أزمة تونس | مركز سمت للدراسات

أزمة تونس: حلول تصطدم بالاستقطاب والمناكفات

التاريخ والوقت : الإثنين, 18 يناير 2021

رشا عمار

ككرة الثلج تتصاعد الأزمة السياسية متعددة الأطراف في تونس، في ظل إرهاصات متسارعة يغلب عليها الاستقطاب السياسي والإيديولوجي، وتمسُّك قوي من كافة القوى السياسية بالمواقف والمناصب دون رغبة حقيقية في التراجع أو التقدم خطوة واحدة، للمساهمة في حلحلة الأزمة، أو التوافق حول خريطة طريق واضحة من شأنها ضمان تمثيل سياسي متزن لجميع الأطراف السياسية داخل المنظومة.

ولعل الصراع في تونس قد تجاوز طرفيه التقليديين؛ التيار الإسلامي بزعامة الإخوان وذراعها السياسي حركة النهضة ذات الأغلبية الطفيفة في البرلمان، والتيار المدني الذي تقوده مجموعة من الأحزاب لعل أكثرها نشاطاً الحزب الدستور الحر الذي تترأسه النائبة عبير موسي، لتدخل الرئاسة أيضاً على خط المواجهات، بالدعوة إلى حوار وصفته بأنه لن يكون كسابقيه، ولن يسمح بفتح مناقشات مع “الفاسدين”، وسيضع حلولاً منجزة للأزمة السياسية التي تلقي بظلالها على الأوضاع الداخلية وخاصة الاقتصادية.

وفي لقاء جمعه صباح الإثنين الماضي، مع سامية عبو، عضو مجلس النواب والمكلفة بالعلاقة بينه وبين الرئاسية، وصف الرئيس التونسي قيس سعيّد، الوضع الذي تعيشه البلاد بأنه “غير طبيعي بأي مقياس من المقاييس”، مشيراً في بيان صادر عن الرئاسة التونسية أنّ “عبو”، المكلفة بالعلاقات بين رئاسة الجمهورية والمجلس النيابي في إضراب جوع، وعدد من النواب في اعتصام مفتوح، إلى جانب ما يحصل تقريباً في كل اجتماع لمكتب المجلس أو في إطار الجلسة العامة.

وأكد تمسكه بتطبيق القانون، وحرصه الشديد على استمرارية الدولة التونسية في ظروف طبيعية يتطلع إليها الشعب التونسي.

كما تم التطرق إلى ما يتم تداوله حول تعديل وزاري قريب، وقد أكد رئيس الجمهورية على ضرورة ألا تقتصر المشاورات على أطراف بعينها، علماً أنه لم يتم إعلام رئيس الدولة، وهو رمز وحدتها والضامن لاستقلالها واستمراريتها والساهر على احترام الدستور، بما يجري الترتيب له من تعديل وزاري.

الحوار.. السهل الممتنع

تصف أستاذة الحضارة بجامعة قرطاج، الدكتورة زهرة بلحاج، الحل السياسي المعلق على الحوار في تونس بأنه “السهل الممتع”، موضحة أنه “منذ أطلق الاتّحاد العامّ التّونسي للشّغل مبادراته للحوار الوطني توالت ردود الفعل التي جاء بعضها داعماً، والبعض مشكّكاً، والبعض الآخر رافضاً صراحة، إلاّ أنّ التّوجّه الدّاعم لهذا الحوار بدأ أكثر إقناعاً لأنّ أصحابه استندوا إلى المنطق والتّقاليد التونسيّة في هذا الشّأن كلّما وجدت البلاد نفسها في مأزق، ودليلهم الأمثل على ذلك تجربة الحوار الذي أنهى “اعتصام الرّحيل” سلميّاً بانسحاب حكومة الترويكا بقيادة حركة النّهضة الإسلاميّة، وتكوين حكومة تكنوقراط نظّمت انتخابات برلمانيّة ورئاسيّة في ظرف سنة، وهو ما نال استحساناً دوليّاً تُوّج بجائزة نوبل للسّلام”.

ترى بلحاج، في حديثها لـ”حفريات”، أنّ “كلّ ذلك يبدو لعامّة النّاس أمراً على غاية من البساطة والسّهولة، بحيث يكفي أن يجلس الفرقاء السّياسيون حول طاولة واحدة ويتّفقوا على جملة من النّقاط والإجراءات، ومن أهمّها الإمساك عن المناكفات السّياسيّة، وانكباب البرلمان على القيام بواجبه التّشريعي حسب برنامج أولويات، في حين تنكبّ الحكومة على معالجة الأزمة الاقتصاديّة ومحاولة إيجاد نوع من التوازنات الماليّة المنخرمة بشكل غير مسبوق، فلمَ لا تقرّ هدنة اجتماعيّة حفاظاً على السّلم الأهليّ المهدّد منذ مدّة على أن تمنح هذه الحكومة مهلة تتراوح بين ستة أشهر وسنة، ثمّ يتمّ تقييم النّتائج واتخاذ القرارات الملائمة على ضوء ذلك”.

الحلول رهينة قدرة الأطراف على التوافق

تذهب بلحاج إلى أنّ “معظم هؤلاء المؤمنين بإمكانيّة إجراء هذا الحوار في الأيّام القادمة والانتهاء إلى مثل هذه النّتائج الإيجابيّة في حيّز زمنيّ قصير اعتباراً لإلحاح الأزمة الرّاهنة، يغلب عليهم حسن النيّة والرّغبة الملحّة في تجاوز الأزمة الشّاملة التي تعيشها البلاد بأقلّ الأضرار وبأسرع ما يمكن، ولعلّ ذلك جعلهم يقفون عند ظاهر المشهد ولا يرون مدى تعقيداته الباطنة، وحدّة التّناقض بين الأطراف المدعوّة إليه، وهو ما يجعل الأمر على غاية من الصّعوبة إن لم نقل الاستحالة”.

ما الإشكاليات التي تواجه التونسيين؟

ترى بلحاج أنّ أبرز ما يواجه البلاد في هذا الصّدد من إشكاليات ومصاعب هو ما يتعلّق بالمفهوم الذي تحمله هذه الأطراف للحوار المطلوب، “كلّهم يستعملون نفس المصطلح، ولكنّهم يختلفون إلى حدّ التّناقض في مضمونه، باختلاف مصالح وأهداف وواقع كلّ طرف”!

وتوضح: حركة النّهضة المتمسّكة بمقاليد الحكم منذ 2011 لا ترى في هذا الحوار إلاّ محاولة لترويض خصومها السّياسيين، وتجاوز انقساماتها الدّاخليّة التي برزت في وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة، وتآكل مقبوليّة شيخها راشد الغنّوشي سواء في رئاسة الحركة أو خاصّة في رئاسة البرلمان، كما تسعى أيضاً إلى الالتفاف على المصاعب التي يثيرها ضدّها رئيس الجمهوريّة الشّعبوي قيس سعيّد، ولكنّ الحركة لن تقبل أبداً بحوار يضعها أمام مسؤولياتها السّياسيّة والقانونيّة وحتّى الجزائيّة، لذلك أعلنت أنّها لن تقبل إلاّ بحوار “اقتصاديّ اجتماعيّ” لا علاقة له بالشّأن السّياسي.

وتتابع بلحاج: “أمّا رئيس الجمهوريّة فإنّه بشعبويّته الجامحة أمام هامشيّة دوره الدّستوريّ، يطمح من خلال هذا الحوار إلى قلب الطّاولة على كلّ من حركة النّهضة ورئيس الحكومة السيّد هشام المشيشي الذي عيّنه بنفسه في منصبه، ولكنّه تمرّد عليه محتمياً بحركة النّهضة وحلفائها من ائتلاف الكرامة السّلفي وحزب قلب تونس لرجل الأعمال نبيل القروي الموقوف بالسّجن في قضايا فساد وتبييض أموال”.

وتضيف: “لذلك فإنّ رئيس الجمهوريّة اشترط تشريك ممثّلين عن الشّباب من جميع الجهات والهيئات ليكونوا عوناً له على خصومه، كما كانوا عوناً له في الانتخابات، وهو ما يمكّنه من تنظيم استفتاء شعبيّ لتغيير نظام الحكم من نظام برلمانيّ معدّل إلى نظام رئاسيّ يعتمد الدّيمقراطيّة الشّعبيّة على غرار لجان معمر القذافي، وفي مواجهة هذين الطّرفين نجد طيفاً واسعاً من القوى الحداثيّة المدنيّة من أحزاب ومنظّمات اجتماعيّة تاريخيّة، مثل الاتّحاد العامّ التّونسي للشّغل واتّحاد الأعراف (الصّناعة والتّجارة والصّناعات التّقليديّة) والاتّحاد النّسائي التّونسي وجمعيّة النّساء الدّيمقراطيات، والاتّحاد العامّ طلبة تونس والهياكل التّمثيليّة للمحامين التّونسيين والرّابطة التّونسيّة للدّفاع عن حقوق الإنسان وغيرها من منظّمات المجتمع المدني ذات التّوجّه الحداثي”.

وترى أستاذة الحضارة التونسية أنّ هذه القوى، وخاصّة الحزبيّة منها، غير منسجمة المواقف بل وتمزّقها صراعات عديدة، “فهي تلتقي جميعاً في الدّفاع عن وحدة البلاد ومكاسب الدّولة الوطنيّة الحداثيّة المدنيّة، أمام زحف المشروع الإسلاموي الذي يعمل دون هوادة بدعم قويّ من القوى الإخوانيّة الخارجيّة، وكذلك بإسناد متخفّ من بعض القوى الدّوليّة خدمة لأهدافها في المنطقة”.

مطالب حاسمة وقوى غير منسجمة

وعن مطالب هذه القوى من الحوار الوطني الذي تعطيه توصيفاً إضافيّاً أساسيّاً بتسميته “الحوار الوطني السّياسي والاقتصاديّ والاجتماعي”، تلخّصها بلحاج في ثلاثة:

الأول: تردّي تونس حاليّاً في وضع يُقارب الإفلاس المالي، ويتّسم بالتّراجع الاقتصادي والتّدهور بحقوق النّساء.. لا يمكن أن يكون نتاجاً للقضاء والقدر، بل تمّ ويتواصل بفعل فاعل عبر سوء الحوكمة وجهل أبجديات تسيير الدّول والنّظر في الشّأن العامّ، فضلاً عن اعتبار المال العامّ، وحتّى بعض المال الخاصّ، غنيمة حرب تمّ توزيعها بين الفاتحين في شكل تعويضات عن “نضالات” في الغالب وهميّة، أو في شكل تملّك خارج الشّروط القانونيّة وقواعد الشّفافيّة والنّزاهة، والعمل المستمرّ على تفكيك هياكل الدّولة الوطنيّة الحديثة وإحياء الهياكل التقليديّة البائدة من عشائريّة وقبليّة وجهويّة، لتسهيل تعويض المنظومة الجمهوريّة بمنظومة الخلافة لاحقاً، دون نسيان اختراق وترذيل وتفكيك منظومة التّعليم العصري لفائدة المدارس القرآنيّة التي يتم استغلالها في خدمة المشروع الإسلاموي الإخواني محليّاً ودوليّاً، وقد تجسّد ذلك في النّسبة الكبيرة من التّونسيين والتّونسيات “المجاهدين” في مختلف ميادين العمل الإرهابي: سوريا والعراق وليبيا وغيرها. ولا يمكن في نظر هذه القوى أن يتمّ أيّ حوار جدّي ولا ينطلق من تقييم شفّاف وموضوعيّ لكلّ ما حلّ بتونس جرّاء حكم الإسلام السّياسي في السّنوات العشرة الأخيرة وتحميل المسؤوليات، والانتهاء إلى رسم خطّة عمليّة لتجاوز كلّ ذلك والقطع مع أسبابه.

وفي هذا الإطار طالبت هذه القوى منذ مدّة ومن خلال ممثّليها في البرلمان بضرورة تكليف هيئة مختصّة بإنجاز تدقيق لماليّة الدّولة التّونسيّة خلال هذه السّنوات العشرة: دخلاً وصرفاً.

الثاني: فكّ ألغاز الاغتيالات السّياسيّة التي طالت ثلاثة من وجوه المعارضة وهم؛ شكري بلعيد ومحمّد البراهمي ولطفي نقض، إضافة إلى العديد من العمليات الإرهابيّة التي ذهب ضحيّتها أمنيون وجنود ومدنيون. والملاحظ أنّ جميع الملفّات ذات الصّلة تشير إلى تورّط عناصر قياديّة من أعلى مستوى في حركة النّهضة الحاكمة، ولكنّ القضاء يتعنّت في حسم هذه القضايا، وقد تعرّضت ملفّات كثيرة للسّرقة والإتلاف من داخل مكاتب وزارة الدّاخليّة وبعض الهيئات القضائيّة، وإلى الآن وبعد مضيّ عديد السّنوات لم يتمّ استكمال البحث في أيّ قضيّة منها. والمطلوب من أيّ حوار وطنيّ جدّي، وضع آليات ذات مصداقيّة لإنجاز العدالة في هذه القضايا وتطبيق القانون على الجميع.

أما الثالث: فمراجعة النّظام السّياسي والانتخابي من خلال مراجعة الدّستور والقانون الانتخابي باعتباره شرطاً أساسيّاً لإمكانيّة الخروج من الأزمة السّياسيّة الحاليّة؛ لأنّ هذين النصّين اللّذين تمّ إقرارهما في المرحلة التّأسيسيّة التي سيطرت عليها حركة النّهضة، جاءا معبّرين عن رغبة هذه الحركة في الحكم من وراء قناع يجنّبها تحمّل نتائج المواجهة مع الرّأي العامّ ويعفيها من مسؤوليّة فشلها في إدارة الشّأن العامّ، ولكنّها تبقى في كلّ الأحوال، ومهما كانت نتائجها الانتخابيّة، معطى أساسيّاً في اللّعبة السّياسيّة طوال هذه المرحلة الانتقاليّة الصّعبة، أو مرحلة التمكّن كما يسمّيها الإسلامويون.

وتقول بلحاج: إنّ نصّ الدّستور بتوزيع السّلطة التّنفيذيّة بين رئاسة الجمهوريّة ورئاسة الحكومة دون ضوابط واضحة، جعل من المستحيل على هذه السّلطة العمل الطّبيعي، وظلّت رهينة الصّراعات بين رأسيها.

أمّا النّظام الانتخابي فقد وقعت صياغته بشكل لا يسمح لأيّ طرف بالحصول على الأغلبيّة الضّروريّة للحكم نتيجة تشرذم المشهد النيابي، ولكنّه في المقابل يعطي لحركة النّهضة وهي الأقوى تنظيماً وماليّاً التحكّم في هذا المشهد، باعتبار أنّ الحزب الأوّل أو الثّاني أو حتّى الثّالث لا تتكوّن أن تتكوّن أيّة حكومة بدونه.

وتؤكّد القوى الحداثيّة المدنيّة أنّ فشل “حوار جائزة نوبل” في إخراج البلاد من أزمتها المتطاولة، يعود إلى كونه لم يهتمّ بمراجعة أصل الدّاء المتمثّل في النّظامين السّياسي والانتخابي، ولم يقم بتقييم المرحلة واستخلاص النّتائج الضّروريّة، وتحميل المسؤوليات الواجبة؛ فعادت الأمور بسرعة إلى ما كانت عليه عقب انتخابات 2014 التي تراجعت فيها حركة النّهضة إلى المرتبة الثانية بعد حزب نداء تونس، ولكنّها ما فتئت أن عادت إلى السّيطرة على مفاصل الدّولة وأهمّ وزاراتها من وراء رئاسة الراحل الباجي قائد السّبسي، بل ونجحت في تفكيك حزبه الذي آل إلى الاندثار قبل أن ينهي دورة حكمه.

وأمام كلّ هذه المعطيات والاعتبارات والخطوط الحمراء الخاصّة بكلّ طرف: هل يُتوقّع أن يلتئم حوار بين أطراف على هذه الدّرجة من التّناقض؟ وحتّى وإن التأم شكليّاً ماذا يمكن لتونس أن تجني منه في أزمتها الحرجة؟

المصدر: حفريات

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر