سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
د. تامر هاشم
ذكرت صحيفة (وول ستريت جورنال) الأميركية الصادرة في الأول من أغسطس الجاري “أن البنتاجون ووزارة الخارجية – وهي من المرات القلائل التي تتفق فيها الوزارتان على سلوك سياسي خارجي واحد – أعدتا خططًا لتزويد أوكرانيا بصواريخ مضادة للدبابات وغيرها من الأسلحة، وأنهما تسعيان إلى الحصول على موافقة البيت الأبيض، وفقًا لمسؤولين أميركيين”. وأضافت الصحيفة”أن مسؤولين عسكريين أميركيين ودبلوماسيين أكدوا أن هذا التسليح، الذي وصفوه بـ”الدفاعي”، يهدف إلى ردع الأعمال العدوانية التي تقوم بها موسكو؛ إذ تزعم الولايات المتحدة ودول أخرى أنها اشتملت على تزويد المتمردين الذين يقاتلون حكومة كييف بالدبابات، وغيرها من الأسلحة المتطورة وكذلك المستشارون العسكريون”.
وفى 15 أغسطس، أعلنت وزارة الخارجية الروسية، أنها تلاحظ ميل واشنطن نحو تزويد أوكرانيا بأسلحة فتاكة، مؤكدة أن ذلك سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار في منطقة دونباس بشرق أوكرانيا، وذلك بحسب وكالة (تاس) الروسية. وقال سيرجي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي، في حديث لمجلة (الحياة الدولية): “تتعرض إدارة ترمب لضغوط لدفعها في هذا الاتجاه”. وأكد ريابكوف أن تزويد أوكرانيا بالأسلحة الفتاكة، سيصبح خطوة نوعية جديدة في السياسة الأميركية بشأن أوكرانيا، موضحًا أن اتخاذ واشنطن قرارًا بمثل هذه الخطوة سيؤدي إلى تطور الأحداث بشكل خطر للغاية.
يسبق ذلك بشهرين (مايو) فقط إعلان الاتحاد الأوروبي، أنه قد اتخذ قرارًا نهائيًا بإلغاء تأشيرات الدخول لمواطني أوكرانيا.
وفي نهاية العام الماضي، أعلنت إرينا جراشينكو، النائب الأول لرئيس البرلمان الأوكراني، خلال منتدى طريق الحرير بأوكرانيا لعام 2016 في كييف، أن أوكرانيا على استعداد للانضمام إلى آلية 16+1، وهي منبر أنشأته الصين و16 دولة بمنطقة وسط وشرق أوروبا، لبدء تعاون شامل مع الصين في إطار مبادرة طريق الحرير. وقالت: “من المهم جدًا بالنسبة لأوكرانيا، أن تنضم إلى آلية 16+1، وأن تصبح عضوًا كاملاً بمشروع طريق الحرير”. وأضافت أنه من أجل المساعدة في عملية انضمام أوكرانيا إلى آلية 16+1، تمَّ تشكيل مجموعة خاصة داخل البرلمان الأوكراني تدعى “مجموعة أصدقاء الصين”تضم أكثر من نصف المشرعين بالبرلمان الأوكراني. وفي السياق نفسه، قال نائب رئيس الوزراء الأوكراني جينادي زوبكو، الذي شارك أيضًا في المنتدى، إن كييف تنظر إلى مبادرة طريق الحرير باعتبارها فرصة كبيرة لأوكرانيا لإطلاق العنان لفرص النقل بها. وقال: “طريق الحرير شريان استثماري يربط بين آسيا الوسطى، أكبر منتج للبضائع، وباقي العالم بأسره. وأوكرانيا هي الدولة الأوروبية الأولى على هذا الطريق، ويجب علينا الاستفادة الكاملة من ميزة هذا الموقع”.
وكذلك، قال سفير الصين لدى أوكرانيادو وي، إن الصين ترحِّب بجهود أوكرانيا في تعزيز التعاون الاقتصادي في إطار مبادرة طريق الحرير. وقال: “نأمل أن يأتي المستثمرون الصينيون إلى أوكرانيا لإقامة استثمارات في مجالات الزراعة والعلوم والتكنولوجيا والبنية الأساسية واللوجستيات والمالية والتجارة الإلكترونية والطاقة النووية والطاقة المتجددة وغيرها من المجالات”.
نلحظ مما سبق، أن هناك زخمًا دوليًا يحيط بأوكرانيا، فلماذا كل هذا الزخم؟
أوكرانيا هي ثاني أكبر دول أوروبا الشرقية، يحدها الاتحاد الروسي من الشرق، وبيلاروسيا من الشمال، وبولندا وسلوفاكيا والمجر من الغرب، ورومانيا ومولدوفا من الجنوب الغربي، والبحر الأسود وبحر آزوف من الجنوب.
بدأ تاريخ أوكرانيا الحديث مع السلاف الشرقيين (الروس والأوكرانيين والبيلاروسيين)، حيث كانت مركزًا رئيسًا للثقافة السلافية الشرقية في العصور الوسطى. ومنذ القرن التاسع أدت المدن أوكرانية، دور المراكز التجارية لتبادل البضائع بين التجمعات القبلية المختلفة. وخلال القرنين العاشر والحادي عشر، أصبحت من أكبر الدول وأقواها في أوروبا. وفي القرون التالية، وضعت الأساس للهوية الوطنية للأوكرانيين والروس. لكنها تفككت في القرن الثاني عشر، نتيجة الغارات المستمرة من جانب القبائل التركية الرحَّل، ثم الغزو المغولي للبلاد، الذي دمَّر كييف تمامًا في عام 1240. وبعد أن نهضت الدولة مرة أخرى، عاد الخراب ثانية في 1657-1686، بفعل حرب مدمرة دامت ثلاثين عامًا بين روسيا وبولندا وتركيا والقوزاق من أجل السيطرة على أوكرانيا التي انتهت بتقسيمها.
دخلت أوكرانيا الحرب العالمية الأولى، والشعب يقاتل بعضه بعضًا، فقد كانت البلاد محتلة ومقسمة، فالشطر الخاضع للنمسا دخل إلى جانب الدول المركزية، والجزء الخاضع لروسيا دخل إلى جانب الوفاق الثلاثي في الشطر الخاضع لروسيا. وقاتل 3.5 مليون من الأوكرانيين مع الجيش الإمبراطوري الروسي، على حين شارك 250 ألفًا في الجيش النمساوي المجري. ومع انهيار الإمبراطوريتين الروسية والنمساوية بعد الحرب العالمية الأولى والثورة الروسية عام 1917، برزت الحركة الوطنية الأوكرانية من أجل تقرير المصير من جديد،إلا أنه بحلول عام 1921 خضع أغلب أوكرانيا للاتحاد السوفييتي. وفي أيلول 1939، تقاسمت القوات الألمانية والسوفيتية أراضي بولندا، وحارب الأوكرانيون الغربيون تحت لواء هتلر، والأوكرانيون الشرقيون تحت لواء ستالين. ولكن بعد هزيمة هتلر واستيلاء الاتحاد السوفييتي على أوروبا الشرقية، تمَّ توحيد أوكرانيا للمرة الأولى في تاريخها، وكان ذلك حدثًا حاسمًا في تاريخ الأمة الأوكرانية.
بناء على ما سبق، يمكن القول إن أوكرانيا هي دولة بالغة الأهمية، تتشابك عندها – دائمًا – خطوط الصراع بين القوى العظمى. وهذا ما يؤكده هنري كيسنجر، إذ يرى أن أوكرانيا هي الخاصرة الرخوة لروسيا. أما زبيغنيو بريجينسكي، أبرز مستشاري الأمن القومي، فيرى أن أوكرانيا وحدها من بين دول المعسكر السوفييتي الواقعة على حدود روسيا، قلب هذا الاتحاد، تنقسم ديموغرافيًا وثقافيًا بين هويتيها الأوروبية الغربية والروسية الشرقية، وليست الآسيوية أبدًا. فالتشتت في الهوية على أساس منطلق اثني بين الكنيستين الشرقية الأرثوذوكسية والغربية الكاثوليكية، يرافقه تباين في الأهواء والميول للسكان، تجعل النصف الغربي لأوكرانيا غربيًا كليًا، وتجعل نصفها الشرقي شرقيًا كليًا.
والصراع المحتدم اليوم على أوكرانيا، يدل على عودة العالم إلى الحروب والصراعات السابقة، لكن في ظروف مختلفة وتشبيك دولي مختلف نوعيًا. فما هو شكل الصراع الدولي الراهن حول أوكرانيا؟
تدخل الولايات المتحدة الصراع حول أوكرانيا، وفق هدف مزدوج يتمحور حول التحكم والضغط من خلال امتلاك القدرة على تهديد الأمن القومي، ليس فقط لروسيا كما هو معلن، ولكن أيضًا لأوروبا ككتلة منظمة تحت قيادة ألمانيا. فواشنطن تدرك أنها لا تستطيع أن تستمر في السيطرة الأمنية على أوروبا من خلال تحملها العبء الأكبر في الدفاع عن القارة، ومن ثم يصبح الوجود في أوكرانيا أقل كلفة. إنها الأولوية الاقتصادية في المقام الأول على حساب القيم والاستمرارية في السياسات الرئيسية.
وفي الوقت نفسه، ترى روسيا أن أوكرانيا خاصرة روسيا الرخوة وقلب الدفاع العسكري عنها، تمامًا كما حصل في الحرب العالمية الثانية، عندما اتخذ الألمان من أوكرانيا قاعدة لبدء قصف ستالينغراد. وتتمثل أهميتها الجيوسياسية في أنها بوابة للنفوذ الروسي في أوروبا، وطريق إمداد الغاز الروسي إليها. كما أن الاقتصاد الروسي يعتمد على أوكرانيا من خلال عائدات الغاز، وفي مجال الإنتاج الزراعي. كذلك تُعَدّ الموانئ الأوكرانية في أوديسا وسباستبول، ركيزة دعم خط التجارة الروسي. وتسمح هذه الموانئ للسفن التجارية وللأسطول العسكري الروسي، بوجودها في البحر الأسود والعبور منه إلى المياه الدافئة. ومن هذا المنطلق، ترى روسيا أن أي زعزعة للأمن في أوكرانيا، هي تهديد مباشر لأمنها القومي، وأن أي دعم خارجي للمعارضة الأوكرانية يعدُّ جزءًا من المشروع الأميركي الهادف إلى محاصرة روسيا؛ لذا كان الاحتلال الروسي للقرم.
أما ألمانيا، فهي تدرك أن الضغط الأميركي، لن يخضع بوتين، وسيضطر إلى استخدام ورقة تقسيم أوكرانيا إثنيًا إلى بروتستانت وكاثوليك، الذي سيمتد إلى تقسيم شبيهاتها من دول شرق أوروبا من رومانيا وهنغاريا إلى بلغاريا، وبعدها لن تقف الأمور هنا، فالشقُّ سيستمر ليطال الخط الكاثوليكي البروتستانتي، فيطال ألمانيا وفرنسا وبلجيكا.
أما الصين، فهي تدرك تمامًا، أن الأمن القومي الصيني مرتبط بالأساس باستمرار معدلات النمو المرتفعة لأطول مدى ممكن، وهذا لن يتأتى إلا من خلال إحياء طريق الحرير والوصول إلى الأسواق الأوروبية من خلال أوكرانيا التي تتمتع بأيدٍ عاملة رخيصة، تضمن للمنتجات الصينية المصنعة هناك، قدرة على المنافسة في أوروبا. وقد أعلنت الصين، أنها لم تعد راغبة في استخدام سياسة ضبط النفس في مواجهة السلوك الأميركي، ووجهت تحذيرًا لواشنطن من خلال مداخلة على هامش منتدى دافوس، قام بها المدير العام لإدارة الاقتصاد الدولي في وزارة الخارجية الصينية تشانغ جون، إذ قال: “إن بلاده لا ترغب في زعامة العالم، لكنها قد تضطر إلى لعب هذا الدور إذا تراجع الآخرون”.
الأزمة في أوكرانيا، ليست بعيدة عن العالم العربي، فالقوى الكبرى تكوِّن رؤية متكاملة للشأن الدولي، وتربط الملفات بعضها ببعض، إذ يتداخل الملف الأوكراني إلى جانب الملف السوري، إلى جانب الإيراني، إلى جانب اليمنى، وتتمُّ عمليات التسوية والمساومة كذلك.
أكاديمي وباحث في العلوم السياسية*
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر