سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
نهى أبو عمرو
عندما نريد أن نتحدث عن بداية الثورات العربية، نعود بالذاكرة للشرارة الأولى التي انطلقت منها،في تونس بعد حادثة البوعزيزي؛ إذ ثار الشعب على واقع اشتد عليه وطؤه وضاق بهذرعًا، فكانت بمثابة القطرة التي أفاضت كأس العلقم الذي يتجرعه الشعب. لم يكن الشعب التونسي وحدَه من يذوق الأمرين، فاندلعت أحداث الثورة في 17 ديسمبر 2010 تضامنًا مع البوعزيزي الذي أضرم النار في جسده في نفس اليوم، تعبيرًا عن غضبه على بطالته ومصادرة العربة التي يبيع عليها من قبل الشرطية فادية حمدي،وهو ما أدى إلى اندلاع شرارة المظاهرات في اليوم التالي، وخروج آلاف التونسيين الرافضين لما اعتبروه أوضاع البطالة، وعدم وجود العدالة الاجتماعية، وتفاقم الفساد داخل النظام الحاكم. كما أدى ذلك إلى اندلاع مواجهات بين مئات من الشبان في منطقة سيدي بوزيد، وولاية القصرين، مع قوات الأمن لتنتقل الحركة الاحتجاجية من مركز الولاية إلى البلدات والمدن المجاورة، ونتج عن هذه المظاهرات التي شملت مدنًا عديدة في تونس، سقوط العديد من القتلى والجرحى من المتظاهرين نتيجة تصادمهم مع قوات الأمن، وأجبَرت الرئيس زين العابدين بن علي على إقالة عدد من الوزراء بينهم وزير الداخلية، وتقديم وعود لمعالجة المشاكل التي نادى بحلها المتظاهرون. كما أعلن عن عزمه على عدم الترشح لانتخابات الرئاسة عام 2014، وتمَّ بعد خطابه فتح المواقع المحجوبة في تونس كاليوتيوب بعد 5 سنوات من الحَجب، إضافة إلى تخفيض أسعار بعض المنتجات الغذائية تخفيضًا طفيفًا، لكن الاحتجاجات توسعت وازدادت شدتها حتى وصلت إلى المباني الحكومية،مما أجبر الرئيس بن علي، على التنحي عن السلطة، ومغادرة تونس بشكل مفاجئ بحماية أمنية ليبية إلى السعودية يوم الجمعة 14 يناير2011. وأعلن الوزير الأول محمد الغنوشي في نفس اليوم، عن توليه رئاسة الجمهورية بصفة مؤقتة، وذلك بسبب تعثر أداء الرئيس لمهامه، مع إعلان حالة الطوارئ وحظر التجول ليقرر المجلس الدستوري بعد يوم واحد، اللجوء للفصل 57 من الدستور، وإعلان شغور منصب الرئيس. وبناء على ذلك، أعلن في يوم السبت 15 يناير 2011، عن تولي رئيس مجلس النواب فؤاد المبزع، منصب رئيس الجمهورية مؤقتًا، إلى حين إجراء انتخابات رئاسية مبكرة خلال فترة من 45 إلى 60 يومًا.
بعد الانبهار والإعجاب والصدمة الأولى، أمام لحظة الثورة التاريخية المفصلية، انهالت التحليلات والتعليقات بأن ما حدث لم يكن إرادة شعبية، بل محض أحداث برمجها الغرب لرسم شرق أوسط بملامح جديدة تنسجم مع خططه المستقبلية، فأفرزت الثورة التونسية سياسة حكم جديدة، تزعَّمها حركة النهضة التونسية التابعة لحركة الإخوان المسلمين بشكل غير مباشر، إذ إنها لم تعلن ولم تنفِ ارتباطها بهم، ولكنها أعلنت القرب بينها وبين حزب “العدالة والتنمية”، الذي يترأسه رجب طيب أردوغان في تركيا. فواكبت حركة النهضة، الثورة التونسية، وجزء كبير من قيادييها، إما كانوا في الخارج في المنفى، أو في السجون، مع عدد قليل كان حرًا، ولكنه تحت المراقبة. والقياديون الذين كانوا في الخارج، مثل راشد الغنوشي، ولطفي زيتون، ورفيق عبدالسلام، وحسين الجزيري، وصالح كركر، وغيرهم، واصلوا دعم المتظاهرين كما فعلوا قبل الاحتجاجات، ونظَّموا عدة وقفات ومسيرات في إطار جمعياتي. ومن جهة أخرى، كان عدد كبير من قياديي الحركة في تونس في السجن، ولم يتسنَ لهم المشاركة في الثورة، سوى بعضهم في الأيام القليلة الأخيرة عندما تمتعوا بالعفو التشريعي العام.
بدأت الحركة بعد الثورة في لمِّ شملها وتنظيم مكوناتها، وتقدَّمت بطلب ترخيص حزب لوزارة الداخلية، وتحصلت عليه في 1 مارس 2011، فشاركت الحركة في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي بثلاثة أعضاء، وهم: نور الدين البحيري، والصحبي عتيق، وفريدة العبيدي، إضافة إلى سمير ديلو الذي عين بصفته رئيس الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين، ورياض بالطيب ممثلاً عن إحدى منظمات المهاجرين.وفي نفس الوقت، بدأت الحركة بتكوين مكاتبها الجهوية والمحلية، وبدأت بعقد اجتماعات في جميع أنحاء تونس في هذه الفترة قبل أول انتخابات تشريعية.وشاركت النهضة في العديد من الندوات السياسية والاجتماعات التي تعقد في تونس، سواء أكانت ذات طابع محلي، أم دولي.
بدأت الانتخابات التشريعية التونسية في 26 أكتوبر 2014، وفازت الحركة بالمرتبة الثانية بـ69 مقعدًا من جملة 217، بعد حزب “نداء تونس” الذي فاز 85 مقعدًا، وذلك بعيدًا خلف بقية الأحزاب،وتحصلت النهضة في الدوائر الـ33 على المرتبة الأولى أو الثانية، إلا في دائرة ألمانيا التي كان فيها مقعد واحد ذهب لنداء تونس، لتدخل النهضة بعد ذلك إلى مجلس نواب الشعب في الائتلاف الحاكم في حكومة الحبيب الصيد المستقل بوزير وثلاثة كتاب دولة.
لقد جاءت فترة حكم “النهضة” لتونس، بخيبة وصفها البعض بالكارثية، إذ فشلت فشلاً ذريعًا في تحقيق أهداف الثورة التونسية لتغيير الواقع، الذي يجمع المراقبون على أنه ازداد سوءًا، مثلما يؤكد ذلك القيادي السابق في الحزب الشيوعي، التونسي عادل الشاوش، فتونس عرفت نجاحات في الجانب السياسي، من خلال تنظيم انتخابات ديمقراطية، ووجود تداول سلمي على السلطة، وهو جوهر الممارسة الديمقراطية، لكنها فشلت فشلاً ذريعًا في الجانبين الاقتصادي والاجتماعي، وتحقيق آمال ورغبات الشعب التونسي بعد الثورة، ولم يكن للنهضة برامج وتصورات خاصة فيما يتعلق بوضع منال تنمية جديد؛ ما أدى إلى انزلاق تونس نحو أزمة اقتصادية كان لها انعكاس اجتماعي سلبي، تمثَّل في عودة الحراك الاحتجاجي، وحالة اليأس والإحباط، أو الانكسار لدى قطاع كبير من التونسيين، وهو ما دفع الكثير منهم إلى التشكيك في الثورة أصلاً، معتبرين أنها “مغامرة” قامت بها قوى خارجية، ولم تكن تعبر عن مطلب مجتمعي آنذاك .
أما عن سقوط النهضة، فكان متوقعًا بعد أن جرَّب التونسيون هؤلاء المتأسلمين، واكتشفوا أن ليس لديهم إلا الوعود. أما الإنجازات، فهم أبعد عنها من بُعدهم عن الصدق والأمانة والوفاء بالعهود، كما هو ديدنهم، ناهيك عن الاقتصاد الذي لعبوا به، منذ البداية، على عواطف الجماهير وإغرائهم باستحضار الماضي، فأجادوا الكذب والوعود حول تلك المحاور، وعندما تأتي ساعة العمل فليس ثمة إلا الفشل والإفلاس والتعثر والارتباك، فكان خير مثال على ذلك حكمهم في غزة بواسطة حركة “حماس”، وفي مصر، حيث تدهورت الأوضاع في كل مكان يصل إليه المتأسلمون مقابل تحقيق مصالحهم ومصالح أبنائهم غير آبهين بالمصلحة العامة للشعب.
وصلت تونس، خلال حكم الإخوان، إلى مرحلة كادت تلامس الإفلاس الاقتصادي، كما هو الحال في بقية الدول التي وصلوا إليها، إضافة إلى ظهور وازدهار الحركات التكفيرية والمتطرفة التي نشرت الإرهاب الذي أفرزه صعود الإخوان إلى الحكم،فلم تأتي لتصادر الأمن وتنشر الخوف والرعب بين التونسيين فحسب، وإنما لتنسف الاقتصاد والدخل التونسي عن طريق ضرب السياحة في تونس.فالسياح الغربيون، كانوا عماد هذا القطاع، لم يعودوا يفكرون في زيارة تونس والاستجمام في منتجعاتها السياحية، والتكفيريون يتربصون بهم. والقول بأن جماعة الإخوان، جماعة وسطية وما عداهم جماعة متطرفة، يدحضه الواقع التونسي عندما تسنّمت النهضة الحكم، فكان أغلب العرب المقاتلين مع (داعش) جاؤوا من تونس.. فمن الذي دفعهم إلى ذلك؟
أما تونس الآن، وبعد كل الأحداث والكوارث التي ألمت بها بعد حركة النهضة، فقد خلعت رداء الإخوان المزيف، وراهنت على الوطنيين منها وعلى المستقبل، لتأتي حركة “نداء تونس” بسياسة عصرية وأجندة سياسية تزاوج بين طرق الحلول والحداثة، ومواكبة ضرورات العصر بمعناها الواسع، مع إبقاء الهوية الإسلامية والعربية كهوية وطنية. هذه المعادلة، هي ما راهن عليه (الندائيون التونسيون)، ولم يبقَ عليهم إلا الانتقال من النظرية إلى التطبيق، ونجاحهم سيواري أمل جماعة الإخوان في الصعود مرة أخرى إلى الحكم في تونس، كما هو الحال في تجربة الجزائر.
كاتبة وباحثة فلسطينية*
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر