سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، تدهورت علاقات الولايات المتحدة مع العديد من أقرب أصدقائها وحلفائها؛ بسبب سياسات ترمب الاقتصادية وانسحابه من العديد من الاتفاقيات الدولية، إلا أن بعض الدول تمكنت من تعزيز علاقاتها مع الولايات المتحدة؛ لأن قادتها يشتركون مع ترمب في وجهة النظر السياسية الدولية، مثل: الرئيس البرازيلي بولسونارو، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، إلا أن أفضل من يمثل هذا التوجه هو رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، الذي لجأ إلى العصبية القومية للتغطية على سياساته الداخلية، ونجح في سعيه لتوثيق العلاقة مع ترمب.
ومنذ أن تولى ترمب منصبه، ازدادت قوة علاقات واشنطن بنيودلهي بشكل كبير على مختلف الصعد العسكرية والاستخباراتية والتجارية. وعلى المستوى الشخصي، تصف وزارة الخارجية الهندية العلاقة بين ترمب ومودي بأنها “علاقة صداقة واحترام متبادل ودفء استثنائي”. وتشهد على قوة علاقة البلدين الحشود التي كانت في استقبال الزعيمَين عند زياراتهما المتبادلة، ويثق 56% من الهنود في سياسة الرئيس ترمب الخارجية، بينما لا تتجاوز هذه النسبة 29% على المستوى العالمي. إلا أن هذه الصورة الوردية لم تصمد طويلاً؛ ففي الوقت الحاضر يكاد تعاون البلدين ينحصر في الشؤون الأمنية أكثر من أي شيء آخر.
كلٌّ في حضن الآخر
وبطبيعةِ الحال، فإن للصين دوراً كبيراً في هذا المشهد؛ فالصين نمَت بشكل ملحوظ خلال العقدين الماضيين، وهي تضع الهند كأحد أهدافها. وبدأت نيودلهي تشعر بالقلق من توسع الوجود العسكري الصيني في المحيط الهندي، ومن تحسن علاقاتها مع باكستان، وتدخلاتها في ميانمار ونيبال وسريلانكا، ومعارضتها للمصالح الهندية في المحافل الدولية، بالإضافة إلى النزاع الحدودي بين البلدين الذي احتدم منذ أبريل 2020، والذي أسفر عن مقتل 20 جندياً هندياً في أول اشتباك مسلح بين البلدين منذ 45 عاماً.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تعطي فيها السياسات الصينية هذا التأثير؛ ففي أوائل الستينيات توغلت القوات الصينية في التيبت، وخاض البلدان حرباً استمرت شهراً كاملاً في عام 1962 أجبرت الدالاي لاما على الفرار، وطلب اللجوء في الهند. وفي حينها نظرت الولايات المتحدة إلى الهند على أنها دولة ديمقراطية تشكل ثقلاً إقليمياً في موازاة الصين الشيوعية. مرة أخرى، لم يدم ذلك طويلاً؛ حيث بدأت إدارة الرئيس ليندون جونسون، بالتقارب المتوازن مع الهند وباكستان، وعندما بدأت إدارة الرئيس نيكسون في تطبيع العلاقات مع الصين بوساطة باكستانية، تلاشت الشراكة الناشئة مع الهند، وبدأت واشنطن تخشى تقارب الهند غير المنحازة مع الاتحاد السوفييتي.
واليوم، تعود الولايات المتحدة والهند لتشتركا في نفس النظرة العامة للتحدي الذي تمثله الصين، وتتفقان على ما يجب فعله إزاء ذلك. وفي عام 2017 أعادت كل من الولايات المتحدة والهند وأستراليا واليابان إحياء “الحوار الأمني الرباعي” الذي يهدف إلى الحفاظ على هدوء وأمن المحيطَين الهندي والهادي، كما أن الانسحاب الأميريكي من أفغانستان قلَّص من الاندفاعة الأميركية نحو مغازلة باكستان؛ الخصم التقليدي للهند.
ونتيجة لذلك تحسن التعاون الدفاعي بشكل كبير بين البلدين، وارتفعت صادرات الأسلحة الأميركية إلى الهند من صفر إلى 20 مليار دولار؛ لتشكل نحو 15% من مشتريات الهند العسكرية. وخلال رئاسة ترمب، تمكنتِ الهند من توقيع اتفاقيات تعاون عسكري مع الولايات المتحدة كانت قد استعصت على الحكومات الهندية السابقة، ومنذ عام 2005 أجرتِ القوات الهندية تدريباتٍ مشتركة مع نظيرتها الأميركية أكثر من جميع جيوش الدول الأخرى مجتمعة.
كما أن الروابط الاقتصادية بين واشنطن ونيودلهي أصبحت أكثر قوة مؤخراً؛ فقد تفوقت الولايات المتحدة على الصين في عام 2019 كأكبر شريك تجاري للهند. وبينما تراجع التبادل التجاري بين الهند والصين للعام الثاني على التوالي ليصل في عام 2019 إلى 84 مليار دولار، فقد ارتفع هذا الرقم مع الولايات المتحدة ليصل إلى 143 مليار دولار؛ لتصبح الهند تاسع أكبر شريك في تبادل السلع مع الولايات المتحدة، بما يخلق لها ما يقارب 200,000 فرصة عمل.
عنق الزجاجة
ومع أن علاقات البلدين هي الآن أفضل من أي وقتٍ مضى، إلا أنها لا تزال في عنق الزجاجة. فقد تراجعت التبادلات في مجالات التعليم والزراعة والعلوم والتكنولوجيا، كما تراجعت حركة الهجرة من الهند إلى الولايات المتحدة؛ بسبب تفشي وباء كورونا وتراجع عدد الهنود الذين يدرسون علوم الكمبيوتر في أميركا بنسبة 25%؛ بسبب سياسات ترمب في تقييد الهجرة، وهذا ما سوف يبطئ نمو واحد من أهم دوافع التعاون بين البلدين: نحو أربعة ملايين أميركي من أصل هندي.
ويكمن سبب تراجع علاقات البلدين وراء الذهنية التي تحكم هذه العلاقات، وتبقيها محصورة في إطار الصفقات التبادلية بدلاً من الأطر المبدئية. فكلا الطرفين لا يمتلك رؤية استراتيجية بعيدة المدى لعلاقتهما الثنائية، وإدارة ترمب، على عكس إدارتَي جورج بوش الابن وأوباما، لم تدرك أهمية صعود الهند بالنسبة إلى واشنطن، بينما ركَّزت حكومة مودي على استثمار علاقاتها الخارجية لخدمة سياساتها المحلية.
وقد غضَّت إدارة ترمب النظر عن السياسات المتعارضة مع مبادئ حقوق الإنسان لحكومة مودي؛ مثل حجب الجنسية عن المهاجرين المسلمين، وتضييق الحكم الذاتي لمنطقة جامو وكشمير ذات الأغلبية المسلمة، على الرغم من اعتراض أعضاء الكونغرس من ذوي الأصول الهندية؛ مما قوَّض الإجماع بين الحزبين الأميركيين على تعزيز العلاقات مع الهند.
وحتى في العلاقات التجارية بين البلدين، هنالك أسباب عديدة للخلاف بينهما؛ أهمها سياسة مودي بالتوجه نحو فرض قيود الحماية على التجارة، ورفع التعريفة الجمركية لأربع سنوات متتالية، ورفض الهند الانضمام إلى العديد من الشراكات الاقتصادية الإقليمية، وكذلك موقف الولايات المتحدة من مقاربة الهند لموضوع حماية حقوق الملكية الفكرية والقيود التي فرضتها على وارداتها من الولايات المتحدة، بالإضافة إلى امتعاضها من علاقات الهند التجارية مع إيران ووارداتها الدفاعية من روسيا.
بشكل عام، استفادت العلاقات الأميركية الهندية من تأثير ترمب بالاستناد إلى جهود استمرت خلال الأعوام العشرين الماضية لتحسين هذه العلاقات. إلا أنه لا يزال هنالك الكثير من العوامل التي يمكن أن تؤثر سلبياً؛ مثل تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، وتنامي ظاهرة الإجراءات الحمائية، وبقاء الاقتصاد الصيني على قوته المتزايدة، وتوجه الحكومة الهندية نحو الاكتفاء الذاتي والحد من الاستيراد.
الجوار الصعب
حتى في ما يتعلق بالصين، القضية المركزية التي قربت بين الهند والولايات المتحدة، فإن نقاط التلاقي أقل مما نتوقع. فقد رسم مودي خطواته بدقة متناهية في علاقته مع الصين، وحاول عدم استفزازها بعلاقة بلاده مع واشنطن. ومنذ سنة 2017 خفَّفتِ الهند انتقادها لمشروع البنية التحتية العالمية العملاق الذي يعرف بـ”طريق الحرير”، على الرغم من الاستياء الضمني للعديد من المسؤولين الهنود منه. كما امتنعتِ الهند عن التعليق على معاملة الصين لشعب الإيغور وعلى قمعها المنتفضين في هونغ كونغ، وعسكرتها لبحر الصين الجنوبي، كما امتنعت عن التعليق على الفشل الصيني في مواجهة تفشي وباء “كوفيد- 19”. وبشكل عام، فإن الرؤية التي أطلقها مودي لمنطقة المحيط الهندي والمحيط الهادي في عام 2018 تختلف تماماً عن تلك الرؤية الأميركية؛ ففيها مكان للصين، وتركز على القضايا غير المثيرة للجدل، والتي يتوافق عليها الجميع.
مع أن الاشتباك الحدودي الأخير مع الصين قد أقنع الجميع بأهمية العلاقات الوثيقة مع الولايات المتحدة، فإنه لا ينبغي للهند أن تتوقع الكثير من واشنطن بالنظر إلى تجاربهما التاريخية السابقة. فمع أن البلدين يتفقان في الاستراتيجيات البحرية؛ إلا أن هذا التوافق لا ينسحب على البر الرئيسي الآسيوي الذي يزداد توتراً في نقاطه الساخنة، مثل هونغ كونغ وتايوان وبحر الصين الجنوبي والحدود الصينية-الهندية، وأفغانستان واليمن وسوريا وأوكرانيا، وغيرها.
وبشكل عام، فإن التقلبات التي تشهدها آسيا هي نتيجة لتغير ميزان القوى في المنطقة؛ فانسحاب إدارة ترمب من اتفاقية الشراكة في منطقة المحيط الهادي للتجارة الحرة ترك المجال مفتوحاً أمام الصين كي تقوم بتنظيم الاقتصاد في الإقليم؛ في محاولة لملء الفراغ الذي تركه هذا الانسحاب.
وقد عملت الصين بجد على تغيير ميزان القوة العسكري على شواطئها، وحاولت تحويل بحر الصين الجنوبي إلى بحيرة صينية، وسعت إلى الإيحاء بأن التحالف مع الولايات المتحدة لا يشكل الجواب الصحيح تجاه السياسات الصينية، وذلك لدفع دول المنطقة إلى الدخول في اتفاقيات ثنائية معها.
وتلاقي الشكوك التي تثيرها الصين حول استعداد الولايات المتحدة لممارسة القوة آذاناً صاغية في المنطقة؛ خصوصاً في جنوب شرق آسيا. وفي الوقت نفسه، لم تجد الصين حرجاً في استعمال جميع أشكال القوة في فرض إرادتها في هونغ كونغ، وزيادة وجودها العسكري حول تايوان، وشن حرب جمركية مع أستراليا.
صحيح أن موقف الصين الصلب في نزاعها الحدودي مع الهند قد عزَّز من موقف دعاة التقارب مع الولايات المتحدة، إلا أنه من غير المحتمل أن تؤدي سياسات الصين المتصلبة إلى تشكيل حلف عسكري على غرار الناتو في آسيا؛ فجميع الدول الفاعلة في المنطقة، بما فيها الهند والولايات المتحدة، لديها الكثير مما تخشى خسارته من جراء قطع علاقاتها بشكل كامل مع الصين. ولكن من المحتمل أن توسع دول الرباعية نشاطاتها، وأن تحاول ضم دولٍ آسيوية أخرى إليها، وأن تسعى للتأسيس لترتيبات أمنية أقوى في ما بينها!
تداعيات “كوفيد-19”
توقع بعض المحللين في الصين أن العالم سيخرج من جائحة “كوفيد-19” منقسماً إلى مجموعتين؛ الأولى مجموعة من دول شرق آسيا بقيادة الصين التي نجحت في كبح الوباء وتحقيق الانتعاش الاقتصادي، والثانية هي دول الغرب التي تغرق في موجات متتالية من الوباء، وتعاني صعوبات اقتصادية. إلا أن ما حدث في الواقع هو أن الوباء ضرب الجميع ولم يسلم منه أحد. ولا يلوح في الأفق إلا المزيد من الإجراءات الحمائية من جانب القوى الكبرى، واقتصاد عالمي منهك يتوقع أن يسبب الكثير من الاضطرابات في دول آسيا على وجه الخصوص.
ولا بد للولايات المتحدة والهند من التكيف مع هذا العالم الأصغر والأقل ثراءً. وإذا انكفأت الدولتان نحو الداخل وفشلتا في العمل معاً ومع شركاء آخرين، فإنهما سوف تعانيان عواقب وخيمة. ولكن نظراً للاستقطاب الشديد في السياسات الداخلية للبلدين، أصبح من الصعب أن تعود العلاقة بينهما إلى مجدها الذي كانت عليه في مطلع هذا القرن، وذلك بغض النظر عن الذي سيفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
وعلاوة على ذلك، يبدو أن التوتر المتصاعد بين الصين والولايات المتحدة سوف يدفع البلدين إلى الطلب من دول آسيا الاختيار بينهما، وهذا سوف يشكل خياراً محرجاً وصعباً بالنسبة إلى الهند التي سعت دائماً إلى الحفاظ على علاقات أفضل مع الصين والولايات المتحدة. ولكن إذا وقعت الواقعة فمن المرجح أن يقع اختيار الصين على الولايات المتحدة.
وفي الوقت الراهن، سوف تستمر الهند في السعي لتحقيق أمنها من خلال تقوية علاقاتها العسكرية مع واشنطن، وسيكون من المؤسف أن تقف الأمور عند هذا الحد. فالتعاون بين البلدين يمكن أن يتعدى المسائل العسكرية في العديد من القضايا العابرة للحدود؛ مثل الأمن السيبراني، وحرية الملاحة في المحيط الهندي ومكافحة الإرهاب، والتغيرات المناخية على سبيل المثال. فواشنطن ونيودلهي هما شريكان طبيعيان يرتبطان بمصالح وقيم مشتركة، وبشيء من الرؤية وسعة الأفق عند كلا الجانبين، ويمكن للمرء أن يأمل بأن تنجح الهند والولايات المتحدة في إقامة العلاقة التي تستحقانها.
المصدر: qposts
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر