سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
د. تامر هاشم
شكلت الحروب الصفوية العثمانية، جوهر العلاقة بين إيران الصفوية وتركيا العثمانية، بدءًا من معركة جالديران (1514م) بقيادة كلٍّ من إسماعيل الصفوي وسليم الأول، وحتى الحرب العثمانية القاجارية (1821-1823م) بقيادة كلٍّ من فتح علي شاه ومحمود الثاني.
لقد كانت الدولتان متنافستين في مجالين: أولهما مذهبي، فالعثمانيون كانوا يمثلون الإسلام السني، ويعدُّون امتدادًا للخلافة الإسلامية. أما الصفويون، فاتخذوا التشيع الاثني عشري. وثانيهما، سياسي، إذ تنافست الإمبراطوريتان عسكريًا للسيطرة على شرق الأناضول والقوقاز، وبلاد ما بين النهرين (العراق).
تقع إيران على حافة جبلية وعرة، فمعظم سطح البلاد يتكون من الأراضي الوعرة، التي تكثر فيها الجبال. لذا، فهي إذا أرادت أن تكون قوة إقليمية، تحتاج إلى النزول إلى السهل العراقي، حتى تكون ذات تأثير في اللعبة الخليجية، مستخدمة الملف الطائفي، (وهذا ما نحن ملمون بتفاصيله). في نفس الوقت، تحتاج أيضًا إلى سهول أذربيجان لتهيمن على آسيا الوسطى. وتأتي أهمية جمهورية أذربيجان لاعتبارات أساسية تمس الوحدة الإيرانية، وأهمها: التداخل الاثني، إذ يوجد نحو 6 ملايين أذري في إيران – 60٪ منهم لا يتكلمون الفارسية – إضافة إلى الحدود المشتركة وانتشار المذهب الشيعي. وتتخوف إيران من إحياء المطالب التاريخية بتوحيد الشعب الأذري، ولذا اتسم تحركها برفض الطرح التاريخي حول تقسيم أذربيجان (الكبرى)، وتغليب البعد المذهبي الديني على البعد القومي، والتدخل الدبلوماسي من أجل تسوية النزاعات، ولا سيما النزاع بين أرمينيا وأذربيجان، والدعم المالي للعديد من المنظمات الثقافية والاجتماعية وحتى السياسية العاملة في أذربيجان. حتى إن السلطات الأذرية، اتهمت إيران بالعمل على فرض النموذج السياسي الإيراني الاثني. وعلى هذا الأساس، فإن إنجاح التمدد الإيراني في كلٍّ من الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، لا يتأتى إلا من خلال وجه طائفي.
أما تركيا، فهي دولة ناتجة من التقاء الأناضول الإسلامي والبلقان النصراني، لذا فإن الدور الأنسب لها – استراتيجيًا – أن تكور الجسر الذي يربط الشرق الأوسط الإسلامي بأوروبا المسيحية. كما يمكنها من خلال الوجه العلماني البرجماتي، أن تؤدي دور الحزام الأمني الذي يمنع الفوضى الشرق الأوسطية من الوصول إلى أوروبا (تأمَّل جوهر الاتفاق التركي الأوروبي حول احتجاز اللاجئين السوريين داخل الأراضي التركية). كما يمكنها من خلال الوجه الإسلامي، أن تؤدي الدور نفسه، لكن في الاتجاه المعاكس؛ أي تحمى الشرق الإسلامي من موجات التغريب الفكرية والثقافية والعسكرية أيضًا (تأمَّل الخطاب الإسلامي لأردوغان الذي يهدف إلى دغدغة مشاعر الحالمين بالخلافة الإسلامية في الشرق الأوسط).
التطورات الراهنة في قواعد اللعبة الدولية، قد غيَّرت من الأولويات الاستراتيجية لكلٍّ من إيران وتركيا، وجعلت فرص التوسع لكلٍّ منهما محصورة في منطقة الشرق الأوسط. فصراع النفوذ في آسيا الوسطى، حكر على ثلاثة مشاريع رئيسة: الأول أميركي: إذ تسعى الاستراتيجية الأميركية الحديثة إلى استخدام ورقة التكامل الاقتصادي الإقليمي لأفغانستان، وجعلها كطريق بري بديل يربط باكستان والهند بأسواق آسيا الوسطى وروسيا والصين، وهو ما يجعل من واشنطن المتحكم في التفاعلات الاقتصادية هناك. والمشروع الثاني روسي: إذ نجحت موسكو نوعًا ما في كسب تلك الدول للانضمام إلى رابطة الدول المستقلة، التي تشكلت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي للتقليل من إمكانية اختراقها، وربط اقتصاد دول آسيا الوسطى بالاقتصاد الروسي بشكل كبير، حيث تحتل الواردات والصادرات الروسية مكانة كبيرة هناك. والثالث صيني: فبكين تسعى من خلال استراتيجية طريق الحرير لجعل منطقة آسيا الوسطى، الجسر الذي يربطها بأوروبا.
تعقُّد أوراق الصراع في آسيا الوسطى وتركزها في يد الثلاث الكبار- كما أوضحنا سابقًا – قد أغلق الباب في وجه أي هيمنة إيرانية طائفية هناك، وأقصى ما يمكن أن تحصل عليه إيران، هو أن تكون محطة لنفوذ أي من القوى الثلاث للسيطرة على مقدرات المنطقة.
لذا، لن يتبقى أمام إيران سوى منطقة الشرق الأوسط، خاصة بعد تمكنها من بسط نفوذها على العراق.
أوروبيًا تقف ألمانيا حائلاً أمام الطموحات التركية في لعب دور مؤثر في أوروبا، بخاصة بعد تحول ميزان القوى بينهما لصالح ألمانيا بشكل كبير، وذلك يعود لعاملين: الأول، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ضعَّف القبضة الأميركية التي كانت تحدُّ من طموحات (بون)، ومن ثمَّ لم يعد أحد ينافس ألمانيا على زعامة البيت الأوروبي المشترك.
وأكثر من ذلك، أصبحت دول هذا الاتحاد، يعلقون آمالاً كبيرة على ألمانيا، وينتظرون منها أن تحل مشاكل الجميع. والعامل الثاني، استفادت ألمانيا من حالة الاستقطاب في الشارع التركي بعد الانقلاب العسكري بين أنصار الرئيس أردوغان، وعدوه فتح الله غولن، وأنصار الحقوق الكردية، خاصة بعد أن وصل تأثيرها إلى الأراضي الألمانية، مهددًا وحدة “أتراك ألمانيا”، وهو ما حرَّر الإرادة الألمانية في مواجهة الانتهازية التركية (من وجهة نظر الألمان) واتخذت ألمانيا أخطر قراراتها على الإطلاق، وهو الانسحاب من قاعدة إنجرليك التركية.
لذا، بدأت الدولتان في استخدام أوراقهما للسيطرة على الشرق الأوسط.
فاتجهت إيران لإحكام سيطرتها على النظام السياسي في العراق، ثم استخدام قوتها العارية في سوريا، ثم تعزيز قوة حليفها اللبناني حزب الله، ثم الاستدارة نحو اليمن من أجل الوصول للبحر الأحمر وفتح طريق ربط المصالح الإيرانية في آسيا وإفريقيا بعضها ببعض. أما تركيا، فلم تتأخر كثيرًا، حيث سعت لتعزيز مواقعها الشرق أوسطية التي تجلت في كلام أردوغان نفسه عن أن لتركيا دورًا تاريخيًا يخولها التدخل، وإشارته إلى أن الموصل وكركوك «كانتا لنا».
فهذا الكلام جاء بعد انتقاد الرئيس التركي أيضًا لمعاهدة لوزان التي رسمت حدود تركيا الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى، وقوله إنها جعلت بلاده صغيرة جدًا، وإن التوقيع عليها لا يعني أن تركيا راضية عنها. فهل يعنى هذا مقايضة كردستان بالموصل وكركوك!
خلاصة ما سبق، تُبيِّن أن الفرصة المتاحة أمام كلٍّ من إيران وتركيا للتوسع وتعزيز النفوذ، هي في البطن الرخوة عالميًا وهي الشرق الأوسط، حيث تضعف القبضة الأميركية، وتحاول كلٌّ من الصين وروسيا ملء الفراغ دون أن تتوفر لهما القدرة الكاملة لصنع قواعد لعبة جديدة تحكم سلوك الأطراف الإقليمية.
والسؤال هنا: هل تدخل الدولتان اللعبة الإقليمية هذه المرة متنافستين – كما في المرات السابقة – أم متعاونتين، وهذا يعد تحولاً استراتيجيًا جديدًا؟
تشير المؤشرات الأولية إلى ترجيح خيار التعاون فيما بينهما، وذلك يعود لعاملين مستجدين: الأول استراتيجي، حيث يرى منظر العثمانيين الجدد أحمد داوود أوغلو، أنه لا يسع تركيا أبدًا أن تبتعد أكثر من اللازم عن إيران، أو تكون تحت أي ظرف أقرب لدول الخليج، فحقائق التاريخ والجغرافيا تؤكد على أن تركيا لا يسعها أن تخلق عداوات على الجبهتين الروسية والإيرانية في نفس الوقت، وإلا وضعت نفسها في مأزق، وهو ما يجعل تركيا تبحر بسياستها الخارجية بين جزر النفوذ لكل من إيران وروسيا في الشرق الأوسط. أما العامل الثاني، فهو اقتصادي حيث ترتبط سياسات نمو وتحفيز الاقتصاد التركية بما يمكن إنجازه على أرض الواقع من تعاون مع الاقتصاد الإيراني، وهذا ما بدأت إرهاصاته الأولى قبل وصول العثمانيين الجدد إلى السلطة في تركيا.
وقد قدمت الآن الأزمة القطرية، الفرصة المناسبة لتركيا للنفاذ للأسواق الإيرانية من خلال اقتراح وزير الاقتصاد التركي نهاد زيبكجي، أن بلاده تسعى إلى إقامة طريق سريع بين قطر وتركيا عبر إيران، وأكد وجود رغبة مشتركة بين أنقرة والدوحة وطهران لنقل الصادرات التركية إلى قطر برًا عبر الأراضي الإيرانية. في ذات الوقت، تقدِّم نفس الأزمة لإيران، فرصة من أجل بناء استراتيجية غاز إيرانية من خلال التعاون الغازي بين الدوحة وطهران بما يعزّز من نفوذ إيران في أسواق الغاز العالمية.
أخيرًا، إن ضغوط إدارة الرئيس دونالد ترمب على إيران، التي تترافق مع قبول تلك الإدارة بمشاريع الاستقلال الكردية (وإن كان عن استحياء وبشكل ضمني)، ستقود كلاً من إيران وتركيا إلى الدخول في تفاهمات استراتيجية، تضمن اقتسام النفوذ في المنطقة، بما يجعلنا أمام (سايكس بيكو) جديد، ولكن ذو طبيعة خاصة (إقليمية) في ظل غياب انهيار العديد من الدول العربية وغياب أدوار فاعلة من القوى الدولية.
والسؤال: هل أصبح التعاون بين الدولتين أمرًا حتميًا؟
الإجابة – بالتأكيد – ستكون بالنفي، حيث يظل لدى الدول العربية الفاعلة، قدرة على التحرك سريعًا لاستغلال التناقضات بين كلٍّ من أنقرة وطهران، والتي من أهمها، على الإطلاق، الملف الكردي الذي يتطور سريعًا هذه الأيام. وتعود أهمية الملف الكردي إلى أنه قضية أمن قومي تعدُّ الأولى لتركيا نظرًا لارتباطها بسيادة الدولة.
فتركيا ترى أن السياسة الإيرانية من الممكن أن تدعم إقامة كيان كردي صديق لها في حال سارت سوريا إلى التقسيم، سواء جاء التقسيم بمشروع دولي تتبناه أميركا والتحالف الدولي، أو بفعل الانهيار الفعلي لنظام الأسد عسكريًا أمام جيوش الثورة السورية. وهذا يشكل خطًا أحمر، نظرًا للعلاقة الفريدة بين أكراد سوريا وأكراد تركيا. هذا المشروع التقسيمي لسوريا، يمكن أن تستفيد منه إيران في حال عدم قدرتها على الإبقاء على بشار الأسد رئيسًا للنظام السوري من الناحية الدولية. وما يعزز من شكوك أنقرة، التعاون الكامل بين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ونظام بشار الأسد، وهو أمر لن يتم دون موافقة من إيران، وإن لم يكن رجال إيران في سوريا، هم الذين يقومون بدعم هذا التوجه لإقامة الكيان الكردي، فمصالح إيران ستكون مع إقامة كيان للأكراد في سوريا من الناحية السياسية.
على هذا الأساس، ينبغي للدول العربية أن تتحرك سريعًا للمساهمة في صياغة قواعد إعادة بناء سوريا أو سوريا الجديدة بشكل يضمن وجود نفوذ عربي فاعل يمكن أن يشكل ورقة ضغط على تركيا.
بالفعل، بدأ التحرك بقيادة المملكة العربية السعودية، إذ بدأت الرياض إقصاء قيادات المعارضة السورية المعرقلة للحل السياسي، خاصة المدعومة والممولة من قطر، وهو ما يعد تحركًا إيجابيًا من المملكة لبدء إنجاز تسوية شاملة للأزمة السورية التي دخلت عامها السابع. هذا التحرك إذا اقترن بتعاون وتبادل أدوار بين الرباعية العربية الجديدة – وليدة ظروف الأزمة القطرية – يمكن أن تحقق نتائج جيدة في ظل التردد الأميركي الروسي تجاه الورقة الكردية بشكل متكامل.
أستاذ مساعد في العلاقات الدولية – جامعة العلوم التطبيقية -مملكة البحرين*
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر