التغلغل الاقتصادي التركي في ليبيا | مركز سمت للدراسات

التغلغل الاقتصادي التُّركي في ليبيا.. الدوافع والآليات

التاريخ والوقت : الثلاثاء, 21 يوليو 2020

يُسيطر على ليبيا انقسام حاد بين الشرق والغرب، في مشهد أقرب إلى دولتين على إقليم واحد. وبينما يُسيطر على الشرق والجنوب الجيش الوطني الليبي، تُسيطر في الشمال الغربي حكومة السراج، التي وقّعت اتفاقًا أمنيًّا مع تُركيا يُتيح للأخيرة التدخل في البلاد، وإقامة قواعد عسكرية فيها. وفي مُقابل ما توفره الحكومة التُركية من مُعدات عسكرية ومُرتزقة سوريين، سهلت حكومة السراج لها العودة مُجددًا للسيطرة على اقتصاد البلاد، بعد تراجع الاستثمارات التُركية بشدة مع انتهاء حكم “القذافي” في عام 2011.

هذا المقال يهدف إلى تفكيك الوضع الاقتصادي التُركي المُسيطر داخل ليبيا بهدف استبيان الأهداف الفعلية لتدخلها الخشن في الإقليم.

في هذا الصدد، تجب الإشارة أولًا إلى أن الاقتصاد الليبي يقوم بالأساس على النفط، إذ شكلت أنشطة استخراج النفط والغاز الطبيعي والمُنتجات النفطية حوالي 72% من الناتج المحلي الإجمالي الليبي، قرابة 41 مليار دينار ليبي في عام 2012، قبل أن يتضرر القطاع وفقًا لآخر إحصاءات مُعلنة، قبل أن ينخفض إلى 9.7 مليارات دينار في عام 2014. وقد بلغت صادرات النفط الليبية في عام 2019 حوالي 27.7 مليار دولار. ويوضح الشكل التالي تطور صادرات النفط الليبية مُنذ عام 2008.

ويتضح من الشكل السابق وصول صادرات النفط لأعلى مُعدلاتها في عام 2012 عند مستوى 57.9 مليار دولار، لتبدأ بعدها في التراجع إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق في عام 2016 وذلك بما يُعادل 6.3 مليارات دولار فقط، أي حوالي 10% من مستوياتها المسجلة في 2012. وقد حل قطاع الإنشاءات في المركز الثاني بعد قطاع النفط حتى عام 2010 قبل أن يتعطل بفعل عدم الاستقرار السياسي الذي أعقبه اقتتال داخلي قائم حتى الوقت الحالي.

أولًا: مرحلة حكم “القذافي” 

رغم أن قطاع النفط هو الأهم في الاقتصاد الليبي؛ إلا أن تواجد الشركات التُركية فيه اتصف بالخفوت، ذلك أن صناعة النفط هي صناعة كثيفة التكنولوجيا ورأس المال، بما يجعل مُنافسة الشركات التُركية فيها مع الشركات العالمية محدودة للغاية. ولذلك، فقد اقتصر التواجد التُركي في هذا القطاع خلال فترة حكم “القذافي” على شركة واحدة هي شركة البترول التُركية العالمية المملوكة للدولة (TPIC) وبعدد محدود للغاية من المشروعات لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، كان أبرزها حصول الشركة بالتعاون مع اتحاد OVL الهندي على البلوكين رقم 188 و189 في حوض “غدامس وسرت” بنسبة 51% للأتراك في عام 2003، وفوز الشركة بامتياز التنقيب في البلوكين 3 و4 في المنطقة 147 من حوض “مرزق” عام 2005، بحصة 9.7% والباقي لمؤسسة النفط الوطنية الليبية.

على النقيض من ذلك كان الوضع في قطاع التشييد، حيث عملت الشركات التُركية قبل عام 2011 على نطاق واسع في الأراضي الليبية، بمختلف مشروعات البنية التحتية، بالإضافة إلى مشروعات أخرى كإنشاء الفنادق والمُدن، حتى بلغ عدد الشركات التُركية العاملة في ليبيا 102 شركة بقوة 80 ألف عامل عام 1981. ويأتي مشروع “النهر الصناعي العظيم” كواحد من بين أبرز المشروعات التي عملت عليها الشركات التُركية في الأراضي الليبية في تلك الفترة، وعلى الخصوص شركة “تيكفين للإنشاء” التي شيدت فرع “الكُفرة- تازربو” بطول 380 كم في عام 2005. ومن بين أهم الشركات التُركية كذلك “إنكا” التي عملت في العديد من المشروعات مثل تشييد مدينة “بريجة” الجديدة، و”رأس لانوف الجديدة”، وذلك في الفترة من بداية السبعينيات حتى 2010، إلى أن احتلت ليبيا المركز الثاني في الأسواق الدولية لأنشطة شركات الإنشاءات التُركية في إجمالي الفترة من 1972 وحتى 2010، وهو ما يوضحه الشكل التالي:

وبنهاية عام 2010 بلغ عدد المشروعات التي نفذتها شركات المُقاولات التُركية في ليبيا 529 مشروعًا من إجمالي 5910 مشاريع تركية في الخارج، بقيمة 187.6 مليار دولار، أي بنحو 10% من إجمالي عدد المشروعات ونسبة 14% من القيمة الإجمالية للأعمال التُركية في قطاع الإنشاءات في الخارج.

ثانيًا: الفترة (2011-2019) 

أسفرت الثورة الليبية عن وضع عدم استقرار في البلاد بشكل عام، تراجعت بسببه جميع القطاعات الرئيسية، وفي مُقدمتها قطاع الإنشاءات الذي أصابه شبه انهيار لتتراجع مُساهمته في الناتج المحلي الإجمالي من 4 مليارات دينار ليبي ليبلغ 954 مليون دينار وفقًا لآخر إحصاء في عام 2012 بالأسعار الثابتة لعام 2007، الأمر الذي كبّد الشركات التُركية العاملة في القطاع خسائر هائلة، ولذلك أصبح على تُركيا البحث عن بدائل أخرى للاستثمار في ليبيا تعوض خسائر قطاع الإنشاءات، فاتجهت إلى قطاعات أخرى، ونستعرض فيما يلي وضع أهم القطاعات.

1- قطاع الإنشاءات

تراجعت الأعمال بشدة خلال هذه الفترة وخرجت ليبيا كُليًّا من أهم عشرة أسواق في الخارج مع الانهيار الذي أصاب القطاع، ففقدت أكثر من 100 شركة تُركية أعمالها ومشروعاتها القائمة والمُتعاقد عليها في المُستقبل، وخسرت مُعدات بما يُساوي أكثر من مليار جنيه نتيجة لأعمال السلب والنهب والقتال. ويوضح الشكل التالي تراجع أعمال الشركات التُركية في السوق الليبية ليبلغ 2.5 مليار دولار فقط خلال عقد كامل، وهو أقل مما حصلته الشركات التُركية من ليبيا في عام 2008 فقط.

تضرر الشركات التُركية دفع بعضها إلى رفع دعاوى تحكيم أمام غرفة التجارة الدولية للحصول على تعويضات عن الخسائر التي تكبدتها نتيجة توقف أعمالها على الأراضي الليبية، ليبلغ عدد الدعاوى التُركية سبع دعاوى بداية من عام 2015 وحتى 2017، ما زالت جميعها مُعلقة حتى الآن باستثناء مُنازعة واحدة مع شركة “جنكيز القابضة” قضت فيها المحكمة بغرامة قدرها 50 مليون دولار على الحكومة الليبية، في حين بلغ إجمالي دعاوى التحكيم المرفوعة ضد ليبيا مُنذ عام 2011 وحتى وقت كتابة المقال 16 دعوى.

2- قطاع الطاقة الكهربية

مع الدمار الذي طال البنية التحتية للبلاد، خاصة شبكة الكهرباء، برزت الحاجة إلى إقامة محطات طاقة كهربائية جديدة، وترميم شبكة الكهرباء المُتضررة بشدة جراء المعارك والاقتتال الدائر مُنذ نحو عشر سنوات. وهنا فرضت الشركات التُركية نفسها بعرض مشروعات لاستعادة كفاءة القطاع من جديد، ونجحت في بناء محطتين للتوليد في الغرب الليبي مُستغلة سيطرة حلفائها من الإسلاميين والمُتشددين لتكونا المحطتين الوحيدتين اللتين تم بناؤهما في فترة ما بعد “القذافي”. الأولى، هي محطة “أوباري” التي تعمل بالغاز بقدرة 640 ميجا وات، وذلك بعد توقيع عقد المشروع في عام 2007، إلا أنه توقف ولم يبدأ العمل به من جديد إلا في عام 2011 واستمر حتى عام 2017، رغم عدم قُدرة البلاد على توفير الغاز الطبيعي لتشغيل المحطة بسبب الحرب الدائرة. أما المحطة الثانية فكانت محطة “الخمس” بقدرة 550 ميجا وات، والتي تم التعاقد عليها في عام 2014 وانتهى تنفيذها في 2017.

3- قطاع النفط

خلال هذه الفترة لم تبرز أية أنشطة لشركات النفط التُركية، باستثناء اتفاق وحيد وقعته الشركة الوطنية للبترول مع المؤسسة الوطنية الليبية للنفط، تقوم بمقتضاه الأولى بشراء 10 شحنات من النفط الليبي، قيمة كل منها 600 ألف برميل، وقد اشترت بالفعل أربع شحنات، وما زالت الست الأخيرة مُعلقة حتى الوقت الحالي. وبلغت القيمة الكُلية للشحنات العشر 670 مليون دولار أمريكي.

4- الصادرات التُركية

تحتل تُركيا مرتبة المُصدر الثالث لليبيا وذلك بعد كُل من الصين وإيطاليا، بنسبة تخطت 10% من إجمالي التجارة في مُعظم الأعوام، خاصة فيما بعد عام 2011 باستثناءات طفيفة للغاية، كما يتضح من الشكل التالي.

ويتّضح من الشكل تطور الصادرات التُركية من مستويات 7% في متوسط السنوات الأربع (2007-2010) قبل الثورة الليبية إلى مستويات 11% في السنوات الخمس (2011-2015)، ووصولها إلى 12% حتى في ظل الانقسام السياسي والحرب الأهلية قبل أن ترتفع مُجددًا بعد تولي حكومة السراج الجزء الغربي من البلاد، بحيث اتخذت اتجاهًا تصاعديًّا واضحًا من مستويات 9% الذي وصلته في ظل انخفاض الصادرات الليبية من النفط، فوصلت إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق في عام 2019 عند مستوى 13%، ويتوقع لها أن تظل على ارتفاع في ظل الاتفاق الأمني والبحري بين الجانبين، وهو ما ينقلنا للجزء الأخير من المقال.

ثالثًا: 2020 

تم توقيع الاتفاقين البحري والأمني بين تركيا وحكومة السرج في نهاية عام 2019، ما شكل نُقطة فارقة في التحالف بينهما. على إثرهما أظهرت تُركيا فعليًّا نواياها في السيطرة على ثروات البلاد، مُستغلة تعطش حلفائها للسُلطة، فتوسعت في إمداد ميليشيات السراج بالأسلحة رغم حظر تصدير السلاح المفروض بقرار أُممي. وفي المُقابل، بدأ السراج يُمعن في تقديم العطايا والتنازلات في شكل اتفاقات تفضيلية لم تظهر كُلها إلى السطح حتى وقتنا هذا، وإن كانت قد رشحت بعض مؤشراته وهو ما نرصده فيما يلي:

1- قطاع الإنشاءات

حاولت تُركيا تعويض خسائرها في العقد الماضي، فنجحت في الحصول على اتفاق تعويض مبدئي من حكومة السراج بقيمة 2.7 مليار دولار عن أعمال نُفّذت في ليبيا خلال عهد “القذافي”، كان من المفترض أن يسددها الأخير قبل حرب 2011، وذلك مع الإبقاء على قضايا التحكيم الست المنظورة أمام غرفة التجارة الدولية دون التنازل. ويتضمن الاتفاق الذي أعلن عنه الجانب التُركي خطاب ضمان بمليار دولار إلى جانب 500 مليون دولار عن الأضرار التي لحقت بالآلات والمعدات، إضافة إلى ديون غير مسددة بقيمة 1.2 مليار دولار. كما أُعلن عن نية تُركيا استكمال تأخيرات الأعمال التركية المتعاقد عليها في ليبيا، والتي تأخرت بفعل الحرب وتصل قيمتها إلى 16 مليار دولار، بما في ذلك ما بين 400 و500 مليون دولار لمشروعات لم تبدأ حتى الآن.

كما جرى توقيع عقود جديدة لمشروعات مثل محطات طاقة ومشاريع إسكان ومراكز تجارية، لعل أبرزها إعادة إسناد بناء نحو 5 آلاف منزل في العاصمة طرابلس لخمس شركات من بينها ثلاث شركات تُركية واثنتان محليتان، على أن تقوم الشركات التركية ببناء 3050 منزلًا، بينما تقوم الشركتان المحليتان بباقي الوحدات ثم تُعيد شراء ما بنته الشركات التُركية، وذلك بعد أن كان ذات العقد قد أسند لشركة “شينهان” الكورية الجنوبية، والتي لم تستطع استكماله بسبب أعمال القتال الدائرة، مما دفعها لرفع قضية تحكيم بشأنه، مُطالبة بتعويض 2 مليار دولار.

2- قطاع الطاقة

تُجري شركة الطاقة التركية Karadeniz Holding محادثات مع الحكومة الليبية لبيع الكهرباء من سُفنها التي تعمل كمحطات عائمة لتوليد الكهرباء، ويجري الاتفاق على بيع نحو ألف ميجا وات من الكهرباء، على أن تبدأ العمل بحد أقصى في شهر سبتمبر 2020، وذلك من نحو عشر سُفن من إجمالي 25 سفينة بقدرة 4100 ميجا وات تملكها الشركة، وهو ما يُحمل الدولة الليبية أرقامًا ضخمة في تجربة يشهد بفشلها الاقتصاد اللبناني الذي تُؤجر له تُركيا ذات السُفن بدلًا من بناء محطات كهرباء دائمة تتحول لأصول للبلاد.

3- قطاع النفط

تستعد الشركة التُركية للنفط -التي حظيت بمُعاملة تفضيلية جعلتها تتغلب على الهوة التكنولوجية والمالية بينها وبين شركات النفط الدولية- بعد أن فشلت في تحقيق أية نجاحات في السوق الليبية على مدار 60 عامًا، للتنقيب عن النفط والغاز في مياه شرق ليبيا، وذلك بعد أن وقعت الحكومة اتفاق تعيين الحدود البحرية نهاية العام الماضي، وهي حدود لن تقوم أية شركة بالاستثمار فيها بسبب التنازع الدولي عليها. وبناء على ذلك، تقدمت الشركة بطلب للسماح لها بالتنقيب في مُنتصف مايو، ستستغرق الموافقة عليه نحو ثلاثة أشهر، تبدأ بعده الشركة التنقيب في مناطق واعدة للغاية، لم يكن من المُمكن لها الحصول عليها في ظل مُنافسة عادلة دونما تدخل سياسي.

4- الصادرات التُركية

توقع رئيس جمعية رجال الأعمال التركية الليبية “مرتضى كارانفيل” أن تصل صادرات أنقرة إلى ليبيا حوالي 10 مليارات دولار بسرعة، وهو ما يصل إلى أكثر من ثلاثة أضعاف حجمها في عام 2019 والذي توقف عند مستوى 2.7 مليار، وهو ما يُمثل نصف الواردات الليبية في العام ذاته، أو ثُلثها في أعلى مستويات لهذه الواردات والذي بلغته في عام 2013 عند حد 33 مليار دولار، وهو رقم صعب للغاية أن يتحقق بغير سيطرة حقيقية على الاقتصاد الليبي، بحيث يتحول ليكون تابعًا للاقتصاد التُركي.

مما سبق عرضه يتضح وجود رغبة لدى تركيا في تعويض ما فاتها من أرباح في سوق الإنشاءات الليبي خلال العقد الأول من القرن العشرين، وذلك بفرض سيطرة تامة على القطاعات الكُبرى في الاقتصاد الليبي بحيث تُسيطر على قطاعات النفط والإنشاءات والطاقة، بما يحول جزءًا ملموسًا من الثروات النفطية للبلاد إلى الاقتصاد التُركي الذي يترنح تحت ضغط الديون وانسحاب الاستثمارات الأجنبية بنوعيها المُباشر وغير المُباشر. وفي سبيل ذلك ستبذل تُركيا أقصى ما تستطيع حتى لو اضطرت إلى هدم الدولة الليبية أو تفتيتها على غرار النموذج القبرصي.

 

المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر