أندلس مفقود أو كنز منسي..؟!
الجزر الخالدات
إن جزر الكناري أو كما يطلق عليها عبر عدّة تسميات من بينها الجزر الخالدات، الجزائر الخالدات، جزائر السعادة أو جزائر السعادات هي أرخبيل جزر تابعة لمملكة إسبانيا وتقع في قلب المحيط الأطلسي مشرئبة صوب الشاطئ الغربي للقارة السمراء حيث الصحراء المغربية ومدينة العيون الحالمة على رمال صحرائها الكبرى. تنطوي هذه الجزر تحت لواء إسبانيا وهي ضمن سبع عشرة منطقة حكم ذاتي فيها، وتنقسم المنطقة الواقعة عليها إلى مقاطعتين هما لاس بالماس وسانتا كروث دي تينيريفه.
تتشكل جزر الكناري الخالدات من الجُزُر التالية (مرتبة حسب الحجم) تينيريفه، فويرتيفنتورا وكناريا الكبرى لانزاروت ولا بالما وكوماراو والهير ولا غراثيوسا. هناك رواية تقول إن الاسم قد اشتُق الوحدة السيميائية اللاتينية Canariae Insulae والذي يعني “جزر الكلاب” وأطلق هذا الاسم على أكبر الجزر “غران كناريا / كناريا الكبرى” ووفقاً للمؤرخ بلينيوس الأكبر، أن الملك يوبا الثاني ملك موريطنية قد أطلق على هذه الجزيرة اسم كناريا، على حد قوله بسبب تواجد أعداد عظيمة من الكلاب ذات الأحجام الكبيرة.
بيد أن هناك ثمّة تكهّنات متباينة ومختلفة مفادها أن ما سمّي بالكلاب في هذا المصطلح كان في الواقع يقصد به “كلب البحر” حيث إن الاسم اللاتيني لكلب البحر هو canis marinus وكانت كلاب البحر وقتذاك – حسب الرواية – مهددة بالخطر ولم يعد لها أدنى أثر في جزر الكناري؛ ومن ثمّة نجد رواية بديلة تحكي أن السكان الأصليين للجزيرة وهم من الـ”غوانش” ذوي الأصول الأمازيغيّة، قد قدّسوا الكلاب وحنّطوها وعاملوها كحيواناتٍ مؤلهة. والشيء المؤكد في هذا الصدد على أيّة حال هو أن اسم هذه الجُزر لم يُشتق، حسب الاعتقاد الشعبيّ، من اسم طائر الكنار؛ بل العكس وهو أن الطائر سمي على اسم الجزر. والموضوع يحتاج في رأيي لبحث أعمق من قبل علماء اللسانيات والتاريخ.
جزيرة قران كناريا.. فاكهة ربانيّة على فنن الجنان الأمازيغي
لقد شددت الرّحال إلى جزر السعادة يا سادتي قادمًا من ألمانيا عبر مدينة زيورخ بسويسرا، حيث أقلتني الطائرة إليها طيّ الإجازة وعلى بساط ريح الهروب من السيدة كورونا فانتهزت سانحة السفر لا ألوي على شيء إلى أن تطأ قدامي أرض هذه البقعة التي هي ودون أدنى شك من أروع بقاع العالم على الإطلاق. يا لحظ إسبانيا بما تتضمنه من بهاء لاحتوائها لهذه المجموعة من جزر الخلود الرائعة والسعادة الفائقة.
تعتبر غران كناريا ثالث أكبر جزيرة بها، وتنبسط على أديمها الكثبان الرملية الآتية عبر ريح يسمّى “كلمة أو بالإسبانيّة لا كليما” وتعكس هذه المفردة الأصل السامي لها، وكما نجد بها من التلال والجروف المذهلة التي تمتد إلى ما لا نهاية، فضلا عن الشواطئ الرائعة، يا إلهي، فساحرة الكناري، غانية السفاري، باهرة النهار وسلطانة الحواري، بركانية في تكوينها، تارة زمرديّة في سحنتها، وتارة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ومن ثمّة خضراء مستبرقة، أو يابسة وحتى في بعض المناطق سندسية، ذلك على حد سواء، إذ تتدرج بدلالها تمشي الهوينا كما يمشي الوحي الوجل من شمال مخضر إلى جنوب يابس وماتع بتلاله وجروفه الحمراء المحفوفة ببعض من مزيج انصهار البراكين، وكأن صانع الحلي قد امتدت يداه إلى عنقها لتصوغ عليه عقدًا فريدًا، وها هي ذا ماثلة بسحر أديهما اللؤلؤيّ مزملة برونق محيطها المائيّ الجبار وممزوجة هنا وهناك بألوان القزح وسمرة إفريقيا الممتدة إلى الأعماق تناجي العيون وأصالة أهل المغرب بالجهة المقابلة. جدير بالذكر أن سفن البحار كرستوفر كولمبس قد أحطت بها لتتزود بالعتاد ومنذ ذلك الحين فهي ورغم قربها فهي بعيدة قريبة، من الشاطئ الإفريقيّ الغربيّ، مقابلة بجمالها وسحر عينيها المغرب وصحرائه البهيّة، مناجية إيّاه، ومنادية أمّها إفريقيا في تؤدة وابتهال وبعد طول انفصال ونأي وامتثال، لتقول في بهاء الكلم والإجلال: أضحى التنائي بديلا عن تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا.
ولادة هي في الاستكفاء والتهجد صوب الأصل ونحن وإفريقيا – الأم الرؤوم – ننتظر يوم الوعد والميعاد وساعة اللقاء والاستيعاد.
حديثي مع صديقي الصحفي ابن المغرب:
تحدثت إلى صديقي الصحفي والأديب الجميل عبد الحيّ كريط قائلا له، أراني الآن بجزر الكناري ولم أستحضر في تلك اللحظة الاسم العربي لها (الجزر الخالدات)، فقلت له إنني أقرأ هذه الأيام رواية رائعة للكاتب المغربي عبد الإله بن عرفة (ابن الخطيب في روضة طه).
فأجابني بعد أن تجاذبنا أطراف الحديث عنها قائلا: سوف أرسل لك مقالا عن شاعر معروف، من أب لبناني وأمّ كناريّة، (مسترسلا) رغم أنني لي تحفظ تجاهه، لأنه لم يشر إلى ارتباط الجزر بالثقافة الأمازيغية المغربية والذي أعرفه أنه حتى أسماء العديد من مدن جزر الخالدات هي أسماء أمازيغية صرفة وحورت باللسان الإيبيريّ الذي مزج بين اللسانين وهذا لا يعني أنه لا يوجد تأثير عربي أو أمازيغيّ بالجزر، لكن كان على الشاعر أن يزور بلاد المغرب حيث إنه لا يبعد سوى كيلومترات قليلة عن الجزر الواقعة جنوب أقصاه؛ لأن جزر الكناري لسانها وثقافتها أمازيغية ووجدانها عربي إسلامي وهواها إسباني أندلسي أنها مثل أغنية las morillas de Jaén فتيات جيان المسلمات المعروفة أيضا بأغنية عائشة فاطمة مريم وهي من التراث الأندلسي الإيبيريّ والشاعر والكاتب المسرحي الإسباني الراحل فيدريكو لوركا استلهم هذه الأغنية ووظفها في أعماله الأدبية، من أشهرها عرس الدم Bodas de sangre وكنت قد كتبت مقالا تحليليا حول هذه الرواية من زاوية تاريخية وآنية منذ مدة.
أندلس أم أندلسات مفقودة؟
واصلت في نقاشي مع صديقي الأديب عبد الحي كريط وأخبرته أنني عندما أحوم وأعوم وأروم بأحياء هذه الجزيرة وأرى أهلها وعمارتها أستذكر الأندلس المفقود وأهله وقسماته وكما أسلفت ذكره أن قراءتي الأخيرة لرواية ابن الخطيب في روضة طه والتي سطرها يراع المبدع عبد الإله بن طرفة كانت بالنسبة لي رسالة قمّة في الأدب الرفيع ومرافعة من العيار الثقيل تتضمن في فحواها الرجوع إلى الموروث الأندلسيّ ذاك الذي فقدته الأمّة العربية ومن ثمّة أن نستخلص في هذا العصر وبكل تؤدة وحكمة مدى عمق المشاركة العربية أو لنقل الشرقيّة في المنظومة العالمية والإنسانيّة على الإطلاق ذلك في تطور العلوم والنهوض برواسي عصر النهضة الأوروبيّ، لقد بثّها بن طرفة عبر رسالة شيّقة ماتعة تحمل سيرة وحياة العلامة لسان الدين بن الخطيب، وقد بلغ بها قمّة اليراع وقلب المتاع، إذ بلورت لنا وبوضوح وبلاغة خارقة للعادة جمال اللسان العربيّ وقوة المعاني فيه فضلا عن غزارة مفرداته وتباين درره بشكلها الدقيق والصائب في ضبط المقاصد وبلوغ الغايات؛ حقيقة يا سادتي لقد جعلتني هذه الرواية أقف وأتعرف عن كثبٍ على شخصية تاريخية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ، فقد أجاد بن طرفة وصفها بأجمل الأوصاف وأدق الأعراف معبّرًا عن ذلك حينما قال: (بأنه أمير البيان ولسان العربية الناطق بلا منازع فهو وزير نافذ الكلمة، وطبيب، ومؤرخ، وشاهد عيان وسياسي محنّك وفيلسوف بصير وصوفي عاشق).
وأجد بين هذا وذاك رسالة ضمنيّة أخرى وهي يا سادتي شديدة الأهميّة وقد جعلتني أسائل نفسي بكل صدق، وأنا أسيح وأحوم هائما غائما بين الأدب والصحافة والسياسية، أن الأدب والسياسة إذا ما اجتمعا عند أحد منّا، فإن أحدهما قادر أن يمحي الآخر دون أدنى شكّ، فهما في تكوينيهما دون أدنى شكّ نقيضان، أحدهما فاصح وصريح والآخر غامض وملتوٍ، فإذا ما اشتد جأش أحدهما قضى على الآخر وأهلكه دون رجعة ولله في علومه شؤون.
لقد أعجبتني كلمات بن طرفة التي نثرها طيّ أحداث الرواية وعندما آلت هذه الأخيرة إلى نهاياتها وكيف قصّ علينا حياة هذا الرجل المقدام، والعالم الهمام وکيف جارت به الأيام والأحداث وطفقت حاشيته التي كان هو سندها الوحيد أن تنصب له الأشراك وتكيد له المكائد، حتى قبع أشعث أغبر بغياهب السجن في وحدة ووحشة إلا من إيمان راسخ بخالقه وبعمله الذي كشف له حجاب المعرفة حتى بلغ نور الزيتونة الربانيّة.
تراءت له ساعتئذ أهوال يوم الحشر وساعة الصفر حيث صور لنا هذا المشهد الرباني بأروع وصف وأبجل تمثيل وكأنه عاش لحظاته تلك بحق وحقيقة. بلغ في تلك الأوصاف يراعا قلّ أن نجده في هذا الزمن وكم نروم أن نعود إلى كل جملة فيها لنرى سحرها الأخاذ وبلاغتها المتناهية. على كل فإن رؤيتي لبعض الوجوه من بين أهالي الجزر الخالدات أوحت لي بالقرب العميق إلى المغرب العربي الذي هو قاب قوسين أو أدنى منها وهاهي ذا الصحراء الغربية تبعث رسائلها لهذه الجزر الخالدات على شاكلة رمال إفريقيّة تذكّر أهل الجزيرة بجذورهم الشرقيّة الأمازيغيّة المغربيّة وتحطّ تلك الرمال على الساحل الشرقي من جزيرة الكناري الكبيرة (غراند كناري) وتظل شاهدًا كما قسمات أولئك الرجال والنسوة والأطفال الذين تتضمنهم أن أصولهم من هناك، جاؤوا إلى الجزيرة من قلب إفريقيا النابض، حاملين حضارتهم ولغتهم وآمالهم إليها لكن ماذا حدث؟ هل قضى الإسبان على أغلبيتهم كما قضوا على كل الشعوب الأخرى بأميركا اللاتينية عبر حروب صليبية أم كما فعلت الحروب والغارات التي أشعلوها على الموريسك والعرب عند نهاية دولة الأندلس. هذه الأحداث المريرة تذكرني برواية رضوى عاشور ثلاثيّة غرناطة كما وتذكرني أيضا بقصيدة رئيس وزراء السودان السابق محمد أحمد المحجوب: الأندلس المفقود.
نزلتُ شَطكِ، بعدَ البينِ ولهانا ٭ فذقتُ فيكِ من التبريحِ ألوانا
وسِرتُ فيكِ، غريباً ضلَّ سامرُهُ ٭ داراً وشوْقاً وأحباباً وإخوانا
فلا اللسانُ لسانُ العُرْب نَعْرِفُهُ ٭ ولا الزمانُ كما كنّا وما كانا
ولا الخمائلُ تُشْجينا بلابِلُها ٭ ولا النخيلُ، سقاهُ الطَّلُّ، يلقانا
ولا المساجدُ يسعى في مآذِنِها ٭ مع العشيّاتِ صوتُ اللهِ رَيّانا
كم فارسٍ فيكِ أوْفى المجدَ شرعتَهُ ٭ وأوردَ الخيلَ ودياناً وشطآنا
وشاد للعُرْبِ أمجاداً مؤثّلةً ٭ دانتْ لسطوتِهِ الدنيا وما دَانا
وهَلْهلَ الشعرَ، زفزافاً مقَاطِعُهُ ٭ وفجّرَ الروضَ أطيافاً وألحانا
يسعى إلى اللهِ في محرابِهِ وَرِعاً ٭ وللجمالِ يَمدُّ الروحَ قُربانا
لمَ يَبقَ منكِ: سوى ذكرى تُؤرّقُنا ٭ وغيرُ دارِ هوىً أصْغتْ لنجوانا
خلاصة
خلاصة القول إن عبد الإله بن عرفة وقصيدة المحجوب ورواية رضوى عاشور هي بدون شك من التحف العربية المعاصرة القليلة التي ينبغي أن نعتز بها إن وقعت على أيدينا ونفتخر بأننا قرأناها لأنها تذكرنا بإرث تاريخيّ هام وتدفعنا إلى أن نستذكر أندلس مفقودا أو قل أندلسات أخرى مفقودة أو ربما كنوز منسيّة كما الجزر الخالدات، أو كجزيرتي سبتة ومليليه. وما كنت أحسب أن أهل الأندلس قد ارتبطوا بتلك الأماكن هذا الارتباط الوثيق.
شيء مدهش حقًا أن نرى التاريخ أمام أعيننا ولا نحرك ساكنا. حقيقة عند زيارتي للجزر الخالدات ظلّ قلبي يدمع ويبكي ويروي مستذكرًا قصة ولادة بن المستكفي وابن زيدون في رحاب حبّ لم يشأ له أن يحيا أو حتى أن يكون ثم تأججت نار الوجد بفؤادي ولظى الألم في نفسي ومن ثمّة طافت بي الذِّكر وسحب الماضي وحلقت بي كما تحلق بالكوارث أمواج السونامي طي طوفان الرحيل وبساط البكاء خلف القصور الدامعة مع هجعة شمس الغروب إلى مأواها الأخير، فقلت:
أضحى التنائي بعيدًا عن تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا