.

 

المصدر: skynewsarabia