واشنطن في القطب الشمالي | مركز سمت للدراسات

هل تتجه واشنطن لمنافسة بكين وموسكو بالقطب الشمالي؟

التاريخ والوقت : الثلاثاء, 4 أغسطس 2020

ريان بورك وجهارا ماتيسك

 

اكتسبت المناطق القطبية (القطب الشمالي وأنتاركتيكا) أهمية كبيرة بفضل التغيرات المناخية التي جعلتها ساحة للتنافس الدولي بين القوى الكبرى، نظرًا لما تحتويه من مصادر للتعدين والطاقة كالنفط والغاز الطبيعي، كما أنها ستكون بمثابة ممر جديد أمام النقل البحري لجميع دول العالم.

وفي هذا الإطار، سعت كل من الصين وروسيا للاستفادة من المناطق القطبية، بوضع استراتيجيات أحادية وأخرى تعاونية، فضلًا عن تطوير علاقاتهما بالدول المحيطة بالقطب الشمالي. ناهيك عن قيامهما بإطلاق عدد من التجارب للبحث والتنقيب في القطب الشمالي والجنوبي، بينما تنشغل الولايات المتحدة بمصالحها في آسيا وأوروبا على حساب المناطق القطبية (القطب الشمالي وأنتاركتيكا) والتي سيطرت عليها الطموحات التوسعية لكل من بكين وموسكو، لأنها ستكون البوابة الرئيسية للاقتصاد العالمي خلال العقود المقبلة.

وانطلاقًا من هذا، استعرض “ريان بورك” و”جهارا ماتيسك” في دراستهما المعنونة “المحور القطبي الأمريكي: السعي لميزة تنافسية في مواجهة القوى العظمى”، أهم الإجراءات والاستراتيجيات الواجب على الولايات المتحدة اتخاذها لتأمين مصالحها في المناطق القطبية، وذلك بإنشاء “محور قطبي أمريكي” يعتمد بشكل أساسي على استغلال القدرات العسكرية الأمريكية، مع ضرورة بناء شبكة من التحالفات القوية مع دول الجوار الجغرافي المباشر للقطب الشمالي، لردع ومواجهة الخطط التوسعية للصين وروسيا.

مصالح متباينة

على عكس ما يتنبأ به عديد من علماء السياسة البارزين، يرى الكاتبان أن المنافسة المقبلة بين القوى العظمى لن تكون في بحر الصين الجنوبي أو أوروربا الشرقية، بل ستكون في المناطق القطبية (القطب الشمالي وأنتاركتيكا) نتيجة لتعارض المصالح بين القوى الدولية الكبرى.

ففي الوقت الذي ركّزت فيه الولايات المتحدة على التنافس التكنولوجي، وتطوير الأسلحة، وتوسيع نطاق تقاسم الأعباء، فضلًا عن انشغالها بالعمليات القتالية في الشرق الأوسط وإفريقيا، ورغبتها في إعادة التوازن الاستراتيجي إلى مناطق آسيا والمحيط الهادئ لردع النفوذ الصيني، مع محاولاتها الرامية لردع النفوذ الروسي في أوروبا؛ تمكنت كل من بكين وموسكو من الوصول إلى المناطق القطبية بشتى الوسائل، للاستفادة من مواردها وموقعها المتميز للملاحة الدولية.

وتُشير الدراسة إلى قيام الصين ببناء أول كاسحة جليدية تعمل بالطاقة النووية في القطب الشمالي، ونشرت سربًا من الطائرات في القطب الجنوبي، كما أرسلت أسطولًا من قوارب الصيد إلى أنتاركتيكا لاستغلال الموارد البيولوجية فيها. فضلًا عن إصدارها وثيقة “سياسة الكتاب الأبيض” التي أكدت فيها أهمية حماية البيئة، ودعم الحوكمة وأسس البحث العلمي في المناطق القطبية.

ومن ثمّ شرعت في وصف نفسها بأنها “دولة شبه قطبية شمالية”، لتضفي الشرعية على ممارستها في القطب الشمالي، مما يجعلها محورًا قائمًا على فكرة القرب الجغرافي، بالرغم من ابتعاد الصين عن المنطقة بمسافة لا تقل عن 1600 كم. وفي يناير 2018، أعلنت عن طموحها لإقامة طريق “الحرير القطبي”، فوقّعت على عدة صفقات مع روسيا، ركزت جميعها على ضرورة التنمية المتكاملة للمناطق ذات المناخ القاسي ومنطقة القطب الشمالي.

وعليه، أكد بعض الخبراء أنه بحلول عام 2030، سيكون المحيط المتجمد الشمالي خاليًا تمامًا من الجليد في أشهر الصيف، ما سيسهل بشكل كبير نقل الغاز الطبيعي المسال الروسي، علمًا بأن الصين أحد أكبر المستوردين للغاز الطبيعي في العالم، وهو ما يعني أن الشراكة بين موسكو وبكين ستكتسب بُعدًا استراتيجيًّا جديدًا.

وعلى الجانب الآخر، تحتفظ روسيا بحوالي 40 كاسحة جليدية، و34 غواصة بحرية بالقطب الشمالي، فضلًا عن 11 كاسحة جليدية ما زالت قيد الإنتاج بحسب ما ذكرت إحدى الصحف الكندية، في مقابل كاسحة واحدة فقط للولايات المتحدة والتي لا تمتلك أيضًا أي غواصات أو فرق بحرية هناك.

علاوة على ذلك، سعت روسيا لتكثيف تواجدها العسكري في كل المناطق القطبية، حيث أنشأت ست قواعد عسكرية مزودة بأنظمة الدفاع الجوي “إس 400″، فضلًا عن نشرها أربع فرق بحرية قتالية تحسبًا لأي شيء قد يحدث مستقبلًا بالمنطقة القطبية، في الوقت الذي لا يزال فيه موقع الممثل الخاص بالولايات المتحدة في القطب الشمالي شاغرًا حتى في ظل إدارة “دونالد ترمب”.

وانطلاقًا من هذا، أكد الكاتبان على ضرورة قيام الولايات المتحدة بوضع استراتيجية كبرى تعتمد على التكنولوجيا والقدرات العسكرية المتقدمة التي تتميز بها، لاحتواء الطموحات الصينية والروسية في المناطق القطبية، التي باتت من أهم مناطق التنافس الدولي، الذي لن يفوز به سوى الدولة القادرة على بناء تحالفات قوية بالمناطق القطبية، مع الاستعداد لحشد قواتها العسكرية تحسبًا لأي مواجهة محتملة.

وتذكر الدراسة أن الصراعات في المستقبل ستتطلب الاهتمام بالجغرافيا وتوسيع البنى التحتية العسكرية بجانب التكنولوجيا، نظرًا لعدم قدرة التكنولوجيا وحدها على حسم الحرب، وهو ما تجلى في الجهود الأمريكية في فيتنام وأفغانستان، حيث اعتمدت الولايات المتحدة على استخدام التكنولوجيا لتعزيز قدراتها العسكرية، ومع ذلك لم تتمكن من القضاء على المتمردين والإرهابيين حتى وقتنا الحالي.

أسس القطب الأميركي

يرى الكاتبان أن استمرار الهيمنة الأميركية سيتوقف على إدراك الولايات المتحدة أهمية المناطق القطبية كمصلحة حيوية لأمنها القومي. وبناء عليه، سيتوجب على الولايات المتحدة وضع استراتيجية تتضمن إنشاء كاسحات جليدية متطورة، وتدريب عدد من القوات المتخصصة للعمل في الظروف المناخية القاسية، وتكثيف التحالفات والخطابات الإعلامية ضد الطموحات الصينية والروسية في المناطق القطبية، مع ضرورة الاهتمام بالقطب الجنوبي بنفس قدر الاهتمام بالقطب الشمالي. وهنا تجدر الإشارة إلى امتلاك الولايات المتحدة ثلاث محطات بحث في أنتاركتيكا، تندرج جميعها تحت مؤسسة العلوم الوطنية (NSF)، وتهدف إلى البحث العلمي والتطوير. ومع ذلك يجب الانتباه للطموحات الصينية هناك، حيث تقوم بكين ببناء مهابط طائرات في القطب الجنوبي، فضلًا عن استمرار عمليات العسكرة الصينية في أنتاركتيكا.

وفي هذا الإطار، أشار الكاتبان إلى ضرورة قيام الولايات المتحدة بإعادة نشر قواتها وقواعدها العسكرية، مع الاهتمام بخلق عدد من الاستثمارات ومشروعات البنى التحتية في المناطق القطبية، التي تفتقر لكافة مظاهر الوجود الأمريكي.

كما ينبغي على الولايات المتحدة نشر عدد من الوحدات البحرية في شمال ألاسكا حيث المناطق المأهولة التي ستوفر مهابط للطائرات، وبنى تحتية صغيرة لدعم القوات البحرية في المناطق القطبية المجاورة، وهو ما سيكون بمثابة رسالة ردع قوية لكل من روسيا والصين على طول سواحل الدائرة القطبية الشمالية.

أخيرًا، يجب أن تعمل الولايات المتحدة على تعزيز قدرات النقل الجوي الاستراتيجي بإنشاء عدد من القواعد الجوية في المناطق القطبية، وعدم الاكتفاء بقاعدة “إيلسون” الجوية التي تقع على بعد 1700 ميل من القطب الشمالي، وهو ما يفسر ضعف فعاليتها في ردع القواعد الروسية هناك.

البحث عن حل

أشار الكاتبان إلى عدد من الوسائل التي يجب على الولايات المتحدة أن تنتهجها لضمان تنفيذ استراتيجيتها في المناطق القطبية “استراتيجية المحور القطبي”، ومن أبرزها بناء التحالفات ضد روسيا والصين، مع ضمان دعم ومشاركة الدول الأخرى صاحبة المصالح في تلك المناطق، وهو ما سيضمن للولايات المتحدة الاستفادة من الموارد والقدرات العسكرية للحلفاء في المناطق القطبية، تحت ستار تعزيز التعاون الأمني معهم، ومن ثم ضمان تقاسم الأعباء في المستقبل، ولا سيما مع نجاح فكرة بناء التحالفات أكثر من مرة، أبرزها إعاقة الاستثمار الصيني في القطب الشمالي، عندما أقنعت وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون” الدنمارك بتمويل البنية التحتية في جزيرة “جرين لاند” -أكبر جزيرة في العالم- التي تقع بين منطقة القطب الشمالي والمحيط الأطلسي، شمال شرق كندا، لكنها عضو في مملكة الدنمارك.

باختصار، تحتاج الولايات المتحدة إلى إعادة التوازن بين القدرات العسكرية والتحالفات لمواجهة المواقف القطبية لروسيا والصين، لا سيما وأن قدراتهما العسكرية القطبية المشتركة الحالية تتجاوز -إلى حد كبير- واشنطن وحلفاءها من الدول الصديقة (مثل: تشيلي، وفنلندا، وجنوب إفريقيا) حول دوائر القطب الشمالي وأنتاركتيكا.

ختامًا، يؤكد الكاتبان ضرورة قيام الولايات المتحدة بمواجهة جهود العسكرة القطبية لكل من الصين وروسيا في القطب الشمالي، لأنه إذا استمرتا في توسيع جهودهما بلا منازع ودون رادع في المنطقة القطبية، فسوف تسيطران قريبًا على المنطقة، وهو ما سيشمل التحكم في طرق التجارة الاقتصادية، وفرض رسوم المرور، والسيطرة على موارد الطاقة الحيوية، فضلًا عن احتمال قيام موسكو بالسيطرة العسكرية على المنطقة بفرض رسوم لاستخراج تراخيص العمل في منطقة القطب الشمالي.

وترى الدراسة أن السؤال الرئيسي هنا ليس ما إذا كانت الخلافات حول الموارد والمطالبات الإقليمية ستثير الصراع في القطب الشمالي وأنتاركتيكا، بل متى وكيف ستصبح المناطق القطبية جاهزة للجهود العلمية والعسكرية للحد من آثار تغير المناخ، والتي يمكن أن تغير أوجه التنافس الدولي بين القوى العظمى؟.

 

المصدر: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر