أدوات الوسائط الاجتماعية | مركز سمت للدراسات

في زمن التواصل الرقمي “الاجتماعي”: الشخص أم النص؟!

التاريخ والوقت : الأحد, 27 ديسمبر 2020

د. هيلة عبدالله السليم 

 

مع ظهور أدوات الوسائط الاجتماعية التي شملت تدوين الويب، وصناعة الكتب الاجتماعية، ومنصات الكتابة الاجتماعية، ومحركات البحث تشهد تصوراتنا للكتابة والنشر والتأليف تغيرًا جذريًا وممارسة ما يسمى بالكتابة الرقمية Digital literature أو التأليف الرقمي Digital authorship الذي لم يعد يميز بين العام والخاص أو ما يسمى بـ”النخبة والعوام”.

تبعًا لـ”أرنست كاسيرر” Ernst Cassirer، فإن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على تحويل كل شيء إلى رمز يحيل إلى غيره. وهذه الرمزية التي تنطوي عليها اللغة – رغم محدوديتها – فإنها مفتاح لتحقيق المطالب الإنسانية الشمولية. ومن بين ما أنتجه الإنسان لتحقيق حاجته الأهم، وهي التواصل والتفاعل Communication & Interaction، هي تلك الأنظمة الرمزية ومن بينها وسائل التواصل الرقمية.

في كتابها “المحادثة والمجتمع: الشبكة الاجتماعية للتوثيق” تنص Anne Gentle “آن جنتل” على أن: “المشاركة في وسائل التواصل الاجتماعي تحفز الآخرين على المساهمة، كما تعزز الجهود التعاونية على عكس ما يحدث في الماضي”. في عالم الإنترنت حيث يمكن لأي شخص النشر ومع انحسار حراس البوابة Gatekeepers الذي يحول الجميع لكتاب على خشبة مسرح إلكتروني للعب أدوار لم يألفوها في الواقع اليومي بفعل معيقات ثقافية أو اجتماعية مثل الانغلاق ثقافي أو النظام الأبوي البطريركي Patriarchy الذي قد يقمع فئة ما “القلم النسائي مثلاً”؛ تأتي منصات إلكترونية مثل Wiki لتفسح المجال للعمل التعاوني الجماعي في سياق فضائي يسمح للتواصل مع جماهير غفيرة تذوب معها الطبقية والفوارق الثقافية والجنسية والعرقية بسبب خاصية “انهيار السياق” Context collapse، لذلك غالبًا ما يتم استخدام مصطلح “الوسائط الاجتماعية” بالتبادل مع “الشبكة الاجتماعية”، التي تُعرَّف على أنها “بنية اجتماعية مكونة من جهات متفاعلة تسمى العقد، وترتبط بأنواع مختلفة من العلاقات”.

في أطروحة الدكتوراه التي عملت عليها والمعنونة بــ”لماذا يغرد الطائر المحبوس: العوامل الثقافية في تشكيل الهوية (الذات) في الأونلاين”، تفجرت بداخلي تساؤلات أكبر حول ما يمكن أن يشكله الخروج عن السياق الثقافي وتجاوزه إلى عوالم أوسع تتحدى محدودية الزمان والمكان، لتتحول هذه الذات إلى طائر حر يغرد في سماءات لا تعرف القيد؛ رغم هذه الحرية يظل هذا السياق الإلكتروني واللغة الرقمية التي تحكمها الخوارزميات تحديًا كبيرًا قلما ينجح أحدهم في أن يصنع منه كينونة متميزة متطابقة دون أن تتشظى هذه الذات Self-fragmentation.

فكرة التأليف والكتابة لا تقتصر على الأدب، إنما هي حالة إنسانية يحركها القلق اللا نهائي لوجود مهدد لتأتي هذه اللغة بإشباع حاجتنا للخلود ومواجهة قلق الموت؛ لكن ماذا لو كان هذا الإنسان منتجًا عريقًا للثقافة أو الأدب؟ هل ستحول تلك الوسائط الرقمية “الاجتماعية” بين الكاتب التقليدي وبين القارئ، أم تعيد صياغة علاقتهما؟ هل تلك الوسائط ستكسبه سمة الاستمرارية وصولاً إلى الخلود؟

في استطلاع أجراه “فريديريك مارتل” Fredric Martel حول “حالة الكاتب في العصر الرقمي” بتكليف من المركز الوطني للكتاب، حذَّر من أن التحول الإعلامي والثقافي قد يهدد مهنة الكتابة بقوله: “المؤلف ميت إذا لم يتغير”، وشجع موقف الكاتب “الاجتماعي” وضرورة مواكبة تلك التغيرات.

فوسائل التواصل الاجتماعي هي أداة رئيسة في التنظيم (الذاتي) Self-Curation، والوساطة (الذاتية) Self- mediation، وتوزيع المحتوى Distribution of content – وأيضًا أداة قادرة على إنشاء محتوى فريد.

لم يحدث أن اتخذ موقفًا موحدًا نحو منصات التواصل الاجتماعية؛ إذ توزعت الآراء ما بين مقدم ومحجم أو مسيء لاستخدامها، أو رافض لها بالكلية. فالمناصرون للتأليف خلال صفحات الـ Wiki – على سبيل المثال – يرون أنه بوجود حراس بوابة أمناء على المعرفة ينظمون ذلك المحتوى، فإن بناء المعرفة التعاونية محل تقدير؛ ذلك لأن المستخدمين يعتمدون على حكمة الجماهير، إذ يساهم المستخدمون بالمحتوى في أعمال الآخرين، فتتنامى المعرفة ويزدهر التأليف بمرور الوقت باعتبار هذه الكتابة التعاونية المشتركة تجربة غير ملزمة بالقيود المادية أو الزمنية، لأنه يمكن لأي شخص لديه المعرفة التكنولوجية الأساسية إنشاء صفحة Wiki وممارسة التأليف والحذف والتعديل التي يجدها الكثيرون أسهل بكثير من بدء مقالة أو كتاب – حسب تعبير “آن جنتل”. إذ لا يتعين على المستخدم تأليف موقع كامل، فكل ما عليه القيام به هو تقديم جزء من المحتوى في منصة تسمح لأي مستخدم بالتحرير والكتابة وإنشاء مجموعات مناقشة.

فعندما يتحد الانفتاح والحرية على التعبير والكتابة، فإن هذا المحتوى الصغير يتحول إلى إطار مفاهيمي أكبر، كونه مجانيًا؛ عوضًا عن كونه حرًا.

وباعتبار الأدب والتأليف الأدبي الإنساني من الفنون التي تحمل وتحمي الهوية الثقافية في أي مجتمع، فإن ضرورة التوقف وإمعان النظر في حال كان وجودها وامتدادها مهددين، في خضم المخاوف من أي تحول ثقافي أو اجتماعي من خلال ما نشهده الآن من سطوة الثورة الرقمية والخوارزميات التي يراها البعض مهددة لهذا المعطى الثقافي المهم، وهو اللغة والنص في ظل عالم تحكمه الأرقام والشبكات المعقدة.

لذا، في مقالي هذا سأثير تساؤلات أكثر منها إجابات حول العلاقة الجدلية بين اللغة والرقم والكاتب والمتلقي: كيف تتوسط وسائل التواصل الاجتماعية العلاقة بين المؤلف والقارئ؟ وهل هذه الوسائط تهدد خلود المؤلف التقليدي، أو أنها تدعم فرضية موت المؤلف التي اقترحها “بارت”؟. سأربط بين تنظيرات الأخير وشرح طبيعة السياق الرقمي من خلال نظريتي تقديم الذات Self-presentation، وإدارة الانطباعات Impression management التي اقترحها عالم الاجتماع الأميركي “إرفنغ غوفمان” Erving Goffman وصاغ مفهوم “الوجه” Face ليعبّر به عن صورة الذات Self.

بتأمل أفكار “بارت” حول “موت المؤلف” وتطبيقها على وسائل التواصل الاجتماعية سأشير إلى منصة Twitter لشيوع استخدامها كمنصة للتعبير ولطبيعتها في فرض قيود وسن تشريعات جديدة لا تحاكي غالبًا المحددات الثقافية الموجودة وتفرض توزيعًا جديدًا للأدوار الاجتماعية.. Twitter تمثل سيرة ذاتية مصغرة لمستخدم (شخص) يقوم بتحديثها بالأخبار والصور وتفاصيل السيرة الذاتية وما إلى ذلك. ويمكن للمستخدمين “المتابعين” الوصول والتعليق على صفحات المستخدمين الآخرين وتحديثها عن طريق الـTimeline.

أسهم التطور الرقمي بشدة في الترابط الوثيق بين أشكال الحياة الاجتماعية من ناحية، والقدرة على التحكم والسيطرة في المكان والزمان من ناحية أخرى، فقد أعاد هذا التغير التقني ترتيب المكان بحيث أصبح باستطاعتنا التفاعل مع الآخرين من دون التحرك من مكاننا. وأخذت صورة العالم تتغير بعد الثورة الرقمية التي حدثت خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ثم شهدت تغيرًا جذريًا في زمن الهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي والوسائط الحديثة. فحين أصبحت السيادة فيه للتقنيات الرقمية، أخذت مصطلحات Goffman “غوفمان” ومفاهيمه دلالية مختلفة بالضرورة، والتي سأتناولها بشيء من التفصيل الآن.

ينظر “غوفمان” إلى المضمون التعبيري في الحياة الاجتماعية، مثل اللغة والتلميحات والإيماءات وغيرها مما يُسميه حوامل العلامات Sign Vehicles، باعتبارها مصدرًا للانطباعات التي يعطيها الفرد للآخرين أو يُكوِّنها عنهم، والتي يتم استخدامها في التفاعل الاجتماعي المباشر وجهًا لوجه، إذ يعتمد الفرد غالبًا في إدارة الانطباعات، ونلاحظ أن قدرة الفرد على التلاعب في الانطباعات محدودة في آخر الأمر ومُقيَّدة بحضور الآخرين وملاحظتهم لسلوكه وتصرفاته، وخصوصًا ما يصدر بشكل عفوي وبغير إرادته. أمَّا في عالم الوسائط، حيث يصبح التمثيل Play roles هو المقولة الأساسية، فالباب مفتوح للتلاعب في الانطباعات عبر غياب الأصل وحضور النسخة، كما أن التقنيات الرقمية تتيح وسائل وإمكانيات هائلة للتلاعب في هذه التمثيلات، ومن ثَمَّ الانطباعات، وصولاً إلى خلق انطباعات زائفة وهمية.

أول ما يلفت النظر هو أن الحد الفاصل بين المنطقتين الأمامية Frontstage والخلفية Backstage للتفاعل الاجتماعي، اللتين اقترحهما “غوفمان”، أخذ يتغير مع توسع الاستخدام الرقمي وأدواته وتطبيقاته، فمع ملازمة تلك الأدوات والتطبيقات للفرد في كل مكان تقريبًا يتلاشى ذلك الحد الفاصل شيئا فشيئًا، إمَّا بالسماح للآخرين (المشاهدين) بالدخول والحضور الافتراضي إلى المنطقة الخلفية، كأن يشارك الفرد الآخرين بالحديث أو الصور أو مقاطع الفيديو عن حياته الخاصة، أو بتحويل المنطقة الأمامية إلى نوع من المنطقة الخلفية عند استخدام تلك الأدوات والتطبيقات في أثناء حضور الفرد وجهًا لوجه مع الآخرين.

موضوع تقديم الذات على شبكات التواصل الاجتماعي عميق ومتشعب، ولكني أشير فيما يتعلق بأداء الأدوار والحدود بين المناطق لدرجة أن أصبح الفرد متاحًا في كل زمان ومكان، ولذلك يمكن قطع الأداء أو التفاعل خلال اللقاءات الاجتماعية وتوقفه فجأة مع أي اتصال مفاجئ أو صوت إشعار لأحد التطبيقات، ومن ثَمَّ يحدث ما يسميه “غوفمان” تعطيل الأداء Role Disruption، فيقع اضطراب في تدفق أداء دور اجتماعي ما، ولم تعد هناك فواصل بين الكاتب والقارئ، وبين النخبوي والشعبي، إذ يرسمان بتفاعلهما الرقمي خطًا ثقافيًا يشارك فيه الجميع دفعة واحدة دون قيد أو شرط.

في العصر الرقمي نجد أن العلاقة بين مناطق التفاعل والأطوار الزمنية المتعلقة بها، تشهد تغيرًا كبيرًا، فالتواصل الفوري وتعدد روافده وأسبابه يكسر المنطق الزمني الذي كان يحكم المساحات المكانية من قبل. فيمكن للفرد في أي وقت من الليل أو النهار أن يؤدي أدوارًا مختلفة وهو يسترخي في سريره، كأن يكتب مقالاً، أو حتى يتسوق إلكترونيًا، ويتواصل مع أقاربه. وهذا يذكرني فيما عبر عنه أحد الزملاء الباحثين حين ألقى التحية في بداية اجتماع، إذ قال مازحًا: “أهلاً من مكتبي في المطبخ”.

وفقًا لـ”بارت”، فإن هوية المؤلف هي الأهم بالنسبة للناقد الأدبي: العمل يتركز بشكل مطلق على المؤلف وشخصه وحياته وأذواقه وعواطفه” (بارت، 1977، ص 143). حسب “بارت”، فإن مسؤولية المعنى و”حقيقة” العمل، فضلاً عن نجاحه أو فشله، تقع على عاتق المؤلف. ويتمثل عمل النقد الأدبي في تنوير القراء فيما يتعلق بدوافع المؤلف من خلال استدعاء سيرتهم الذاتية الشخصية، حيث تُنسب عبقرية “فان جوخ” إلى جنونه، وعبقرية “تشايكوفسكي” إلى إدمانه على الكحول، وعبقرية “بودلير” إلى “فشله” كرجل.

كما يمكن اعتبار Twitter شكلاً من أشكال السيرة الذاتية العلائقية إذ يقوم المستخدمون بتحديث سيرهم الذاتية عن طريق إضافة معلومات عنهم (تاريخ الميلاد والتعليم وما إلى ذلك)، بالإضافة إلى البيانات المعتمدة على الوقت حول مشاعرهم والتزاماتهم الاجتماعية وما إلى ذلك. ويقوم المستخدم ببناء “جدول زمني” يرقى إلى يوميات عشوائية إلى حد ما عن حياته ومشاعره وعلاقاته الاجتماعية بالحدود التي يسمح بها هذا السياق مما يمكن متابعيه “قرائه” من قراءة ما يكتب، وبالتالي فهو يرقى إلى مستوى نص، يتم من خلاله بناء تفسير لهوية المؤلف كموضوع في عقل القارئ.

ومع ذلك، يبدو أن الاغتراب سمة لمستخدمي Facebook. فقد لوحظ أن نسبة كبيرة من المستخدمين (أكثر من 70٪) يمارسون إدارة على الذات Self-management أثناء استخدامهم لحساباتهم. أي أنهم يتلاعبون بكل من البيانات التي ينشرونها على Twitter وردود أفعالهم على أنشطة المستخدمين الآخرين، في محاولة لإنشاء سيرة ذاتية مثالية Idealistic أو لترقية الذات Self-promotion. كذلك قد يحاولون نشر تحديثات إيجابية فقط لكي يظهروا متفائلين، أو قد “يعجبون” بمنشورات مستخدم آخر لكي يظهروا أنهم ودودون ولطفاء. من منظور علماء النفس فإنهم يتلاعبون بلغة “تويتر” في محاولة للتعبير عن أنفسهم والظهور بصورة مثالية. لذا، قد يعتبر البعض كاتب المقال على “فيسبوك” ليس ميتًا فقط، ولكن يبدو أن سبب الوفاة هو الانتحار.

فكما يتنبأ “بارت”، فإن مثل هذه الممارسة غير مجدية، إذ إن طرق عرض الذات تلك يمكن ألا تؤدي إلى سوء الفهم فقط، وإنما إلى “حروب فضائية” من بينها تبادل التعليقات الساخنة بين المستخدمين، أو في الحالات القصوى “الحظر”.

في الختام، فإن منظور بارت “موت المؤلف” (1977) في أنه لا يمكن استنتاج هوية الكاتب من نصه لا ينطبق على ما يقدمه المؤلف أو الكاتب في منصات التواصل الاجتماعي، رغم أن بنية Facebook والرقابة الذاتية للمشاركين فيه تؤدي إلى عزل المؤلف عن نصه بشكل أكبر من ذلك. فقد بينت أن هذا الاغتراب ينطبق على كل من كاتب النص وقارئه. ونظرًا لأن مؤلفي Facebookهم قراء في نفس الوقت، فإن هذا يؤدي إلى اغتراب مزدوج لم يكن “بارت” يتوقعه عندما كتب مقالته. ومع هذا تبقى منصات وسائل الإعلام الاجتماعية واحدة من المنصات الرئيسة للتأثير على الكتاب الشباب في ممارسة الكتابة؛ إذ تشكل الأمل المتاح لهم، فكيف إذًا تكون منصة الأمل هذه سبب موت اللغة وغياب النص؟!

 

أستاذ مساعد علم النفس الاجتماعي – جامعة الملك سعود

@HeylaAlselim

 

المصدر: المجلة العربية

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر