سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
فرانسيس فوكوياما – باراك ريتشمان – أشيش جويل
تعد منصات الإنترنت العملاقة؛ مثل “أمازون” و”أبل” و”فيسبوك” و”جوجل” و”تويتر”، من أبرز التحولات العديدة التي طرأت على الاقتصاد الأمريكي، تلك المنصات القوية أصلاً، والتي ازدادت قوة أثناء جائحة “كوفيد-19″، بعد أن أصبح كثير من نشاطات الحياة اليومية يتم عبر الإنترنت. وعلى الرغم من تقنياتها المريحة، المناسبة؛ فإن ظهور مثل هذه الشركات المسيطرة يجب أن يدق جرس الإنذار، ليس لأنها تمتلك قدراً هائلاً من القوة فحسب؛ بل لأنها تمتلك سيطرة كبيرة على التواصل السياسي. أصبحت هذه الشركات العملاقة الآن تسيطر على انتشار المعلومات، وتنسيق التحركات السياسية، لدرجة تشكل تهديداً للديمقراطية التي تسير بشكل جيد.
وبينما يعمل الاتحاد الأوروبي على تطبيق قوانين لمكافحة الاحتكار على هذه المنصات، بقيت الولايات المتحدة فاترة جداً في رد فعلها تجاهها، ولكن هذا الواقع بدأ يتغير؛ فخلال العامين الماضيين أطلقت لجنة التجارة الفيدرالية وائتلاف من المدعين العامين في الولايات، تحريات حول انتهاكات محتملة للقوة الاحتكارية لهذه المنصات. وفي أكتوبر أقامت وزارة العدل دعوى احتكار ضد شركة “جوجل”. ويشمل منتقدو الاحتكار بين صفوفهم ديمقراطيين يخشون تلاعب المتطرفين المحليين والأجانب، وجمهوريين يعتقدون أن المنصات الكبرى منحازة ضد المحافظين. وفي الوقت نفسه، هنالك حركة فكرية متنامية يقودها مجموعة من فقهاء القانون المؤثرين تسعى إلى إعادة تفسير قانون منع الاحتكار من أجل مواجهة هيمنة هذه المنصات.
وعلى الرغم من الإجماع الناشئ حول خطر شركات التكنولوجيا الكبرى على الديمقراطية؛ فإنه لا يوجد قدر يُذكر من التوافق على كيفية الرد. فثمة من يرى أنه يجب على الحكومة أن تفصل بين “فيسبوك” و”جوجل”. بينما يدعو آخرون إلى لوائح أشد صرامة؛ للحد من سيطرة هذه الشركات على البيانات؛ ولكن قلة هم من يدركون أن التهديدات السياسية التي تشكلها هذه المنصات هي أخطر بكثير من التهديدات الاقتصادية، وأقل منهم هم الذين فكروا في طريقة عملية للمضي قدماً في إلغاء دور هذه المنصات كحارس على المحتوى. وهذه المقاربة تستوجب دعوة مجموعة جديدة من شركات “البرامج الوسيطة” المتنافسة؛ بحيث يتمكن المستخدم من اختيار الطريقة التي يتم بها تقديم المعلومات إليه.
قوة المنصات
ترجع جذور قانون مكافحة الإرهاب العصري إلى حقبة السبعينيات، فمع صعود اقتصاد السوق الحرة، كانت النظرة إلى قانون منع الاحتكار أنه يجب أن يهدف إلى أمرٍ واحد فقط؛ وهو زيادة رفاهية المستهلك، وأن سبب نمو بعض الشركات بشكل كبير هو كفاءتها العالية، ومن غير المنطقي معاقبة تلك الشركات على كفاءتها. ثم جاء ما يعرف بمدرسة شيكاغو التي يرى أتباعها من أعلام الاقتصاد أن تدخل قانون منع الاحتكار يجب أن يكون مقنناً للغاية. وحققت هذه المدرسة نجاحاً كبيراً واستمرت في التأثير على القضاة والسياسيين، واستمرت سياسة منع الاحتكار على نهجها المتساهل منذ ذلك الحين.
وبعد عقودٍ من هيمنة مدرسة شيكاغو، كان لدى الاقتصاديين فرصة كبيرة لتقييم تأثيرات هذه المقاربة، ووجدوا أن الاقتصاد الأمريكي قد نما بثبات في مختلف المجالات، وأن ارتفاع أسعار المنتجات بالمقارنة مع المنتجات الأوروبية هو نتيجة قصور قوانين مكافحة الاحتكار. ومؤخراً، دعا مناهضو مدرسة شيكاغو إلى تطبيق قانون مكافحة الاحتكار بشكل أشد صرامة.
من المؤكد أن الأسواق الرقمية تختلف بشكل جوهري عن الأسواق التقليدية، والسبب في ذلك هو أن العملة في هذه الأسواق هي البيانات. فعندما تتمكن شركة مثل “أمازون” و”جوجل” من جمع بيانات مئات الملايين من المستخدمين، يمكنها الانتقال إلى أسواق جديدة تماماً والتغلب على الشركات القائمة فيها التي تفتقر إلى مثل هذه البيانات. كما أن هذه الشركات الكبرى تستفيد مما يسمى “تأثير الشبكة”، فكلما زاد حجم الشبكة أصبحت أكثر فائدة لمستخدميها؛ مما يخلق حلقة ردود فعل إيجابية تؤدي في نهاية المطاف إلى سيطرة شركة واحدة على السوق. إن الشركات الكبيرة لا تتنافس على حصص من السوق كالشركات التقليدية؛ بل تتنافس على السوق نفسها، حيث ترسخ هذه الشركات وجودها وتجعل المنافسة مستحيلة؛ نظراً لقدرتها على ابتلاع منافسيها كما فعلت “فيسبوك” عندما اشترت “إنستغرام” و”واتس آب”.
ولكن الحكم ما إذا كانت هذه الشركات العملاقة تقلل من رفاهية المستهلك لا يزال غير واضح؛ فهذه الشركات توفر للمستهلكين كنزاً من المنتجات الرقمية، مثل محركات البحث، والبريد الإلكتروني، وشبكات التواصل الاجتماعي، وعلى ما يبدو، فإن الناس يقدرون هذه الخدمات عالياً؛ لدرجة أنهم مستعدون لدفع ثمنها من خصوصية بياناتهم التي يسمحون للمعلنين باستخدامها لاستهدافهم بإعلاناتهم.
إن الحجة الاقتصادية لكبح جماح شركات التكنولوجيا الكبرى معقدة جداً؛ ولكن هنالك قضية سياسية أكثر إقناعاً، فمنصات الإنترنت سببت أضراراً سياسية أكثر مدعاة للقلق من تلك الاقتصادية؛ فخطرها الحقيقي لا يكمن في أنها قد تشوه الأسواق، بل في أنها تهدد الديمقراطية.
محتكرو المعلومات
منذ عام 2016 استفاق الأمريكيون على قدرة شركات التكنولوجيا الكبيرة على تشكيل المعلومات؛ فقد سمحت هذه المنصات للمخادعين بنشر الأخبار الكاذبة، وللمتطرفين بنشر نظريات المؤامرة. لقد خلقت هذه المنصات ما يمكن تسميته بـ”الفقاعات المفلترة”؛ حيث إنه بفضل طريقة عمل خوارزمياتها، يتلقى المستخدمون فقط المعلومات التي تتماشى مع معتقداتهم السابقة، وتؤكدها. كما أن هذه المنصات تقوم بتضخيم أصوات معينة أو دفنها، وبذلك يكون لها تأثير سلبي على الحوار السياسي الديمقراطي. والخوف الأكبر هو أن هذه المنصات قد اكتسبت من القوة ما يمكنها من التأثير بقوة على أي انتخابات؛ سواء عن قصد أو عن غير قصد.
وقد استجاب النقاد لهذه المخاوف بمطالبة هذه المنصات بتحمل مسؤولية أكبر عن المحتوى الذي تبثه؛ فقد طالبوا “تويتر” بحذف أو التأكد من صحة تغريدات الرئيس ترامب المضللة، وانتقدوا “فيسبوك” لقولها إنها لن تتدخل في المحتوى السياسي. يودُّ الكثيرون رؤية منصات الإنترنت تتصرف مثل الشركات الإعلامية، وتنظم محتواها السياسي وتحاسب المسؤولين الحكوميين.
لكن الضغط بهذا الاتجاه لا يمثل حلاً نهائياً؛ لأنه لا يعالج قوة هذه الشركات العملاقة، فأي حل حقيقي يجب أن يحد من هذه القوة. في الوقت الحاضر، المحافظون هم أكثر من يشتكون من الانحياز السياسي لهذه المنصات، فهم يعتبرون أن من يتحكمون فيها حالياً -جيف بيزوس لـ”أمازون”، مارك زوكربيرغ لـ”فيسبوك”، سوندار بيتشاي لـ”جوجل”، وجاك دورسي لـ”تويتر”- هم من الميالين لأن يكونوا تقدميين اجتماعياً، مع أن دوافعهم الرئيسية هي مصالحهم الاقتصادية الذاتية.
ولكن هذا الافتراض قد لا يصمد طويلاً، لنفرض أن مليارديراً محافظاً استحوذ على إحدى هذه المنصات العملاقة.
إن سيطرة روبرت مردوخ على قناة “فوكس نيوز”، وصحيفة “وول ستريت جورنال”، منحته بالفعل نفوذاً سياسياً واسعاً؛ ولكن على الأقل تكون آثار هذا التحكم واضحة، فعندما تشاهد “فوكس نيوز” أو تقرأ صحيفة “وول ستريت جورنال”، فأنت تعرف مَن يقف وراءهما؛ ولكن إذا ما استحوذ مردوخ على “فيسبوك” أو “جوجل”، فيمكنه تغيير خوارزمياتهما؛ بحيث يتحكم فيما يراه المستخدمون ويقرأونه، وبذلك يمكنه التأثير على وجهات نظرهم السياسية دون علمهم أو موافقتهم. كما أن سيطرة هذه المنصات تجعل الهروب من تأثيرها أمراً في غاية الصعوبة؛ فإذا كنت ليبرالياً يمكنك ببساطة مشاهدة قناة “MSNBC” بدلاً من “فوكس”، ولكن لو سيطر مردوخ على “فيسبوك”، قد لا يكون لديك الخيار نفسه إذا رغبت في مشاركة أخبار سياسية أو تنظيم نشاطات سياسية مع أصدقائك.
كما أن منصات مثل “أمازون” و”فيسبوك” و”جوجل”، تمتلك معلومات عن حياة الأفراد، لم يكن المحتكرون السابقون يمتلكونها. فهم يعرفون أصدقاءك وأفراد عائلتك، ويعرفون مقدار دخلك وممتلكاتك، والكثير من تفاصل حياتك الحميمة. فماذا لو قرر أحد مسؤولي منصة ما من ذوي النيَّات الفاسدة أن يستعمل هذه المعلومات كي يلوي ذراع أحد المسؤولين الحكوميين مثلاً، أو تحالف منصة مثل “فيسبوك” مع وزارة عدل مستقطبة سياسياً؟ إن هذه المنصات بقوتها الاقتصادية والسياسية هي أشبه بمسدس محشو على الطاولة، لا تدري متى يمكن أن يستعمله أحد الجالسين إليها. والسؤال بالنسبة إلى الديمقراطية الأمريكية هو: هل من المناسب ترك هذا المسدس على الطاولة؛ حيث يمكن لشخص يحمل أسوأ النيَّات أن يستعمله؟
تضييق الخناق
الطريقةُ الأوضح للسيطرة على هذه القوة الأنظمةُ الحكومية؛ وهذا هو المنهج المعتمد في أوروبا، فألمانيا على سبيل المثال تمرر قانوناً يجرم نشر الأخبار الكاذبة. ومع أن التنظيم قد يكون ممكناً في بعض الديمقراطيات التي تتمتع بدرجة عالية من التوافق الاجتماعي، يبقى من غير المرجح أن ينجح في بلد شديد الاستقطاب مثل الولايات المتحدة.
وبالعودة إلى ذروة البث التليفزيوني، يطالب مبدأ الإنصاف الذي وضعته لجنة الاتصالات الفيدرالية، الشبكات التليفزيونية بالمحافظة على تغطية متوازنة للقضايا السياسية. استمر الجمهوريون دون كلل في مهاجمة هذا المبدأ وزعموا أن هذه الشبكات كانت منحازة ضد المحافظين، وقامت لجنة الاتصالات الفيدرالية بإلغاء هذا المبدأ عام 1087. فتخيل جهة حكومية ناظمة تحاول أن تقرر ما إذا كان سيتم حظر تغريدة رئاسية على “تويتر”. مهما كان قرارها فسوف يثير جدلاً لا نهاية له.
الطريقة الأخرى لمراقبة قوة منصات الإنترنت هي التشجيع على منافسة أكبر؛ فإذا كانت هنالك منصات عديدة فلن تكون أي منها قادرة على الهيمنة التي تستمتع بها “فيسبوك” و”جوجل” اليوم. ولكن المشكلة هي أنه لا الولايات المتحدة ولا الاتحاد الأوروبي من المحتمل أن يفككوا “فيسبوك” أو “جوجل” كما فككوا “ستاندارد أويل” و”AT&T”. وشركات التكنولوجيا اليوم سوف تقاوم بشدة أية محاولة من هذا القبيل، وحتى لو خسرت هذه الشركات المعركة، فإن عملية تفكيكها ستستغرق سنوات عديدة، إذا لم تكن عشرات السنوات كي تكتمل. ومن غير المؤكد أن تفكيك “فيسبوك” مثلاً سوف يحل المشكلة، فمن المحتمل أن شركة مشابهة صغيرة قد تنشأ عن تفكيكها، وتنمو بسرعة لتحل محل الشركة الأم.
حل البرامج الوسيطة
إذا فشلت جميع الحلول السابقة فما الذي يمكن فعله حيال تراكم القوة في هذه المنصات؟
أحد أكثر الحلول الواعدة لم يتلق إلا القليل من الاهتمام؛ إنه البرامج الوسيطة. والبرامج الوسيطة هي برامج تعمل فوق المنصة الأساسية، ويمكنها تعديل عرض البيانات الأساسية. وإضافة هذه البرامج إلى منصات التكنولوجيا الحالية يمكنها أن تمكن المستخدمين من اختيار الكيفية التي يتم بها تنسيق بياناتهم وتصنيفها. سوف يختار المستخدمون البرامج الوسيطة التي سوف تحدد أهمية ومصداقية المحتوى السياسي وستستخدم المنصات هذه التحديدات كي تنسق وتصنف ما يراه المستخدم.
سوف يُطلب من مزودي البرامج الوسيطة أن يكونوا شفافين في عروضهم وميزات تقنياتهم؛ بحيث يتمكن المستخدم من أخذ خيارات مبنية على معرفة مسبقة. ومن خلال التوسط بين المستخدمين والمنصات الأساسية يمكن للبرامج الوسيطة أن تلبي تفضيلات المستهلكين الأفراد معاً، وأن توفر مقاومة كبيرة للإجراءات أحادية الجانب لكبار اللاعبين.
يبقى السؤال حول مقدار السيطرة الذي يجب أن يمنح للشركات المزودة للبرامج الوسيطة؛ فقد يعني منحها الكثير من القوة قطع اتصال المنصات الرئيسية بزبائنها بشكل كامل، وهذا سيؤدي إلى تقويض طريقة عملها؛ وبالتالي سوف تقاوم بشدة. أما منحها صلاحيات ضئيلة في التحكم قد يفشل في كبح قدرة المنصات الكبرى على تنظيم المحتوى ونشره. ولكن بغض النظر عن مكان الخط الفاصل، يبقى التدخل الحكومي أمراً لا بد منه، ومن المرجح أن يصدر الكونغرس قانوناً يلزم المنصات باستخدام واجهات برمجة موحدة للتطبيقات، ومفتوحة، تسمح لشركات البرامج الوسيطة أن تعمل بسلاسة مع منصات تكنولوجية مختلفة.
إعادة السيطرة
يجب أن يشعر الناس بالقلق من القوة المتنامية لمنصات الإنترنت المهيمنة، وهنالك سبب وجيه يدفع صانعي السياسات للتوجه نحو قانون مكافحة الاحتكار كعلاج لهذه المشكلة؛ ولكن هذا ليس سوى واحد من الحلول العديدة التي يمكن العمل بها للاستجابة للقوة السياسية والاقتصادية الكبيرة المتراكمة.
تقوم الحكومات الآن بإطلاق قوانين مكافحة الاحتكار ضد منصات التكنولوجيا الكبيرة في الولايات المتحدة وأوروبا، ومن المتوقع أن تستغرق القضايا سنوات في أروقة المحاكم؛ ولكن هذه المقاربة ليست بالضرورة هي الأفضل في مجابهة التهديد السياسي الجدي الذي تشكله منصات التكنولوجيا على الديمقراطية. لقد ضمن التعديل الأول سوقاً لتبادل للأفكار تحمي فيه المنافسة الخطاب العام، وليس الأنظمة واللوائح؛ ولكن في عالم تتمكن فيه المنصات الكبرى من تضخيم وكبت واستهداف الرسائل السياسية، فإن هذه السوق ستنهار حتماً.
يمكن للبرامج الوسيطة حل هذه المشكلة؛ فهي قادرة على أخذ تلك القوة من المنصات التكنولوجية وتسليمها ليس إلى جهة ناظمة حكومية؛ ولكن إلى مجموعة جديدة من الشركات التنافسية التي ستسمح للمستخدمين بتصميم تجاربهم على الإنترنت كما يرغبون. وهذه الطريقة لن تمنع خطاب الكراهية أو نظريات المؤامرة من الانتشار؛ ولكنها سوف تحد من نطاقها، بحيث تتماشى بشكل أفضل مع الهدف الأصلي من التعديل الأول.
واليوم يتم تحديد المحتوى الذي تقدمه المنصات من خلال خوارزميات غامضة تولدها برامج الذكاء الاصطناعي.
أما في وجود البرامج الوسيطة، فإن التحكم سيكون في أيدي المستخدمين، فهم -وليس برنامج ذكاء اصطناعي خفي- سوف يحددون ما الذي يرونه.
المصدر: qposts
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر