سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
عبد المنعم سعيد
إذا كان واجبا الاحتفاء بالتقدم الذي جرى في جولة المفاوضات الأخيرة بين مصر وإثيوبيا والسودان تحت الإشراف الإفريقي والدولي، فإنه من الواجب فى نفس الوقت أن نبني لمرحلة مقبلة تحصل فيها الأطراف الثلاثة على حقوقها، وتمهد الطريق لتعاون أكبر يحقق بالتنمية مستقبلا مرموقا للدول الثلاث. وحتى يحدث ذلك فإنه لابد من النظر بالجدية الواجبة إلى الإعلام الإثيوبي الذي قام على حجج في جوهرها بأن نهر النيل هو ملك للدول التي ينبع منها مثله مثل حقول النفط ومناجم الذهب التي تعتبر موارد طبيعية للدولة ذات السيادة. مثل ذلك ليس له وجود لا في التاريخ، ولا في القانون الدولي، ولا في واقع العلاقات بين الدول التي يجمعها الماء، سواء كان نهرا أو بحيرة متعددة دول الجوار أو مياه جوفية تتشارك في أعماقها دول. فقد عرف العالم فكرة الأنهار الدولية منذ ٢٥٠٠ قبل الميلاد، وكانت حول استغلال المياه فى نهر دجلة، ومنذ عام ٨٠٥ بعد الميلاد فإن ٣٦٠٠ اتفاقية دولية تعلقت بتوزيع المياه واستخدامها بين الأطراف المشاركة التى يحتويها نهر أو بحيرة تشترك فيها أكثر من دولة أو شعب. وبين عامي ١٨٢٠ و٢٠٠٧ جرى توقيع ٤٥٠ اتفاقية دولية خاصة بالأنهار، وقع منها ١٥٠ معاهدة خلال الخمسين عاما الأخيرة. وحاليا فإن هناك ١٤٥ دولة في العالم تنتمي إلى حوض من أحواض الأنهار الخاضعة للتنظيم من خلال اتفاقيات ومعاهدات.
هذا التاريخ الطويل للمعاهدات والاتفاقيات الخاصة بالأنهار والبحيرات والمياه الجوفية المشتركة لم يضع فقط تاريخا للقانون الدولي للأنهار، وإنما أيضا خلق حقوقا تاريخية للدول والكيانات السياسية المشاركة بما وضع من قواعد رشيدة للعلاقات بين الدول وتعاونها حتى في أوقات الحروب والمنازعات الكبرى. فمهما تعاركت الدول بسبب حقوق أو مطامع، فإن الشعوب لا تتوقف عن ري الغذاء وتجنب العطش. وعلى سبيل المثال فإن حوض نهر «الميكونج»، الذي يضم دول تايلاند وفيتنام ولاوس وكمبوديا تنظم أعماله ومسيرته هيئة نهر الميكونج The Mekong River Commission، وفقا للقواعد الخاصة بالأنهار المشتركة دون ادعاء دول المنبع بحقوق سيادية للسيطرة على الماء تجاه دول المصب، واستمر ذلك دون نقض أثناء حرب فيتنام الطويلة في الهند الصينية كلها وما سبقها ولحقها من حروب أهلية عنيفة. وهناك هيئة مماثلة تتعلق بنهر «الأندوز» تنظم العلاقات المائية بين الهند وباكستان The Indus Water Commission، وهذه هي الأخرى سارت على حالها رغم الحروب التى جرت بين الطرفين والتوتر الدائم في العلاقات بينهما. وفي عام ١٩٥٥ جرت تفاهمات بين الأردن وإسرائيل من خلال وساطة أمريكية للتعامل المشترك مع مياه نهر الأردن رغم حالة الحرب السائدة بين البلدين حتى توقيع معاهدة السلام بينهما. وتشترك عشر دول أوروبية هي ألمانيا والنمسا وسلوفاكيا والمجر وكرواتيا وصربيا وبلغاريا ورومانيا ومولدافيا وأوكرانيا في المجرى المائي لنهر الدانوب، وفق شبكة من الاتفاقيات التي تنظم عمليات الملاحة للنهر، وكذلك شرب المياه في ٢٢ مدينة تطل عليه دونما تمييز بين دول المنبع على جبال الألب ودول المصب على بحر قزوين. وينظم ذلك كله الهيئة الدولية لحماية نهر الدانوب أو The International Commission for the Protection of the Danube River (ICPDR). وينطبق نفس الأمر على نهر الأمازون الذي ينافس النيل في أيهما أكثر طولا، حيث توجد منذ عام ١٩٦٠ هيئة للاستغلال الاقتصادى للأمازون تخص المياه والغابات والزراعة وتشترك فيها البرازيل وكولومبيا وبيرو وإكوادور وفنزويلا وبوليفيا.
في كل هذه المعاهدات والاتفاقيات كانت للدول الواقعة على الأنهار والبحيرات المشتركة «حقوق تاريخية» لا فارق في ذلك ما بين دول المنبع ودول المرور ودول المصب، وفيها فإن الماء بات تراثا مشتركا للإنسان الواقع عليها، والمستفيد منها، وهو في ذلك مثله مثل الضوء وحركة الشمس والقمر والرياح وظواهر الطبيعة الأخرى العابرة للدول. وإثيوبيا في حملاتها الإعلامية والسياسية تحاول التخلص من هذا التراث التاريخي الدولي بالقول تارة إن الاتفاقيات التي نظمت العمل في النيل خلال العصور الحديثة كانت «استعمارية» رغم أن إثيوبيا كانت دولة مستقلة أثناء اتفاقي ١٩٠٢ و١٩٢٩، أو بالادعاء أن مصر تريد النيل خالصا لها، وهو غير صحيح لا تاريخيا ولا فى الوقت الحالى، أو أنه بوسع مصر أن تبحث عن مصادر أخرى للمياه وهو ما تفعله مصر بالفعل رغم تكلفته العالية فى تحلية مياه البحر أو خفض اعتمادها على المحصولات عالية الاستخدام للمياه مثل الأرز والقطن نظرا لأنها الآن بسبب الزيادة السكانية تعيش حالة من الفقر المائي. وما كان غائبا عن إثيوبيا طوال الوقت أن لصق الحقوق التاريخية في مياه النيل بالفترة الاستعمارية ومن ثم إدانة الحقوق التاريخية فيه لا يغفل التاريخ قبل وبعد الفترة الاستعمارية فقط، وإنما يتجاهل فوق ذلك أن الفترة الاستعمارية تركت تراثا وحدودا كاملة الحجة في كثير من النزاعات التاريخية.
وبالنسبة لمصر فإن معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية خططت الحدود الدولية المصرية استنادا إلى معاهدة عام ١٩٠٦ بين بريطانيا والدولة العثمانية؛ وكان ذلك هو ما جرى عليه العرف العالمي في تخطيط حدود الدول للبلاد المستعمرة السابقة وخاصة في إفريقيا، لأن حكماء القارة اكتشفوا أن رفض الاتفاقيات السابقة حتى ولو كانت خلال الفترة الاستعمارية يعنى كثيرا من المنازعات والحروب والخلافات والتوترات التي كانت القارة الإفريقية في غنى عنها بعد الاستقلال. وهكذا فإن منظمة الوحدة الإفريقية ومن بعدها الاتحاد الإفريقي وضع مبدأ احترام الحدود التى رسمت أثناء الفترة الاستعمارية، والاتفاقيات التي عقدت خلال هذه الفترة، أساسا لتعيين حدود دول القارة بما فيها إثيوبيا ومصر. وكما رأينا أعلاه فإن الحقوق التاريخية فى الأنهار المشتركة صمدت فى أوقات حروب ومنازعات كبرى، سواء كانت حروبا عالمية أو إقليمية. وفي معظم الأحوال فإن دول أحواض الأنهار أخذت المشاركة فيها لبناء شبكة كبيرة من أشكال التعاون سواء كان ذلك في المواصلات النهرية أو الزراعة أو الصيد أو حماية البيئة وغيرها أمور كثيرة.
الحقوق التاريخية هكذا باتت واحدة من أدوات السلام والتعاون بين الدول، وليست أداة من أدوات النزاع والصراع وبث الفرقة. وكل التجارب العالمية المشار إليها قامت على اتفاقيات دولية ملزمة، وفي حالتنا فإن ما جرى الاتفاق عليه بالفعل خلال المفاوضات قبل انسحاب إثيوبيا فإنه قام على مبادئ مستقرة، أولها أنه لا عطش لمصر ولا مجاعة لإثيوبيا، وإنما مياه وكهرباء للتنمية. وثانيها التأكيد على أن الاتفاق سوف يكون بداية شراكة تاريخية بين الدول الثلاث، وبينها وبين دول حوض النيل الأخرى. وثالثها أن جوهر هذه الشراكة ليست فقط مياه النيل، فهذه مثل مياه الفيضان لها ذروتها وشحها، وإنما التنمية ليس فيها ذروة سوى السماء، واستدامة مثل الخلود، فهي التى يسعى الأطراف الثلاثة لها بعد أن فاتهم وقت طويل فى ركاب تقدم الأمم. الاتفاق هو بداية التعاون وليس نهايته، وهو نقطة الانطلاق، ولكنه ليس محطة الوصول التي ينبغي لها أن تكون وجود الدول الثلاث بين صفوف الدول المتقدمة في العالم.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر