رأوا أنّ الصين قد يتحتّم عليها عند لحظة بعينها تقتضيها أوضاع القطبيّة الدوليّة أن تستخدم أدوات لردع القطب القائم، والذي هيمن على مقدَّرات الساحة الدوليّة بمفرده منذ أن سقط الاتّحاد السوفيتيّ في نهاية ثمانينيّات القرن الماضي، واستعلان أميركا لما أُطلِقَ عليه النظام العالميّ الجديد.

في ذلك الوقت، كانت هناك حيرة لجهة تحديد أيّ اتّجاه سوف تسلكه بكين، القوّة العسكرية والقدرات النوويّة، أم العمل بهدوء وتؤدة للوصول إلى نقطة تفوق اقتصاديّة، بمعنى أن يتجاوز الردع النقديّ لبكين، قدراتها النوويّة والعاجزة بطبيعة الحقائق عن مضاهاة أو مجاراة نظيرتها الأميركيّة.

في الأيّام القليلة الماضية، فاجأت الصين العالم بأنها تستعدّ لردع الولايات المتّحدة الأميركيّة على الصعيدَيْن النوويّ والنقديّ. ما الذي جرت به المقادير؟

لتكن البداية من عند الخبر الذي يمكنه إرباك اقتصادات العالم حال تحقُّقه، والمتعلّق بتخفيض بكين لما تحوزه من سندات خزانة أميركيّة تصل إلى 1.1 تريليون دولار، إلى مبلغ 800 مليار دولار، ثمّ يمكن للصين أن تتخلّص ممّا تملكه لاحقًا دفعة واحدة حال الاشتباك العسكريّ الكامل والمتوقَّع على سبيل المثال في منطقةٍ مثل بحر الصين الجنوبيّ.

يستحقّ المشهد تفكيك الاقتصاد من براثن السياسة والإشارة بداية لمن ليس لهم دالة على علوم الاقتصاد الإشارة إلى ما هي سندات الخزانة الأميركية بادئ ذي بدء.

باختصار غير مخلّ، السندات الأميركية هي أوراق ماليّة قابلة للتحويل مثل الأسهم، تصدرها وزارة الخزانة الأميركيّة عن طريق مكتب الدَّيْن العام.

وعادة ما تُقبل دول العالم على استثمار فوائضها الماليّة فيها لأنّها منخفضة المخاطر، ومضمونة من بنك الحكومة الأميركيّة، ويمكن تحويلها إلى سيولة بشكل سريع عند الحاجة.

لماذا خرجت صحيفة “جلوبال تايمز” الصينيّة، القريبة والمدعومة من الحزب الشيوعيّ الصينيّ بهذه الأخبار في هذا التوقيت؟

لا يوفّر المرء في تحليله وقراءاته أنّ هناك حالة عداء جذريّة قائمة بين الصين وبين الرئيس ترامب، الرجل الذي حمل على الصينيّين من قبل أن يدخل البيت الأبيض، واتّهاماته لهم معروفة، وتتمحور حول الأضرار المتعمَّدة بالاقتصاد الأميركيّ.

لم يكن مثيرًا مؤخّرًا أن يجاهر ترامب بالقول إنّ الصينيّين سوف يفعلون أي شيء من أجل قطع الطريق على ترامب للبقاء في البيت الأبيض لأربع سنوات أخر. وعليه، يبقى التساؤل: “هل نحن أمام مناورة كلاميّة صينية فقط لتخفيض تلك الاستثمارات، لا سيّما وأنّ الصين سيصيبها خلل بالغ لأن اقتصادها مرتبط بالدولار الأميركيّ، ولأنّها تحوز احتياطيّات أجنبيّة من الدولار تقترب من 3.2 تريليون دولار؟

يبقى هذا الاحتمال حاضرا على طاولة النقاش، غير أنّ هناك حقيقة أخرى مرتبطة بالاقتصاد الأميركيّ، وهي الاهتزازات الحقيقية التي تعرّض لها مؤخّرًا، لا سيّما بعد تفشّي فيروس كوفيد–19، الفيروس الذي يؤمن ترامب أنّه صينيّ، وأنّه بطريقة أو بأخرى أدّى إلى ضياع مكتسبات أميركا الاقتصاديّة في العقود الأربعة الأخيرة.

ليس خافيًا أو سرًّا أنّ هناك احتمالات كبيرة لتعثُّر أميركيّ اقتصاديّ، فقد ارتفع الدين العامّ الأميركيّ إلى نحو 22 تريليون دولار، أي إلى قرابة حجم الناتج المحلّيّ الإجماليّ الأميركيّ، وهو مستوى غير مسبوق منذ الحرب العالميّة الثانية، ويفوق بكثير خطّ الأمان المعترَف به دوليًّا عند 60%.

هل على العالم أن يقلق من جرّاء الصدام الأميركيّ الصينيّ الاقتصاديّ أن جرت به المقادير؟

باختصار غير مُخِلّ، لا تزال الولايات المتّحدة الأميركية هي قاطرة الاقتصاد العالميّ، ويبقى الدولار هو سائق القاطرة، وعليه فإنّه حال أي تحوّل جذريّ في سوق سندات الخزانة الأميركيّة، مثل بيع الصين احتياطيّاتها منها، فإنّ اسعار تلك السندات ستهوي، ما سيؤدّي إلى ارتفاع العوائد التي تتحرّك عكس اتجاه الأسعار، الأمر الذي سيتسبّب في زيادة تكاليف الاقتراض بالنسبة للحكومة الأميركيّة، لترتفع تلقائيًّا أسعار الفائدة في شتّى الأصول من سندات الشركات إلى الرهون العقاريّة لأصحاب المنازل، والمحصّلة النهائيّة هي ضعف ثقة المستثمرين عالميًّا في الدولار باعتباره عملة الاحتياطيّ الرئيسيّة في العالم.

للمرء أن يتخيّل ما الذي يمكن أن يصيب أسواق البورصة العالميّة، وعالم النفط وأسعاره، ومضاربات الذهب وأوضاعها، أي اختلال كامل وشامل وزلزال لن ينجو منه أحد.

ضمن خطط الدرع النقديّ الصينيّ تجاه واشنطن التخطيط في إطار منظمة البريكس بين بكين وموسكو على إنهاء التعامل بالدولار، ما قد يغري الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا لاحقًا، وساعتها سيكون الردع النقدي الصيني كارثي لواشنطن .

ولعلّه من المثير أن التنين الصينيّ وهو يرسم ملامح ومعالم المواجهة المحتملة مع النسر الأميركيّ، لا تغفل الاهتمام بالردع النوويّ أيضًا وإن كان في بداية مرحلة قد تطول.

أوائل سبتمبر الحالي كانت وزارة الدفاع الأميركيّة البنتاغون يرفع تقريره السنويّ إلى الكونجرس الأميركيّ، وضمن الكثير الذي جاء فيه حديث الردع النوويّ الصينيّ، فللمرة الأولى تُميط واشنطن اللثام عن عدد ما لدى الصين من ترسانة نوويّة تزيد قليلا عن مائتس رأس نووية.

على الرغم من ذلك، يرى اتّحاد العلماء الأميركيّين أنّ الصين لديها نحو 320 رأسًا نوويًّا، وسط توقُّعات برفع العدد إلى ما لا يقلّ عن المثلين في السنوات العشر المُقبلة.

عطفًا على ذلك، يحذّر الاتّحاد عينه من أنّه إذا نجحت الصين في تطوير قدراتها في صناعة الصواريخ النوويّة، فإنّها حتمًا ستقترب من القدرة على شنّ ضربات نوويّة وجوّيّة وبحريّة ضدّ الأعداء، وفي المقدمة منهم واشنطن جهرًا، وربّما موسكو سرًّا.

أمّا صحيفة “جلوبال تايمز” السابق الإشارة إليها، فتكشف عن شهوة قلب الصين في امتلاك ألف رأس نوويّ خلال فترة زمنيّة قصيرة.

هل تفتقد واشنطن اليوم “هنري كيسنجر” آخر قادرًا على بناء تحالف روسيّ-أميركيّ، في مواجهة الصين، كما فعل في أوائل السبعينيّات عندما سعى إلى بكين سعيًا حثيثًا في محاولة لاختصام موسكو في زمن المدّ الشيوعيّ العالميّ؟

الحاصل أنّ أميركا مشغولة إلى أذنَيْها في فتن الديمقراطيّين لقطع الطريق على ترامب، فيما الصينيّون على الأبواب، وفي هذا حديث الكارثة لا الحادثة على مستقبل الإمبراطوريّة الأميركية أمس واليوم وغدًا.