د أُبي بن عبد المحسن الخنيزي
بمثابة تمهيد:
تحل في الثالث من صفر لعام (1442هـ) الذكرى الثمانون لوفاة زعيم القطيف الشيخ علي بن حسن علي الخنيزي (أبو عبد الكريم)، فكانت هذه هي المناسبة الملائمة لكتابة بحثٍ يعرض سيرته الغنية بالخبرات والأحداث، لا من أجل ” التفاخر الزائف ” بالآباء والأجداد، تلك العادة غير الحميدة التي لم تسلم منها الكثير من المجتمعات، وإنما لأخذ العبرة والفائدة من حياة هذا الرجل المميز لتشكل نبراساً للأجيال الجديدة في مقاربتها لقضايا الشأن العام وتعاملها مع الأحداث الجسام.
لقد حرصتُ على أن أصيغ هذا البحث مستنداً على المصادر الأولية بشكلٍ حصري، وأقصدُ بالمصادر الأولية أي الأشخاص الذين كتبوا عن الشيخ (أبو عبدالكريم) ممن عاصروه وعايشوه معايشةً فعلية، وذلك تحرياً للدقة العلمية وتثبيتاً للوقائع كما حصلت.
وأود الإشارة إلى أنه قد حالفني الحظ للاطلاع على عددٍ من الوثائق القيمة المبنية على المصادر الأولية، وإنني لكنتُ أتمنى، وبشدة، بأن أستطيع إرفاقها جميعاً مع هذا البحث، إلا أنه قد تعذر علي ذلك لأسبابٍ أدبيةٍ محضة، آملاً بأن يُتاح المجال مستقبلاً لنشرها وطرحها على الجمهور، وعلى الرغم من ذلك، فإنني أُلحق مع هذا البحث وثيقةً جديدةً تُنشر للمرة الأولى لتنضم بذلك إلى التراث المسجل لوطننا الحبيب ومدينتنا الحبيبة.
من هو الشيخ (أبو عبدالكريم)؟:
هو الشيخ علي بن حسن علي بن حسن بن مهدي بن كاظم الخنيزي. ولد في عام (1285هـ/1868م) لأبيه الحاج حسن علي الخنيزي وأمه ميمونة بنت الشيخ محمد علي بن مسعود الجشي. كان زعيم القطيف ، وقاضيها الوحيد، وأحد علمائها المجتهدين، وكان يُسمى بـ”الشيخ العود” (أي الكبير) تمييزاً له عن الشيخ علي (أبو حسن) الخنيزي المسمى بـ”الشيخ الصغير” ، حيث كان الشيخ (أبو عبدالكريم) أكبر سناً من الشيخ (أبو حسن) ، كما لم تسنح الفرصة للشيخ (أبو حسن) للقيام بأي دورٍ سياسيٍ أو اجتماعيٍ ملموس إذ لم يتول منصب القضاء إلا بعد وفاة الشيخ (أبو عبد الكريم) ولفترةٍ وجيزةٍ جداً مدتها سنة وتسعة شهور فقط قبل أن توافيه المنية هو الآخر رحمه الله .
لقد تفرد الشيخ (أبو عبدالكريم) بلعب ثلاثة أدوارٍ محوريةٍ في الوقت نفسه : الدور السياسي والاجتماعي، والدور القضائي، والدور الديني، ونعرضُ فيما يلي ملخصاً لكل دورٍ من هذه الأدوار.
الدور السياسي والاجتماعي:
تصدر الشيخ (أبو عبد الكريم) المشهد السياسي والاجتماعي في القطيف ابتداءً من السنوات الأخيرة للحكم العثماني وقبل دخول القطيف تحت الحكم السعودي. كان الحكمُ العثماني للقطيف حكماً صورياً مهلهلاً لم يجلب لها، ولا لسائر المناطق الأخرى التي خضعت له، أي أمنٍ أو استقرارٍ أو تنمية. لقد كانت “الفوضى” هي العنوان البارز لتلك الحقبة “فاستفحل خطر البدو، واضطرب حبل الأمن والاستقرار في هذه المنطقة، وانتشرت عصابات اللصوص” . أورد الأستاذ/ عبدالمحسن الشيخ علي (أبو عبد الكريم) الخنيزي نماذج عدة تعكس طبيعة الأوضاع الأمنية المزرية التي عاشتها المنطقة في تلك الفترة، حيث مارست عناصر من البدو القرصنة على ساحل القطيف على امتداد الفترة من (1298هـ – 1325هـ) (1881 م – 1907 م)، كما حدثت “وقعة الشربة” بين عدة بلداتٍ في القطيف وبين البدو في عام (1326هـ/1908 م)، وكذلك “وقعة الطف” بين أهالي القديح وفخذ إحدى القبائل البدوية في عام (1326هـ/1908 م)، و “وقعة سيهات” التي ربما كانت في عام (1329هـ/1911 م)، وتكرر الأمر نفسه في “وقعة الجبل” في العوامية عام (1330هـ/1912 م) .
إلا أن الحادثة الأخطر، والأوسع نطاقاً، من بين الحوادث آنفة الذكر كانت “وقعة الشربة” التي حصلت في عام (1326هـ/1908 م). سبب حدوث “وقعة الشربة” هو نشوب خلافٍ بين بائع ماء من أهالي القطيف إسمه “الحاج مكي بن الحاج إبراهيم الدبوس” وأحد البداة في السوق مما أدى إلى مشاجرةٍ بين أهالي القطيف والبدو ومقتل بعض الأشخاص، لتكون هذه هي الشرارة التي ولدت حرباً شاملةً استمرت كما يُقال لمدة ستة أشهر وأوقعت العديد من الضحايا من الطرفين ، وسُميت السنة التي حصلت فيها “وقعة الشربة” بـ”سنة الحصارة” لمحاصرة البدو للـ”قلعة”، عاصمة القطيف، ولعدد من القرى والبلدات.
لقد لعب الشيخ (أبو عبد الكريم) دوراً حاسماً وشجاعاً في فك الحصار الذي أطبقه البدو على “القلعة”، حاضرة القطيف، في تلك الحرب، إذ “أُعلم أهالي القلعة ليلة (18/7/1326هـ) أي بعد مضي شهرين على أحداث “وقعة الشربة” بأن الشيخ سوف يخرج في اليوم التالي من أجل طرد المحاصرين، فمن شاء فليجهز نفسه. وفي اليوم التالي خرج الشيخ متقلداً سيفاً، في جمعٍ من أهالي القلعة يصحبه أبوه الحاج حسنعلي بن حسن الخنيزي، وأخوه جعفر وأحمد، واستطاعوا بفعل المفاجأة والتصميم أن يدحروا المحاصرين ويطاردوهم حتى حدود قرية “الخويلدية”، وفيها قتل جعفر وجرح أحمد في يده وكان على وشك أن يجهز أحد البداة عليه بعد إصابته، لولا أن أنقذه أحدهم وكان له به معرفة ، وحمله معه إلى ديارهم وأخرج الرصاصة من يده وداواه مدة ثلاثة أيام، ثم أتى به إلى القلعة، بعد أن أخذ له الأمان من أهلها، فأكرمه أبوه الحاج حسنعلي الخنيزي واحتفى بعودة ابنه” .
إخراج العثمانيين من القطيف:
اتضح لنا من الفقرة السابقة بأن القطيف كانت تعيش أسوأ أحوالها الأمنية والمعيشية في أواخر العهد العثماني، وباتت بعد انتهاء أحداث “وقعة الشربة” في “عاصفةٍ من القلق والفوضى” وانعدام الأمن “بحيث أصبح المواطن لا يستطيع أن يتعدى سور القلعة إلا بخفير أو فرقة مسلحة من الرجال” ، ولكن ما إن أطل عام (1331هـ/1913 م) حتى تواترت الأنباء من الأحساء بأن قوات الملك المؤسس – طيب الله ثراه – قد دخلت الأحساء وأنهت الحكم التركي ، وذلك بعد مقاومةٍ ضعيفةٍ من الجنود الأتراك وترحيبٍ كبيرٍ من أهلها، وأن مبعوثه/ عبدالرحمن بن سويلم قد نزل بـ”المريقب”، غربي سيهات، لاستطلاع الأوضاع في القطيف تمهيداً لضمها للحكم السعودي الجديد.
لقد بوغت الجنود الأتراك في الأحساء وداهمهم عنصر المفاجأة ، إلا أن مباغتتهم في القطيف لم تعد واردةً بعد ذلك، على الرغم من وجود حفنةٍ قليلةٍ منهم في القطيف مقارنةً بعدد نظرائهم في الأحساء ، فتولد رد فعلٍ لدى الوالي العثماني في القطيف دفعه إلى استدعاء أهل الحل والعقد للاجتماع بهم وعلى رأسهم الشيخ (أبو عبد الكريم) .
كانت إرادة الوالي التركي بأن يقف الأعيان معه لصد الحكم السعودي الجديد، فجمع جنوده “للفتك بهم” إذا ما أبدوا أي حركةٍ أو تردد ، وأقام على رأس كل واحدٍ من الحاضرين جندياً شاهراً بندقيته ينتظر الأمر من الوالي لإفراغها في رأسه . لقد كان موقفاً دقيقاً واجتماعاً صعباً عصيباً. تصدى الشيخ (أبو عبد الكريم) للوالي فقال له بأن قرى القطيف متشعبةٌ ومتباعدةٌ عن بعضها البعض ، وأن الوضع الأمني والمعيشي في القطيف في غاية السوء، وذكره بـ”وقعة الشربة” وما حصل خلالها وبعدها من مآسٍ وخسائر، وأن الأتراك حينها لم يستطيعوا الدفاع عن جندهم فضلاً عن حماية الأهالي، وكيف أن “القلعة”، عاصمة القطيف، ظلت محاصرةً لشهور من قبل البدو والدولة العثمانية عاجزةٌ عن فك الحصار ، وأن إصرار الوالي على موقفه سيؤدي إلى مغامرةٍ تُسفك فيها الدماء دون طائل. رأى الوالي عندئذٍ بأن لا جدوى من البقاء لاسيما بعد أن خسرت الدولة العثمانية الأحساء فاضطر هو والحامية التركية إلى اللجوء إلى البحرين في طريقهم إلى البصرة .
لقد أدرك الشيخ (أبو عبد الكريم) بفطنته الدافع الذي دفع بالوالي للتصرف بهذا الشكل العصبي، فتولى أثناء الاجتماع صياغة مذكرةٍ وقعها الأعيان تطلب من الوالي الانسحاب وتعفيه من المسؤولية أمام رؤسائه “ليكون له عذر لدى حكومته” ، وبذلك افتتح الأمير عبدالرحمن بن سويلم القطيف “في ضحى يوم الخميس التاسع من شهر جمادى الثانية سنة 1331هـ” سلماً دون أي قتال لتكون ثالث منطقةٍ تنضم إلى العهد السعودي الجديد بعد منطقتي نجد والأحساء.
وتفيد المصادر الأولية بأنه “وبعد مغادرة القائم مقام القطيف جاء الملك عبد العزيز إلى القطيف ونزل في مقر الوالي التركي السابق (السراي) حيث انتقل إليه بن سويلم، واجتمع عبد العزيز بشخصيات القطيف وعلمائها وأعيانها وبعد المبايعة أخبرهم عبد العزيز أنه عين ((عبد الرحمن بن محمد سويلم)) أميراً على القطيف، والشيخ علي بن حسنعلي الخنيزي (أبو عبد الكريم) قاضياً، وقيل إن أهل القطيف هم الذين طلبوا منه أن يعين الشيخ قاضياً فاستجاب لهم، ومن هنا بدأ دوره القيادي كزعيمٍ للبلاد وقاضٍ وحيد لها، وقد ظل في القضاء قاضياً عاماً لكل القطيف وما يتبعها من مدن وقرى لكل أبناء الطوائف والمذاهب الإسلامية …” .
مع الملك المؤسس:
بعد دخول القطيف في العهد السعودي الجديد، حظي الشيخ (أبو عبد الكريم) بثقة وتقدير الملك المؤسس لمصداقيته وإيمانه بالخط الوطني “فكانت له مكانة محترمة عند العاهل السعودي” . تنقل بعض المصادر بأن الملك المؤسس كان “يرى الزعيم في مقدمة المسؤولين عن كل ما يحدث في القطيف لأنه أول الزعماء المقدرين وأكبر القادة المطاعين من عامة الشعب” ، كما كان يراه “قديراً على إعادة الوضع العام بالبلاد إلى نصابه في الحالات المضطربة بالصورة السلمية” .
إن من صور التفاعل والتواصل الإيجابي بين المغفور له الملك المؤسس والشيخ (أبو عبد الكريم) هو ما حصل في عام (1347هـ/1928 م) عندما صدر أمرٌ باعتماد ضريبة “الجهاد المثني”، أي ضريبة الجهاد المضاعفة، بسبب الحاجة حينها لتمويل حروب تأسيس المملكة ، فظهرت بوادر فتنةٍ في عددٍ من القرى والبلدات في القطيف تمثلت في رفض تسليم الزكوات وطرد محصليها، فلما بلغ الحادث إلى مسامع الملك المؤسس وجه كتاباً في عام (1348هـ/1929 م) إلى طائفةٍ من أعيان القطيف يطلب منهم معالجة الأمر، وكان إسم الشيخ (أبو عبد الكريم) في مقدمة الأسماء ، فكان صدر الكتاب كما يلي:
“من عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل فيصل، إلى جناب الشيخ علي الخنيزي، والسيد ماجد والسيد حسين، وعبدالله بن نصرالله، وعبدالله بن راشد، ومهدي الجشي، وحسن الشماسي، ومنصور الزائر، السلام، وبعد…….” الخ.
لقد جال الشيخ (أبو عبدالكريم) آنذاك على بعض القرى التي حصلت فيها تلك الحوادث بصحبة “السيد ماجد العوامي” والحاج “عبدالله بن راشد الغانم” رحمهما الله فاستطاعوا وأد الفتنة في مهدها، وفرضوا الاستقرار في البلاد، وتحملوا المصاعب والتحديات من أجل ذلك، كما كُتب خطابٌ إلى الملك المؤسس فيه شرحٌ للأوضاع الاقتصادية التي تمر بها المنطقة وقعه الشيخ (أبو عبدالكريم) وعددٌ من الأعيان في طليعتهم الوجيه “عبدالله بن نصرالله” الذي لعب دوراً مهماً هو الآخر في التعامل مع هذه الأحداث ، وتفهم الملك الموضوع فقدم إلى المنطقة ونزل بالجبيل واستدعى أمير القطيف والشيخ (أبو عبدالكريم) وكل الموقعين وحاورهم وأمر بإسقاط كل الضرائب المتبقية للدولة على المواطنين .
وكذلك كان الحال في عامي (1349هـ/1350هـ) (1930 م/1931 م) عندما بادر الشيخ (أبو عبد الكريم) على رأس مجموعةٍ من الأعيان بالكتابة إلى الملك المؤسس لالتماس إسقاط بعض الزكوات المتخلفة، إذ كانت الأزمة الاقتصادية آخذةً بخناق العالم وكانت أسعار التمور واللؤلؤ، وهي المورد الوحيد للبلاد، منخفضةً إلى حدٍ بعيد ، فلما أراد الملك أن يجيبهم اختار “الزعيم” من بينهم، فكان نص الجواب:
“من عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل، إلى الشيخ علي بن حسن علي الخنيزي، وكافة أهالي القطيف. بعده، قد اطلعنا على العريضة المقدمة منكم المؤرخة 4 شوال سنة 1350 بشأن استرحامكم في خصوص الديون التي عليكم للمالية من بواقي الزكاة، نفيدكم أننا نظرنا لما شرحتموه، ورغبة في مساعدتكم وتسهيل أموركم، فقد أمرنا بالسماح عنكم في ديون الزكاة العائدة للسنتين “الماضية” التي قبل عام 1349 – 1350 وقدرها ثلاثة وعشرون ألفاً “ومايتين وسبع وستين” ربية (23267) أما بقية زكاة هذه السنة 1349 – 1350 فقد أمرنا أن تؤجل عليكم إلى حصول حاصلاتكم في 28 شوال سنة 1350هـ” .
واستمر التناغم بين ولاة الأمر والرعية فيما يلي ذلك من سنين على نفس المنوال، فينقل لنا أحد المصادر الأولية نص الرسالة التي انتدب بموجبها الشيخ (أبو عبد الكريم) الوجيه البارز علي بن حسن أبو السعود وفضيلة الشيخ محمد علي الجشي في عام (1354هـ/1935 م) للذهاب إلى الملك المؤسس لالتماس حل بعض المسائل الاقتصادية .
كان الملكُ المؤسس رجل دولةٍ استثنائياً من الطراز الأول، بل لقد وصفه عالم الاجتماع د.علي الوردي بأحد عباقرة التاريخ الحديث ، فلم يكن مفاجئاً ذلك الموقف الحازم والصارم الذي اتخذه تجاه زعماء “الإخوان” في ذلك الوقت. “الإخوان” هم مجموعةٌ من المقاتلين الذين شاركوا بفاعلية في حروب التوحيد، إلا أنهم كانوا من المغالين في الدين. لقد عقدوا مؤتمراً في “الأرطاوية” في عام (1344 هـ/1926 م) لتحديد مطالبهم “الدينية” والتي كان من ضمنها تحفظهم على استخدام السيارات والتلغرافات والتليفونات، و زيارة “لندن” بلد “الشرك”، وضرورة النظر في وضع أهل الأحساء والقطيف ودفعهم للدخول في “دين أهل السنة والجماعة” . نجم عن ضغوط “الإخوان” عقد مؤتمرٍ آخر انبثقت عنه نتائج كان من ضمنها توجيه الشيخ “ابن بشر” للسفر إلى القطيف لإلزام أهلها بترك “البدع” .
لقد سافر الشيخ ابن بشر بالفعل إلى القطيف فقام أمير القطيف يومئذٍ/ محمد بن عبد الرحمن بن سويلم رحمه الله بالدعوة إلى “مؤتمر الدرويشية” جامعاً كل أعيان وشخصيات القطيف من جميع مدنها وقراها بالإضافة إلى الشخصيات البارزة من السنة من أهل دارين ، وأم الساهك، وقبيلة بني خالد، وغيرها من قبائل البدو . هنا برز دور الشيخ (أبو عبد الكريم) من جديد. لقد كان يوم المؤتمر يوماً “حاشداً مشهوداً” تقدم أهل القطيف فيه الشيخ (أبو عبدالكريم) فجلس بجانب الشيخ ابن بشر. عندها بدأ النقاش بين الشيخين فوُفق الشيخ (أبو عبدالكريم) في المناقشة توفيقاً كثيراً، فقرر أمير القطيف على إثر ذلك فض الاجتماع ورفع تقريراً إلى الملك المؤسس بمجرياته.
غادر الشيخ ابن بشر القطيف فيما بعد فأرسل الشيخ (أبو عبدالكريم) خطاباً إلى الملك المؤسس يطلب بموجبه إعادة الأوضاع في القطيف إلى ما كانت عليه قبل ضغوط “الإخوان”، وحمل خطاب الشيخ إلى الملك وفدٌ مكونٌ من ثلاثة أشخاص هم: “محمد ابن حسين الفرج” زعيم العوامية وعمدتها ، وفضيلة الشيخ “منصور آل سيف” من تاروت، وأحمد بن حسن علي الخنيزي ، فاستجاب الملكُ لكل ما ورد في خطاب الشيخ (أبو عبدالكريم) استجابةً شاملةً أدخلت البهجة والفرح والسرور في قلوب جميع الأهالي .
تصدى الملك المؤسس للإخوان فيما بعد بكل صلابة وهزمهم في معاركه التي خاضها ضدهم، وكانت أبرزها معركة “روضة سبلة” التي حصلت في عام (1347هـ/1929 م) ، فلم تقم للإخوان بعد تلك المعارك قائمة، وأعلى الملك المؤسس بذلك من منطق الدولة ودحر منطق (الإيديولوجيا).
الدور القضائي:
تولى الشيخ (أبو عبد الكريم) منصب القضاء في عام (1323هـ/1905 م) ، أي منذ لحظة عودته من النجف الأشرف إلى القطيف، واستمر قاضياً لمدةٍ تقارب الأربعين سنة حتى وفاته في عام (1362هـ/1943 م) . لقد كان الشيخ (أبو عبد الكريم) القاضي الوحيد لعموم أبناء السنة والشيعة ، فلم يشاركه في القضاء أحدٌ سواه من إخوانه السنة أو الشيعة ، وكانت صلاحياته عامةً تشمل جميع أنواع القضايا المختلفة ، إلا أنه وفي عام (1344هـ/1926م)، تم تأسيس أول محكمةٍ سنيةٍ رسمية في القطيف وعُين قاضياً لها السيد إبراهيم من أهل دارين، فأصبح التقاضي حينها اختيارياً بين المحكمتين يحدده طرفا النزاع ، فإن شاءا توجها إلى الشيخ (أبو عبد الكريم) أو السيد إبراهيم، وكان الكثير من المتخاصمين يفضلون الذهاب إلى الشيخ (أبو عبد الكريم) لما عُرف عنه من عدالةٍ في الحكم، ورحابة صدر، وغض طرفٍ عن انفعالات المتخاصمين وزلات ألسنتهم، مما يحدث عادةً بين الخصوم .
يذكر الكثير من الأهالي، والسنة منهم خاصةً، بأن الشيخ (أبو عبد الكريم) كان “ملاذاً للجميع” رغم مجيء قضاةٍ سنةٍ حينها كالشيخ محمد عبد اللطيف والشيخ المغربي ، ويروي عددٌ من المصادر على سبيل المثال قصةً شهيرةً للشيخ (أبو عبد الكريم) مفادها بأنه نظر نزاعاً قضائياً دائراً بين أحد البداة وبين والده الحاج حسن علي الخنيزي، فأصدر الشيخ حكمه دون تردد لصالح البدوي بتجردٍ كامل وحرصٍ نادرٍ على تطبيق العدالة، فصار البدو يكبرون فيه “عظمة المبدأ”، مما دفعهم إلى اتباع قوله والتقاضي لديه لحل مشاكلهم ، كما ضرب لنا الكاتب “سعود الزيتون الخالدي” مثلاً إضافياً آخراً في هذا السياق، إذ أشار إلى نزاعٍ حصل لجده من أمه مع أحد أهالي القطيف، وبين الخالدي لجوء جده إلى الشيخ (أبو عبد الكريم) الذي حسم النزاع بإنصافٍ تام .
وبعد وفاة الشيخ (أبو عبد الكريم) في عام (1362هـ/1943 م) ، تقلصت صلاحيات القاضي، بل كاد القضاء الجعفري أن يُلغى تماماً لولا سعي الأهالي وأعيان القطيف لدى الجهات الرسمية، فتم تعيين الشيخ علي (أبو حسن) الخنيزي قاضياً للأوقاف والمواريث .
إن بالإمكان تقسيم مراحل عمل المحكمة الجعفرية عبر تاريخها الطويل إلى ثلاثة أطوار: طور الازدهار، وطور الضعف، وطور بوادر الإصلاح والنهوض. بدأ طور الازدهار بتولي الشيخ (أبو عبد الكريم) منصب القضاء وانتهى بوفاة الشيخ عبد الحميد الخنيزي (الخطي) . لقد كان الشيخ عبد الحميد آخر الزعماء الاجتماعيين البارزين الذين تولوا رئاسة المحكمة الجعفرية ، وعُرف بوصفه صاحب مهاراتٍ اجتماعيةٍ لافتة، فضلاً عن كونه شاعراً مبدعاً .
إلا أن طور الضعف في عمل المحكمة قد بدأ بوفاة الشيخ عبد الحميد، ونعني بـ”طور الضعف” أي تقلص صلاحيات المحكمة القضائية وتراجع تأثيرها الاجتماعي. فعلى الصعيد القضائي، تحولت المحكمة بعد وفاة الشيخ عبد الحميد إلى “دائرة” للأوقاف والمواريث ، وأما على الصعيد الاجتماعي، فلم يعد قاضي المحكمة هو الممثل “الأوحد” أو “شبه الأوحد” للمجتمع المحلي. لم يتمكن أيٌ ممن لحقوا الشيخ عبد الحميد في المنصب من سد الفراغ الاجتماعي الكبير الذي خلفه، كما لم يحظ أيٌ منهم بدعمٍ مجتمعيٍ واسع كالذي تمتع به، فضلاً عن بروز تيارات “الإسلام السياسي” التي ناصبتهم العداء (تسمي نفسها بـ”التيارات الإسلامية” كما لو أن الإسلام لم يكن موجوداً قبل نشوئها !)، وبلغ ضعفُ المحكمة أوجه باستعفاء القاضي الذي حل محل الشيخ عبد الحميد من منصبه “بناءً على طلبه” وذلك “لرغبته في التفرغ للبحث وتقديراً لظروفه الصحية” ، ليكون بذلك أول قاضٍ للمحكمة الجعفرية يتم استعفاؤه من قبل الجهات الرسمية .
نعرض فيما يلي أسماء القضاة الذين تتابعوا على المحكمة الجعفرية خلال “طور الازدهار” مع تبيان مدد خدمتهم:
الشيخ علي (أبو عبدالكريم) الخنيزي (1323هـ – 1362هـ) (1905 م – 1943 م): (39) سنة.
الشيخ علي (أبو حسن) الخنيزي (1362هـ – 1363 هـ) (1943 م – 1944 م): سنة واحدة و (9) شهور.
الشيخ محمد علي الخنيزي (1363هـ – 1367هـ) (1944 م – 1948 م): (4) سنوات.
الشيخ علي الجشي (1367هـ – 1376هـ) (1948 م – 1957 م): (9) سنوات.
الشيخ محمد صالح المبارك (1376هـ – 1396هـ) (1957 م – 1975 م): (19) سنة.
الشيخ عبدالحميد الخنيزي (الخطي) (1396هـ – 1422هـ) (1975 م – 2001 م): (26) سنة.
نود أن نختتم هذه الفقرة بالإشارة إلى طورٍ جديدٍ آخذٍ في التشكل أسميناه آنفاً بـ”طور بوادر الإصلاح والنهوض”، حيث تم مؤخراً تعيين الأستاذ/ كامل الشيخ عبد الحميد الخنيزي (الخطي) كمستشارٍ إداريٍ أعلى لدائرة الأوقاف والمواريث (المحكمة الجعفرية) ، وهنالك مؤشراتٌ أوليةٌ مبشرة تدل على بدء تدفق الدماء في عروق المحكمة الجافة، وإن المجتمع المحلي ليتطلعُ إلى أن يأخذ هذا الطور الواعد كفايته من الوقت، وأن تبلغ هذه التجربة مداها حتى تنضج، لتعود المحكمة كما كانت عليه في عهودها الغابرة: جهازاً قضائياً/اجتماعياً/سياسياً فاعلاً يبت في القضايا القانونية، ويحسم الخلافات الاجتماعية، ويساهم في تحقيق الاستقرار السياسي ومعالجة القضايا العامة، وذلك بنفسٍ وطنيٍ مخلصٍ صادق همه الأوحد مصلحة الوطن الكبير.
وثيقةٌ تُنشر للمرة الأولى:
هذه الوثيقة هي عبارة عن مذكرة مكتوبة بخط اليد، ومذيلة بتوقيع مشاري بن ماضي رحمه الله، أمير القطيف آنذاك، وموجهة إلى الشيخ علي (أبو حسن) الخنيزي، يبلغه فيها الأمير بصدور الموافقة بتعيينه قاضياً بعد وفاة الشيخ علي (أبو عبد الكريم) الخنيزي، وذلك بشرطٍ واحدٍ وهو ألا ينظر الشيخ (أبو حسن) في شيء غير الذي عليه الشيخ (أبو عبد الكريم). إن هذه الوثيقة هي دلالةٌ واضحةٌ على الثقة والاحترام الشديدين اللذين كانت تبديهما الجهات الرسمية تجاه الأحكام القضائية للشيخ (أبو عبد الكريم).
نص الوثيقة:
(الشيخ علي بن حسن
مساء الخير اخبرو نيابة عنا الشيخ علي أبو حسن بانه حصلت الموافقة على تعيينه قاضياً بدلاً من الشيخ أبو عبدالكريم بشرط انه لا ينظر في شيء غير الذي عليه ابو عبدالكريم وسنبلغه بواسطة الهيئة المختصة، مشاري)
الدور الديني:
تمتعت القطيف في تلك الحقبة بحركةٍ علميةٍ دينيةٍ لافتة قل نظيرها فيما يليها من السنين ساهمت في إثراء الوضع الثقافي والفكري، وإن كان ذلك الإثراء مقصوراً على الحقل الديني بالدرجة الأولى. لقد سافر الشيخ (أبو عبدالكريم) إلى النجف الأشرف طلباً للعلم الديني في عام (1308هـ/1891 م)، وتتلمذ هنالك على يد أكبر مراجع الشيعة في ذلك العصر ، ليرجع إلى بلده في عام (1323هـ/1905م) محملاً بإجازات الاجتهاد، وليكون أول العلماء المجتهدين العائدين إلى أرض الوطن ، تلاه الشيخ عبدالله بن معتوق في عام (1327هـ/1909 م) ، فالسيد ماجد العوامي في عام (1328هـ/1910 م) ، وأخيراً الشيخ علي (أبو حسن) الخنيزي في عام (1329هـ/1911 م) .
نوردُ أدناه أسماء العلماء المجتهدين آنئذٍ وعدد إجازات الاجتهاد التي حاز عليها كل واحدٍ منهم وذلك بناءً على المصادر الأولية الموضحة في الهامش:
الشيخ علي (أبو عبدالكريم) الخنيزي: (5) إجازات اجتهاد .
الشيخ عبدالله بن معتوق: (5) إجازات اجتهاد .
السيد ماجد العوامي: (4) إجازات اجتهاد .
الشيخ علي (أبو حسن) الخنيزي: (4) إجازات اجتهاد .
لقد كان جميع هؤلاء العلماء المجتهدين، ومن ضمنهم الشيخ (أبو عبد الكريم)، ملجأً للمقلدين في القطيف، فلا تفاضل ولا تمايز بين بعضهم البعض في المجال الديني إلا بالتقوى، مثلهم في ذلك كمثل مراجع الشيعة في النجف الأشرف في عصرنا الحالي . إن الآمال معقودةٌ بأن يرجع نشاط الحركة العلمية الدينية في القطيف ليضاهي ما كان عليه في ذلك الزمان، فلقد أثبتت التجربة سالفة الذكر بأن إنتاج علماء دينٍ مجتهدين “محليين” قد شكل إضافةً مهمةً للحياة الدينية، بل والاجتماعية، في القطيف .
نقول ذلك ونحن نحذر في الوقت ذاته طلبة العلوم الدينية من اجترار تجربةٍ دينيةٍ مريرة عاشتها القطيف في الماضي “القريب”، إذ قرر بعض طلبة العلوم الدينية الابتعاد عن مجال تخصصهم الأصيل في دراسة فقه العبادات والمعاملات، وتعليم الناس شؤون دينهم، وانخرطوا في جماعاتٍ سياسيةٍ ترتدي رداء الدين، والدين منها براء، زاعمين أو واهمين بأنهم إنما يسعون إلى إصلاح الشأن العام، وكانت النتيجةُ بأن دهاليز المعترك العام قد أفسدتهم دون أن يصلحوا منه شيئاً !
مسك الختام:
ما أشبه اليوم بالبارحة ! لقد تعرضت القطيف لأحداثٍ مؤسفةٍ ومؤلمة بدأت بالتزامن مع ما يسمى بـ”الربيع العربي” المشؤوم في عام (1432هـ/2011 م)، واستعرت نيرانها في عام (1433هـ/2012 م)، لتنتهي عملياً، ولله الحمد، في عام (1438هـ/2017 م). تسببت تلك الأحداث في استشهاد عددٍ من المدنيين الأبرياء ورجال الأمن البسطاء والشرفاء، كما نجم عنها تدهور سمعة القطيف، وتعطل قطاع الأعمال، وبروز الحساسيات المذهبية والاجتماعية.
وكأننا ونحن نستذكر تلك الأحداث نسترجع نظيرتها التي حصلت في عام (1348هـ/1930 م) والتي سبق وأن تحدثنا عنها في هذا البحث. صحيحٌ أن أحداث (1348هـ/1930 م) كانت ناتجةً عن ظروفٍ اقتصاديةٍ صرفة في حين أن الأحداث الأخيرة كانت مدفوعةً بأجنداتٍ سياسيةٍ غير بريئة، وصحيحٌ أيضاً بأن الأحداث الأولى كانت أحداثاً داخلية بحتة خلافاً للأحداث الأخيرة التي شُجعت من قبل ماكينةٍ إعلاميةٍ خارجيةٍ بغيضة أرادت أن تزيد من اشتعالها اشتعالاً، إلا أن الفارق الجوهري بين تلك وهذه كان جلياً واضحاً لا يفوت على القارىء الحصيف: الحضور الفاعل للقوى الاجتماعية المحلية وعلى رأسها “زعيمها” الشيخ (أبو عبد الكريم) في الأحداث الأولى، والفشل التام، بل الغياب الكامل، لنظيرتها من القوى في الأحداث الأخيرة.
لقد أعلن سمو ولي العهد حفظه الله ورعاه على رؤوس الأشهاد بأننا “لن نضيع 30 سنة من حياتنا في التعامل مع أفكار متطرفة .. سوف ندمرهم اليوم وفوراً” معلناً بذلك انتصاره لمنطق الدولة، ومحاربته لمنطق (الإيديولوجيا)، وسيره على خطى جده الملك المؤسس. إنها معركة “روضة سبلة” القرن الحادي والعشرين يخوض غمارها أشبه أحفاد الملك المؤسس به، وتحت رعايةٍ كريمة من لدن والده خادم الحرمين الشريفين حفظه الله ورعاه. إن يد أشبه أحفاد الملك المؤسس به ممدودةٌ لأبناء القطيف ولغيرهم من أبناء المملكة، وإن القطيف لفي أمس الحاجة اليوم لزخمٍ اجتماعيٍ جديد. زخمٌ مخلصٌ لوطنه، فخورٌ بانتماءاته، حريصٌ على التفاعل مع مكونات الوطن الأخرى، يجرف معه أي مثيرٍ للفتنة وأي ساعٍ لضرب السلم الأهلي.
وحتى نصل إلى ذلك الزخم الاجتماعي المنشود، فإن علينا أن “نستنسخ” قناعات الشيخ (أبو عبد الكريم) ومن عاضده من الأعيان، وأن نتقفى أثره وأن نتتبع سيرته، وأن نتأمل نهجه في التفكير.
عندها ستتلاقى الإرادتان قطعاً، وستتصافح اليدان قطعاً، تماماً كما تشابكت يدا الملك المؤسس و “زعيم القطيف” حينها من أجل الوطن.