سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
في نفس اللحظة التي كان يسمع كابتن طائرة شركة ساوث وست أيرلاينز دوي انفجار المحرك الأيسر وهو يطير في الجو، كان العالم بأسره يشاهد الحادث حيًا على الهواء عبر بث “فيسبوك لايف”. الطائرة التي كانت قادمة من نيويورك إلى فيلادلفيا الأميركية هبطت على المنصات الاجتماعية قبل أن تصل إلى الأرض ونزل الخبر أشد من الانفجار في وسائل الإعلام وأسرع من نزول الركاب. بيد أن الأكثر دهشة أن تسبق عواجل وكالة “رويترز” خراطيم شاحنات الإطفاء التي مُدّت للتو لإنقاذ ما يمكن إنقاذه لهذه الطائرة المعطوبة بدنيًا والمنكوبة اتصاليًا.
جاء ذلك بعد أن وثَّق أحد ركاب الطائرة الحادثة فور تدلي علب الأوكسجين من سقف الطائرة التي كانت تبث خدمة (Wi-Fi) وتابعته وسائل الإعلام وأخذت تنقل عنه بوصفه أحد شهود العيان. وعلى الرغم من هول القصة اتصاليًا والفنتازيا المخرجة بطريقة عفوية، والتي بدت من الوهلة الأولى أنها أعمال هوليودية، فإن الخسائر على الأرض أقل من مستوى الحدث في الإعلام.
هذه الحالة الاتصالية المثيرة للجدل لفتت الانتباه إلى مخاطر محدقة على مقدمي الخدمات بوجه عام، ومقدمي خدمات الطيران على وجه الخصوص، وألقت بالضوء على ظواهر اتصالية مقلقة، تحديدًا في الأماكن الأكثر ازدحامًا التي تشهد حوادث عادية فردية وفجأة تتحول إلى قضية رأي عام مثل صالات المطارات. ومصدر الخطورة أنها سلاح فتَّاك أصبح بأيدي الجماهير بعدما تملكته وسائل الإعلام وتحول إلى البث المباشر العشوائي غير المنظم، فانعدمت المنهجية المنفعية التي تقدمها وسائل الإعلام، وصارت آراء الجماهير هي المسيطرة والتي تدير المشهد بدلاً من وسائل الإعلام.
وبحسب مراقبين، فإن هذا الحادث الأول من نوعه من حيث السرعة والآنية وتوثيق الحدث مباشرة، وتسابق وكالات الأنباء على نشره بالصوت والصورة، وهو ما شكل انعطافًا جديدًا لكيفية معالجة الأزمة والتعامل معها في ظل هذا التسابق الذي لا يمكن سبقه أو وقفه! الحدث قلب المعادلة الاتصالية، فالمعتاد أن يكون التواصل والاتصال أحد حلول الأزمة، وسببًا لانفراجها. لكن ما يحدث هنا العكس، فقد تسبب الاتصال بالشبكات الاجتماعية بحدوث أزمة هائلة انتهت إلى خسارة فادحة في السمعة وفقدان الثقة، علاوة على خسارة ملايين الدولارات جرّاء الأضرار التي لحقت بمحرك وبدن الطائرة. من ناحية أخرى، لم ولن يكون هذا الحادث الأخير على كل حال. فبعد هذه الحادثة بوقت قصير وثَّق مسافر روسي حادث طائرة في جنوب إفريقيا باستخدام منصة “يوتيوب”، ولا ندري ماذا تخفي الأيام المقبلة.. وعلينا الاعتراف بأننا وصلنا إلى مستوى أزموي خطر على صناعة الطيران بالكامل.
وحتى نكون أكثر انصافًا، فالمجال المفتوح ليس مقتصرًا على صالات المطارات فحسب، فالحال مشابه في الأسواق والمطاعم والتجمعات وغيرها، ولكن في حالة الطيران الوضع مختلف، فهناك أرواح تنتظر أن تطير في الجو، وأرواح فعلاً تطير بين السماء والأرض، ومن المهم صنع بيئة آمنة ومطمئنة. ومكمن الخطر من زاويتين: الزاوية الأولى على مقدمي الخدمات العامة، وتشمل المطارات والطائرات بوصفهم عرضة لمخاطر التوثيق اللحظي. والزاوية الثانية على وسائل الإعلام التي سُحب منها قوة كانت محتكرة.
وفي هذه القراءة سنحاول تحليل المشهد المتجدد، وإلقاء الضوء على أبرز التحديات التي تواجه القائمين على الاتصال في قطاع الطيران، وتشخيص الوضع الراهن وما يمكن عمله تجاه ذلك. ويمكن القول إن أول تحدٍّ يواجه أجهزة الاتصال في قطاع الطيران هو الذكاء الاصطناعي المتطور بشكل لحظي، ومن أبرز أوجهه:
المسافر الرقمي: كمية الأوراق التي كان يحملها المسافر سابقًا تغني عن تفاصيل حجم التغير الحاصل في طبيعة السفر الحالية وسهولة الوصول حتى مقعد الطائرة بأريحية وسرعة. هذه التغيرات مهمة في عالم السفر وتحفز القطاع للمزيد من التطور وزيادة الرغبة في التنقل الجوي. وبات على سلطات الطيران إدراك أن المسافرين اليوم هم بمثابة روبوتات رقمية تسير على الأرض. صحيح أنها تسعى كما يسعى البشر، لكن تُحكم وفق أكواد وخوارزميات مبرمجة سلفًا. وليس من المستغرب أن تحلل وتقرأ وتسمع بواسطة قناعات مستخدمين آخرين، فقد تختار أحد متاجر بيع القهوة في المطار بناء على توصيات منصات رقمية عامة مثل “قوقل”، أو خاصة مثل تطبيقات التقييم المعدة لهذا الغرض وهي بالعشرات. كذلك سيعرف المسافر أن رحلته ستتأخر لأنه يتتبع مسار الرحلة عبر تقنية متتبع خرائط الملاحة الجوية، فضلاً عن تصوير كل شيء داخل المطار والطائرة، وعلى القائمين بالاتصال وضع ذلك في الاعتبار. فالتجمعات المكتظة مكان مغرٍ للتوثيق، ولكن أرض خصبة للأزمات.
في الواقع، فإن جائحة “كوفيد – 19” دفعت أكثر باتجاه المسافر الرقمي واستخدام البديل الإلكتروني. وتشير التقارير إلى تغير مفهوم السفر في المستقبل. ويكشف تقرير 2025 الصادر عن شركة سيتا بعنوان: “السفر الجوي في العصر الرقمي”، أن المسافرين الرقميين سيُشكِّلون 68% من إجمالي المسافرين 2025م، وسيكون بمقدورهم إدارة شؤون رحلاتهم باستخدام هواتفهم النقالة. هذه النقلة الديموغرافية هامة وتتطلب مستويات متقدمة من الأتمتة والتحول الرقمي، وصولاً إلى القدرة على التحكم بكل خطوة كتتبع الأمتعة ومواقعها، فضلاً عن تطلعاتهم إلى أن تكون جميع المراحل في رحلتهم مشمولة في تجربة موحدة عبر كافة المطارات وشركات الطيران ونقاط مراقبة الحدود وغيرها من وسائط النقل، منذ لحظة مغادرتهم لمنازلهم وصولاً إلى وجهتهم المنشودة.
هذا الوضع يرفع من نسبة المخاطرة لأن فرضية الأخطاء موجودة ونسبة تصويرها عالية، فضلاً عن نشرها، ثم تداولها وتحولها لقضية رأي عام، وهو ما لا يتمناه أي شخص مسؤول عن الاتصال في قطاع خطر وهش مثل قطاع الطيران. وبعيدًا عن الجوانب الأمنية في التصوير داخل المطارات باعتبارها نقاط أمنية، الملاحظ تزايد التوثيق اللحظي داخل المطارات والطائرات، وهذا عائد لعدة أسباب من بينها دواعي نفسية، فالجماهير تُسمي المطار طريق السعادة وهي فرصة لالتقاط الصور للذكرى، فضلاً عن السياسات المتبعة لدى بعض سلطات الطيران في جعل المطار جزءًا من النسيج الاجتماعي والاقتصادي المدني والتشريعات التي تحاول جعل تجربة السفر سهلة ومريحة ليشعر المسافر بالسعادة منذ بداية تفكيره بالسفر حتى وصوله للوجهة المقصودة.
تطبيقات التعقُّب الملاحي
يستطيع ملايين البشر تعقُّب الرحلات الجوية، وتقوم عشرات المواقع والتطبيقات بتقديم هذه الخدمة، وهي مصادر مفتوحة بدون مقابل للخدمات الأساسية. مثلاً هناك تطبيق “Flightradar24” يقوم بتجميع البيانات من مصادر متعددة، ويعرض مسارات الرحلات والوجهات وتفاصيل الرحلة ونوع الطائرات والسرعات…إلخ. ومكمن الخطورة هنا، أنه إذا أصدرت الطائرة نداء ملاحيًا “رمز استغاثة”، فإن هذا يعني إعلان حالة طوارئ، ويمكن لمواقع تعقب الرحلات عرض سجل كامل للرحلة مع الرسوم المتحركة والبيانية وتاريخ طراز الطائرة والحوادث التي تشمل شركة الطيران أو نوع الطائرة أو نوع المحرك.. هذه المعلومات التي كانت محصورة من قبل إدارات عمليات الطيران والمحققين، ستكون متاحة لأي شخص لديه اتصال بالإنترنت، وبالتالي ستكون المعلومة متوفرة لدى الجماهير مهما كانت. وهناك استثناءات، فالتقنية لا تزال قاصرة عن تحقق جميع الرحلات أو جميع الطائرات، وإلا لاستطاعت التقنية حل لغز الطائرة الماليزية التي مازالت عالقة.
البث المباشر
إن الذكاء الاصطناعي في تطور مستمر، والتفوق الاتصالي في تنامٍ يتزامن مع وجود هواتف ذكية أكثر من سكان العالم. ووفقًا لتقرير أصدره اتحاد الاتصالات(ITU)، فإن “5G” سوف تغير قواعد اللعبة، وأتاحت حجم البيانات المنقولة وتوفر هواتف ذات أنظمة سريعة ضخ المزيد من البيانات عالية الدقة في ظرف ثوانٍ معدودة، بيد أن التحدي ليس في توفير هذه الطفرة سواء الجيل الخامس، أو السادس، أو ما يبدو أنه سيكون الجيل السابع من أجيال التقنية؛ التحدي الحقيقي هو دخول الخدمة لوسط أسواق نامية جديدة، وسيكون الأثر الحقيقي للتطور التكنولوجي المستمر هو القدرة على تحمل التكاليف وتوافرها على شبكات البيانات بحيث يكون كل شخص على هذا الكوكب قادرًا على الوصول إلى الإنترنت بسرعة فائقة على أوسع النطاقات.
إن تدفق هذه البيانات تعتبر خدمة رائعة ومبهجة للجماهير، إلا أنها تسبب صداعًا لمسؤولي الاتصال في قطاع الطيران، إذ شهدت ساحة المطارات والطائرات منذ 2012 حوادث وُثِّقت عبر البث المباشر، أحدها كاد أن يقضي على تاريخ شركة طيران بالكامل، كما حصل مع ما يُعرف إعلاميًا بقضية “الراكب المسحول”، وقصة تعويض الراكب من إحدى شركات الطيران.
البث المباشر هو وضع اتصالي شديد المتعة والجاذبية وشديد الخطورة في آن واحد، بوصفه معلومات متدفقة بلا رقابة من منصات مفتوحة إلى فضاء مفتوح من دون أدنى اعتبار للمكاسب والخسائر. أمَّا مصدر المتعة، فرغبة الإنسان أن يتم وضعه في حدث هنا والآن. وهذا ما يميز النقل المباشر للأحداث عبر التلفاز؛ ولهذا السبب نجد تفوق المنصات التي تقدم هذه الخدمة مثل “تيك توك” و”سناب”، وتسابق المنصات القديمة لوضع هذه الميزة مثل خدمة “بيرسكوب” في تطبيق “تويتر”. إن ما يثير شهية المتلقين في تتبع النقل الحي المباشر وجود المؤثرات الطبيعية، فالمصور في حادثة طائرة شركة ساوث وست أيرلاينز المذكور في بداية التقرير، أخذ ينقل الأحداث وسط مشاعر جياشة وبنفس متقطع ومرعوب وكان ينازع الأوكسجين انتزاعًا من داخل القناع المتدلي فوق رأسه، وكتب على صفحته في “فيسبوك” وهو ما زال في الجو: “هناك خطب ما بطائرتنا.. يبدو أننا نهوي”.
في الواقع أن المسافر ذاته لم يصدق أنه ما زال على قيد الحياة، وكان مذهولاً، وتوثيقه بمثابة التوديع والاستسلام للمصير المحتوم، وكتب “أعتقد أنني أعيش آخر لحظات حياتي”، ولكنه عاش ليشاهد نفسه متصدرًا وسائل الإعلام العالمية في مشهد يعكس فرضية أن تكون منصات البث الناعم أحد طواحن السمعة لشركات الطيران وأن تكون مصدرًا رئيسيًا للأزمة.
البث المباشر مصدر مغرٍ للمتابعة لوجود محفزات الإثارة وجذب الانتباه. ومن المتعارف عليه قوة جذب البث المباشر للأحداث بمقابل الأحداث المسجلة أو التي أصبحت من الماضي. وهذا ظاهر في المباريات والزيارات الرسمية والمؤتمرات وغيرها، ويتعاظم الاهتمام عندما ينقل مشاهد مثيرة للقلق والخوف ومشاهدات الألم، وهو ما حدث فعلاً في التغطية المباشرة لطائرة “ساوث ويست”. ويمكن تتبع الرابط أسفل المقالة لمعايشة حالة الإثارة عند تصوير المحرك وهو محترق في السماء، وتوثيق الطائرة وهي تهوي إلى مكان سحيق.
شقلبة نظريات الاتصال
يعرِّف العلماء بأن الاتصال يتم بين مرسل ومستقبل ورسالة، ما يعني وجود ثلاثة أطراف معنية بتحقيق هذا المبدأ الاتصالي بتراتبية، ولكن الحالة هنا قلبت الوضع ظهرًا على عقب، فاندمج المرسل مع المستقبل في الرسالة فصارت شيئًا واحدًا، وتشقلبت الحالة الاتصالية، أي لا يوجد مرسل حقيقي؛ فالبث تشاركي مع عدة أشخاص كحالة الخرائط في تطبيق “سناب شات” التي تكشف حدثًا آنيًا مرسلاً من عدة زوايا ورؤى مختلفة، والمرسل هو ذاته المستقبل. واللافت أن تكون وسائل الإعلام جزءًا من الجمهور لا صانعًا له، كما كانت تفعل سابقًا. وعلى العكس من ذلك، ذهبت وسائل الإعلام تعيد صياغة الرسالة مجددًا؛ إذ إن الوسيلة ملك للجمهور بغض النظر عن الملكية الحقيقة، إنما المقصود من حسابات الجمهور في منصات التواصل الاجتماعية. إذن، فإن الجمهور فتح لنفسه جسورًا اتصالية أمام الجمهور، وغابت وسائل الإعلام، وصار المرسل هو ذات المستقبل يؤدي دور الإعلام. وهنا يُطرح سؤال مشروع: هل تستطيع الإدارة الإعلامية التدخل؟
إن الإجابة عنه تحتاج إلى تفصيل وإلى المزيد من الدراسات، ولكن وباختصار يمكن المشاركة في الجسور التي صنعتها الجماهير باستخدام حيل يمكن من خلالها النفاذ بهدوء. وهنا يجب الإشارة إلى أن النفاذ عبر عقول الجماهير لا عواطفهم؛ فمن المهم القيام بدور شفاف وصادق ونزيه، وتجنب التضليل من أجل المشاركة في التغطية المباشرة، ولكن برؤية وسياسة المنظمة التابعة لها، والطلب من الصحفيين الذين تربطهم علاقة جيدة بالتواصل وطمأنة الجمهور وتطبيب الجراح العينية والنفسية، وتقليص حالة الغموض والارتباك، وفك الارتباط بمصدر المعلومة التي سببت القلق.
من الغريب في هذا الاتجاه تسجيل حوادث متعلقة بالطيران في بعض الدول تزامن مع إغلاق مؤقت لشبكات التواصل، ولا نتوقع أن ذلك حصل بمحض الصدفة، إذ لو كانت منصة واحدة فقد يحدث لعلمنا بالتقنية ومفاجآتها، ولكن أن تتزامن معظم المنصات في الإغلاق، فهذا أمر يدعو للريبة، كما حصل بعد العمل الإرهابي في 2019 في سريلانكا، أو بصورة دائمة مثل الصين.
شرعية الطيران
وُصِفت حادثة الطائرة الماليزية أنها من الحوادث الأكثر شناعة والتي لا تنسى، مما تطلب تدخلاً حكوميًا على نحو واسع. إن الأزمات من هذا النوع تؤدي إلى القلق بشأن شرعية هذه المؤسسة في استخدام الأجواء، والنقاش الأزموي على هذا المستوى آخذ في الاتساع إذا لم يتم استيعاب المشكلة في الوقت المناسب، تفاديًا لعدة سيناريوهات محتملة منها إلحاق الرعب بقلوب البشر، وإحجام الناس عن الطيران، وزرع فوبيا السفر الجوي لدى النشء. إن الكوارث التي تخلف وفيات جماعية تحتاج إلى ما هو أكثر من اتصال داخل القطاع، بل رفع مستوى الاتصال إلى درجة كبار المسؤولين في الحكومة من أجل زيادة التوضيح، ولعب دور أكثر بروزًا في الاستجابة السريعة والتعامل مع الأحداث، واعتبار تغيير العلامة التجارية أحد الأنشطة الاتصالية للدلالة على احترام المأساة، وهذا يشمل حسابات التواصل الاجتماعية والموقع الإلكتروني. من المهم أن يكون التحديث آنيًا ولحظيًا يشمل روابط للبيانات والمعلومات.
ضبط التصريحات
من أوجب الموجبات ضبط عملية التصريحات في السلطة المعنية في الطيران؛ ولأن الطيران عشق وشغف لدى الجماهير، فبعضهم مؤثر وصاحب جماهيرية، وقد يوازي وسيلة إعلامية. لذا، بات من الضروري أن يتم حوكمة هذه التأثيرات وضبطها حتى لا تكون وسيلة ضغط والحيلولة دون أن يشاركوا في سكب البنزين على النار، فضلاً عن أهمية وعي الموظفين المعنيين الذي يعدُّ جزءًا هامًا من المنظومة، وبالتالي حديثه سيكون مأخوذًا على مستوى عالٍ من الجدية، وظهور الموظفين أوقات الأزمات يعني أنهم “متحدثون رسميون”، ومن المهم توخي الحذر عند الطرح.
لو كوست
ظهر هذا الشكل التجاري عند توسع الطيران في الدول الفقيرة، وعند زيادة وجهات الرحلات القصيرة في الدول الواسعة جغرافيًا. والشركات الصغيرة إحدى الأذرع الهامة لتنشيط اقتصاديات الصناعة، في الوقت الذي تعلن فيه منظمة الطيران المدني الدولي (إيكاو) توقعاتها بارتفاع حركة المسافرين الجوية من ثلاثة مليارات راكب إلى الضعف بحلول عام 2030م. ومن حيث الشكل هذا أمر جيد، لكن من النواحي الاتصالية يحتاج إلى استعداد بالغ الكثافة والتركيز، فالحوادث لا تُرى إلا بعين واحدة؛ لذا هي لا تفرق بين دولة وأخرى، أو بين طائرة عريضة البدن، وأخرى صغيرة الحجم، فالطائرات التي تقل بشرًا في مستوى واحد من الأهمية. وهنا تنشأ مشكلة عندما يدخل مضمار السوق شركات طيران صغيرة “اقتصادية” وتركز على رفع عدد الرحلات والمسافرين دون الاهتمام بإدارة الاتصال. وبغض النظر عن المبررات الإنفاقية، فإنه من المعروف أن ميزانيات الاتصال هي أول البنود التي تصرف في شؤون أخرى عند الأزمات، والواجب العكس، فالحوادث البسيطة والمسجلة لدى الشركات الصغيرة تحولت إلى كوارث بفضل الإدارة السيئة للأزمة الإعلامية. وهنا تزداد أهمية سلطات وإدارات الطيران في الدول لوضع استراتيجية الأزمات الإعلامية تكون خاصة بهذا القطاع وبالمعنيين به، وتكون نافذة وقابلة للتطبيق ومعتمدة من أعلى سلطة، فالطيران يؤثر في سمعة الدول قبل الشركات.
بعض الشركات الناشئة أو المتوسطة تفتقد وجود منظومة قابضة تجعلها تسير وفق هوية اتصالية واحدة. ووجود مجموعة من الكيانات العاملة في المطارات خلق المزيد من التعقيد، فلا يوجد بروتوكولات لأي طرف تنص على من سيقود الاتصال وقت الأزمة. كما أن التحكم في مواقع شركات الطيران بشكل عام يكون بوسيط تجاري، وغالبًا لا يخضع لبروتوكولات الاتصال الخاصة بالمشرع.
التهديد السيبراني
شكلت حادثة مطار أوديسا الدولي في أوكرانيا منعطفًا خطيرًا في حوادث الطيران السيبرانية الناشئة عن التقنية، وتحولت الأنظار إلى أثر الهجمات السيبرانية على قطاع الطيران المدني وقدرته الفائقة على شل الحركة الجوية في ثوانٍ معدودة. صحيح أن المطار استمر بالعمل دون توقف بفضل الأنظمة البديلة والنظام الأمني المعزز بعد أن أعلن المطار على صفحته في “فيسبوك” تعرضه إلى هجوم استهدف أنظمة المعلوماتية، لكن ذلك سيجعل مجال الملاحة الجوية عرضة لدرجة أكبر من المخاطر، كالإرهاب الذي يستهدف الأنظمة الجوية والطائرات.
مع الأجيال الرقمية الجديدة بات يتعين على الجهات والمؤسسات والأفراد مواكبة التحديات السيبرانية، فلم يعد يقتصر الأمر على منصات البث المباشر، التي وإن تحولت جبهة أزموية محتملة في ضوء الفضاء المفتوح ولهفة الجماهير للتدفقات المباشرة والآنية، إلا أن التحدي الأكبر الذي تواجهه الصناعة هو الأجيال المتطورة من الاعتداءات السيبرانية الآخذة في التوسع، والتي تستهدف أنظمة عمل الطائرات والملاحة الجوية. والتقارير الصادرة عن المنظمات المختصة تشير إلى وجود نقص في التواصل بين المنظمات الخاصة والعامة فيما يتعلق بالمخاطر المرتبطة وبالذات الأمن السيبراني، إضافة إلى غياب التنسيق بين شركات الطيران ووسائل الإعلام في حالة وقوع حوادث للطائرات، أو هجمات سيبرانية. ووجود حاجة لزيادة تنظيم قواعد العمل والضوابط المتعلقة بالأمن السيبراني للملاحة الجوية، يأتي ذلك وسط توسع سيطرة التقنيات التكنولوجية على قطاع الطيران؛ من أجل تطوير أنظمة عمل الطائرات، وخلق أنظمة صيانة لاسلكية لها، فضلاً عن ربط أنظمة المعلومات الخاصة بها بالأقمار الصناعية والإنترنت، وجعلها أكثر رفاهية وراحة للركاب.
التطور الهائل الذي لحق بتطبيقات الاتصال كان أسرع من قدرة مقدمي الخدمات على التعاطي معه اتصاليًا في الأزمة، وخصوصًا مقدمي خدمات النقل الجوي. ومع أن قطاع الطيران أحد أكثر المستفيدين من التقنيات الحديثة، فإنها أيضًا خلقت أزمة في آن واحد، وفي تناقض سريع على المشهد الذي يحتاج إلى تكييف وتواؤم حتى تعمل الاستراتيجيات التقنية والاتصالية على طريق واحد يمكن من خلاله تحقيق الحد الأعلى من الفائدة والمحافظة على الحد الأدنى من السمعة عند الكوارث لا قدَّر الله.
إن مسألة أمن الطيران أصبح من المسائل الاستراتيجية، خصوصًا في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، وأصبحت إمكانية “الإرهاب” النظرية الافتراضية لأي حادث طيران غير مفسر تقريبًا، ولا سيما في التغطية الإعلامية الأولية ومحادثات وسائل التواصل الاجتماعي. هذا يخلق ضغطًا إضافيًا على القائمين بالعملية الاتصالية داخل القطاع.
“كورونا” زادت الطين بلة
وكأن الطيران في حاجة إلى المزيد من المشاكل لتأتي جائحة كورونا لتضغط على القطاع لمدة قد تستمر كما توقعها محللون حتى 2024م ووفقًا لهذه التحديات فقط شكل 2020م عامًا للتناقض بأقصى تجلياته، فأوله بشارة وأوسطه نذارة وآخره خسارة. ولتقييم المشهد اتصاليًا في هذا المحور علينا فهم ثلاثة أبعاد رئيسية نشأت مع الجائحة وهي: (ارتباك المُشرعين – قلق المستثمرين – خوف العملاء)، فالمشرعون باتوا مرهونين بقرارات منظمة الصحة العالمية التي صارت فجأة تقرر مصير الطيران، وهذا الوضع في غاية القلق بالنسبة للمستثمرين الذين وقعوا هم الآخرون بين المخاطرة أو الإقدام، وبين هؤلاء وهؤلاء يرزح العميل بين خوف وتطمين.. إن فهم هذه التحديات يُمكن القائمين على الاتصال من تقديم مقترحات وحلول وتصورات تساعد في تحويل الاتصال إلى أداة فاعلة وقادرة على المساعدة وليس لتعقيد المشكلة أو خلق أزمة.
هذا الواقع أربك الجميع بمن فيهم المشرعون في سلطات الطيران المدني، ومن المؤسف أن تنهار توقعات الاتحاد الدولي للنقل الجوي (IATA) في غضون بضعة أشهر من إعلانه في نهاية ٢٠١٩م بارتفاع أرباح شركات الطيران بالعالم لنحو ٢٥ مليار دولار، ذاب ذلك كله مع جائحة كورونا فتحولت الأرباح إلى خسائر، وبدلاً من تحليق الطائرات باتت قابعة في مخابئها، وأعلنت “الأياتا” عقب ذلك عن تراجع الحركة الجوية بنحو 70% بخسائر بلغت 39 مليار دولار في الربع الثاني من العام الحالي. ووفق تقديرات “أياتا”، فإنه قد يتبخر 61 مليار دولار من الاحتياطيات النقدية وفقدان آلاف من الوظائف. إن توقف طائرة واحدة يعني أن هناك مشكلة، فالطائرات صنعت لتحلق، لكن ثمة 40% من طائرات العالم تربض في مخابئها على الأرض.. وتغص بها المطارات، بل تلحق المخاطر ببدن الطائرة التي ستكون بين كماشتين أحدهما التوقف ثم التعرّض لخسائر فادحة، والثاني المجازفة والاستمرار ثم احتمال صنع بيئات جديدة لهذا الفيروس. وهذا الهاجس الذي جعل سلطات الطيران في الدول تفرض المزيد من الإجراءات الاحترازية أكثر تعقيدًا داخل المطارات.
إن علاج الآثار الذهنية للسفر بعد كورونا لا يشمل فكرة السفر فحسب، بل تحويل الوضع إلى ما يشبه التجربة الجديدة والثقافة الجديدة تبدأ من الطريق نحو المطار الذي يقع وسط مدينة اسمها مدينة المطار يتربع على مساحتها الأسواق والأسواق الحرة والمنصات اللوجستية والفنادق ومدن الألعاب والحدائق والمنتزهات التي تعكس ثقافة السفر والسياحة، فالسفر ثقافة لم تعد تسعها مساحة الحجز وحزم الحقائب وإصدار بطاقة صعود الطائرة فقط، فالعالم يتجه إلى خلق مدينة تصنع بيئة السفر ثقافيًا وفكريًا واقتصاديًا قبل ركوب الطائرة، وهذا الوضع يسهم في صنع نماذج تعيد استهلاك منتجات السفر، وبالتالي المشاركة في دعم الدائرة الاقتصادية.
الساعة الذهبية
في هذا التحدي سنكون في قلب العاصفة، أي أن الأزمة وقعت. لذا، فإن الفترة التالية لحادث الطائرة هي فترة مهمة وحاسمة وخطيرة في الجانب الاتصالي، خصوصًا حينما تحل كارثة بشرية ويموت المئات. ومن المتوجب أن يكون ثمة خطط اتصالية تتعلق بأسر الضحايا وتشكيل فريق معد لإدارة هذه الأزمة، وفي هذه تبلغ الساعة الذهبية منتهاها في المتابعات الاتصالية لفريق إدارة الأزمة الذي يكون عادة مشغولاً بالتزود بالمعلومات التفصيلية، وتأكيد المعلومات الواردة، وتحديد الأولويات، ووضع الخطط والتصورات للمعالجة الإعلامية، وخطوات العمل لإصدار الموجز. والسؤال: هل هذا الإجراء المتبع والأسلوب المطبق صحيح؟
في الواقع هذا لم يعد مجديًا. في عصر الشبكات الاجتماعية لا يجب العمل به إطلاقًا؛ لأن مشهد الاتصالات في تطور مذهل. ففي الوقت الذي يبحث فيه فريق الأزمة عن المعلومات، فمن المتوقع أن وسائل الإعلام قامت بهذا الدور بدلاً منها من مصادر كانت على متن الطائرة. إذن، فالساعة الذهبية الحقيقية هي الساعة التي تسبقها لأنه عندها ستكون أنت والجماهير ووسائل الإعلام على مستوى واحد وقد تشاركتما جميع الصور والفيديوهات التي أطلقها شهود عيان على مواقع التواصل الاجتماعي، وبعد ذلك يمكن تطبيق الخطط المرسومة. ومن المهم وجود إطار مرجعي لكل السيناريوهات المحتملة لوضع الاستجابات الأولية وصولاً إلى التداعيات المقبلة التي تسير وفق إطار مرجعي لتوجيه الاستجابات الأولية واللاحقة. ويمكن الاعتماد على العناصر التالية لوضع خطوط عريضة لإدارة الأزمة في قطاع الطيران المدني، ومنها تشكيل فريق الأزمة ويكون من بين الأسماء صاحب الصلاحية والناطق الرسمي، وهذا الفريق يعتمد اعتمادًا مباشرًا على خطة محوكمة ومكتوبة ومعتمدة من صاحب الصلاحية الأول في المنظمة.
من المهم أن يتم أنسنة الخطة على نحو يحقق أهداف المنظمة ويوازي الرسالة المتوافقة مع الجماهير، مع وجود بروتوكول يضمن الأعمال التنسيقية لجميع قنوات الاتصال المتاحة بشكل صحيح، خصوصًا النصوص الأولية الصادرة في بداية الأزمة لأنها الوحيدة القادرة على صنع انطباع الجماهير.
كانت هذه قراءة قصيرة للمتغيرات التي حدثت في مجال الطيران بفضل التقنية الحديثة، ولعلها تكون مدخلاً للمختصين للبحث والمزيد من التنقيب للحيلولة دون أن تكون التقنية معولاً لكسر ظهر الصناعة، بل تحويلها إلى أدوات تساعد على المزيد من تقديم الخدمة للبشرية، وأن تعكس بالفعل قاعدة أن النقل الجوي هو الوسيلة الأكثر أمانًا على وجه الأرض.
مستشار إعلامي*
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر