عبد المنعم سعيد

هناك سحر ما لكلمة «السر» فى الإعلام العربي لأنها فيما توحي به من غموض وخفاء تؤكد لنا ما نراه مؤامرة حاكمة من نوع أو آخر تكون لها فضيلة أنها تعفينا من التفكير، والأخطر المسؤولية، مادام الأمر يجري من وراء ظهورنا. ما يتبقى لنا دومًا هو النتيجة، التى عادة ما تكون محزنة أو كارثية نحملها فوق ظهورنا حتى تأتي المؤامرة التالية.

من هذا النوع جاء نشر رسائل هيلاري كلينتون الإلكترونية عندما كانت وزيرة خارجية الولايات المتحدة في عهد الرئيس باراك أوباما، وسط ضجة فى واشنطن لها علاقة بأجواء الانتخابات الرئاسية. القصة ليست جديدة لأنها جرت خلال الجولة السابقة للانتخابات عام 2016، وأجلست السيدة فى مقاعد التحقيق أمام مكتب التحقيق الفيدرالى، ولساعات طويلة أمام لجنة فى مجلس النواب، حيث كان التساؤل عن مخالفة الوزيرة القواعد المَرْعِيَّة فيما يتعلق بخادم التخزين الخاص بالبريد الإلكترونى في وزارة الخارجية، فالأصل أنه بمجرد تولي السلطة فإن الوزير- أو الوزيرة- تصبح مراسلاته جزءًا من الأرشيف القومي، حيث لا يُباح بها إلا وفقًا لقواعد سابقة التحديد. ولكن لما كان الوزراء بشرًا، ولهم فى ذلك مراسلات عائلية، وربما شخصية، فإن العادة جرت على أن بيت الوزير سوف يشهد خادمًا آخر للتخزين، يُفترض أنه للأمور الشخصية، ولكن لما كان زمن العمل هو فى حقيقته 24 ساعة يوميًا، فإن صاحب المنصب ليس لديه مفر طالما يستخدم الكمبيوتر فى مراسلاته الخاصة بالعمل أيضًا. وهنا جوهر القضية أو المخالفة التى كان على «هيلاري» الإجابة عنها، وكان جوابها الدائم هو أن ذلك ما فعله كل وزراء الخارجية قبلها، ولم يُفْضِ التحقيق معها إلى اتهامات جنائية. القصة استمرت من الانتخابات السابقة حتى الانتخابات الحالية، وربما سوف تستمر كلما كانت هناك مواجهة بين الديمقراطيين والجمهوريين في السياسة الأميركية.

فيما يخصنا من رسائل، وكان فى معظمه حول الدور الأميركي خلال «الربيع العربي» المزعوم، فإن ما نُشر كان سرًا ذائعًا منذ نشرت السيدة «كلينتون» مذكراتها «ما الذي جرى؟»، التى كتبت فيها عن عملها فى وزارة الخارجية، وقصة الخادم الإلكترونى، وفى فصل خاص كتبت عن «الربيع العربى»، عبرت فيه عن نظريتها العامة، التى شاركت فيها أوباما، حول جذور ما جرى في الدول العربية، والتى كانت ترى أن «الاستثناء العربي» هو نتيجة للنظم السياسية، التى لم تواكب ما ظنته مسيرة ليبرالية وديمقراطية في العالم.

السياسة الأميركية للتعامل مع ذلك كانت ذات شقين: تحريك الثقافة الليبرالية والديمقراطية بمعسكرات تثقيف وتدريس لتجارب التحول فى دول أوروبا الشرقية لعشرات من الشباب العربي، وجرت في استونيا وصربيا، والشق الآخر تبنى التيارات الإسلامية «المعتدلة» و«الليبرالية» لأنها المعبر «الحقيقي» عن ثقافة المنطقة. وفى العموم كان الاهتمام الأميركي بهذه العلاقة بين النظم السياسية العربية والإرهاب الإسلاموى بأنواعه المختلفة قد بدأ خلال التسعينيات من القرن الماضى، وأصبح الاهتمام أولوية تواجه تهديدًا للأمن القومى بعد الأحداث الإرهابية المريعة فى 11 سبتمبر 2001. وبينما كانت الاستجابة الديمقراطية على الاستثناء العربي ما ذكرته هيلاري كلينتون فإن الإجابة الجمهورية بدأت من قبل مع المحافظين الجدد، الذين واكبوا إدارة جورج بوش الابن، وكانت الإطاحة بالنظم العربية كلها وتفصيل نظم، وربما دول، جديدة أيضًا. وبات معروفًا في دوائر صنع القرار الأميركية أنه فى الوقت الذي كانت فيه البداية فط أفغانستان والعراق غزوًا وتدميرًا للدولة، فإن الجوائز الكبرى سوف تأتط عندما يكون الوصول إلى القاهرة والرياض!

الإخوان كان لديهم من الانتهازية ما يكفى للقفز على التفكير الأميركي بشقيه المحافظ والليبرالى، وكان لديهم من أولاد وأحفاد الإخوان في أميركا ما يكفي لتقديم الجماعة باعتبارها أولًا ما هى إلا حركة إسلامية ديمقراطية لا تختلف كثيرًا عن الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا، وثانيًا أنها سوف تحافظ على التقاليد والمصالح الغربية. فى الواقع كانت الجذور الفكرية للإخوان تقوم على أصول من الخوارج ومزيج من الفاشية والنظام السياسى الإيراني، وعندما ظهر برنامجهم المعبر عن ذلك فى عام 2007، وكان له رد فعل سلبى في واشنطن، فإنهم سارعوا بسحبه مُدَّعِين أن ذلك فكر جماعات محافظة وليس التيار الرئيسى في الجماعة. على أي الأحوال جرى التواطؤ غير السرى بين الإخوان وإدارة أوباما- هيلاري (وإدارات أخرى في العالم الغربي) على أن بداية الربيع تكون دائمًا بعواصف هائجة وثورات هادمة وفوضى لم تكن أبدًا خلاقة. لحسن الحظ أن الدولة الوطنية المصرية كانت أقوى بشعبها وقواتها المسلحة من كل تواطؤ.

المصدر: المصري اليوم