سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
ماجد الجريوي
باتت حالة العزلة السياسية التي تعيشها كوريا الشمالية تلقي بظلالها على كافة المجالات المتعلقة بهذا البلد الغامض؛ حتى أصبحت بوصلة كافة المجالات يندر أن تتجه نحو ما يدور في دهاليز ذلك البلد المنطوي على نفسه. فقلما نجد أخبارًا عن كوريا الشمالية، سواء بالإيجاب أو بالسلب، بل حتى الأخبار القليلة المتداولة حولها دائمًا ما ترتكز وتدور في فلك محدد وإطار ضيق جدًا. حتى أحاديث المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، عنها لا توازي الأهمية الكبيرة لهذا البلد ومقدرته العسكرية والاقتصادية والسكانية. ورغم ما تكتسبه كوريا من أهمية بالغة في المشهد السياسي والعسكري والدولي، فإن الأحاديث الصادرة عن “بيونغ يانغ” شيحية جدًا، بل حتى الحضور الإعلامي عنها يكاد يكون في أضيق نطاق ممكن.
إن قراءة المشهد الكوري الشمالي أشبه بالرحلة الملبدة بالغيوم. فحتى التأطير الذي مارسه الإعلام الغربي تجاه شيطنة هذا البلد، لم يستطع بناء صورة شاملة عن تفاصيل كوريا الشمالية. ولهذا نجد أن المعلومات المؤطرة تجاه كوريا الشمالية تعتمد على مرتكزين أو ثلاثة طيلة العقود الماضية، وهو ما يؤكد أن أجهزة الإعلام تلك فشلت في إخراق جدار “بيونغ يانغ” المعزول والغامض جدًا.
وحتى على صعيد الحركة السياسية والقدرة على صناعة وتشكيل رأي عام مضاد وجماعات ضغط في الداخل الكوري، لم يكتب لها أي نجاح. ويعود السبب الرئيسي إلى ذلك الإخفاق، عدم القدرة في الوصول إلى نافذة للداخل الكوري. بل إن الكثير من المراقبين السياسيين عجزوا عن تحليل تركيبة المجتمع الكوري الشمالي، وما هي تفاصيله، وما هي الأقليات الموجودة خلاله. فالمعروف عن هذا البلد لا يعدو عن معرفة تفاصيل نظام الحكم، وتحديدًا الحزب الحاكم فقط.
ومما يثير استغراب المراقبين أن الدول المماثلة لذات أنظمة الحكم في كوريا الشمالية، الصين مثلاً، نجحت في تعريف العالم بذاتها، بل وانتهجت سلوكًا سياسيًا في الآونة الاخيرة أكثر انفتاحًا على الآخر سياسيًا، ومن قبله اقتصاديًا، وفي طور الانفتاح الإعلامي.
ومما يثير حالة التعجب لدى المراقبين والمتابعين أن الاتفاق التاريخي بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة الأميركية لم يمكن أجهزة الإعلام الأميركي من الدخول في العمق الكوري، أو التعرف على تفاصيل أكثر مما كانت هي موجودة مسبقًا ومتشكلة لديهم.
وحتى الوسائل الإعلام الأخرى التي حاولت الغوص في الداخل الكوري، نجد أنها أعطت معلومات أقل تعمقًا ومعرفة مما يستوجب. ولعل الإعلام الروسي حاول في ذلك، غير أن المحصلة المعرفية كانت محدودة إلى حد ما. وذهب البعض بتفسير ذلك إلى الأجندة الموجودة مسبقًا في تلك الخطوة.
اللغز الكوري من الداخل
قبل الحديث عن الأنماط والأساليب الاتصالية الأحادية الموجهة نحو “بيونغ يانغ” عاصمة كوريا الشمالية، من المهم جدًا أن نتعرف بشكل أكبر على هذا البلد الغامض من خلال العديد من المعلومات التي ستشكل مفاتيح هامة في سير هذه القراءة. ولعل المعلومات القادمة ستكشف، بشكل أو بآخر، جزءًا من أسباب العزلة التي انتهجتها كوريا الشمالية.
تشكلت كوريا الشمالية في منتصف القرن الماضي في عام 1948، وهي الفترة التي أعقبت الكثير من الفوضى التي خلفتها الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا بعد ثلاثة أعوام من انتهاء الاستعمار الياباني لشبه الجزيرة الكورية عقب استسلام اليابان. ولكي نتعرف أكثر على القصة الكورية علينا التعرف على حدث هام في سنة التأسيس والمتمثل في تقسيم شبه الجزيرة الكورية إلى جزء شمالي يدعمه الاتحاد السوفييتي، وجنوبي يسانده الأميركيون. وقد هيمن في تلك الفترة مؤسسها الزعيم “كيم إيل سونغ” الذي رسم الخطوط العريضة للبلد وصاغ استراتيجيتها التي لا تزال حتى اللحظة تسير عليها.
ويقود كوريا حاليًا الزعيم “كيم جونغ أون”، وهو الحفيد للزعيم “كيم إيل سونغ”، وقد تقلد الحكم مطلع العقد الحالي في عام 2011 عوضًا عن والده الزعيم “كيم جونغ إيل” الذي توفي إثر نوبة قلبية.
ويعدُّ “كيم جونغ أون” هو الزعيم الثالث في سلالة الحكم لكوريا الشمالية. وتعاطيه السياسي، وطريقة إدارة الحكم، سواء في الداخل أو الخارج، لم تختلف البتة عن جده ووالده، بل استمر على ذات النهج السياسي بشكل مطابق تمامًا.
معظم الأحداث المهمة والتاريخية في التاريخ الكوري الشمالي تنصب على الصعيد الخارجي بشكل كبير جدًا. فرغم انفصال الكوريتين عند تأسيس كوريا الشمالية في عام 1948، فإنه وبعد عامين فقط اندلعت حرب بين الكوريتين استمرت ثلاثة أعوام.
وفي عام 1992 كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية توافقان على إخلاء شبه الجزيرة الكورية من السلاح النووي. إذ تحظر المعاهدة الأسلحة النووية وتلزم كلا البلدين باستخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية فقط.
وبعدها بعام رفضت كوريا الشمالية عمليات التفتيش التي تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتعلن عزمها على ترك معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. أعقبها سلسلة من الأحداث الخارجية المتعلقة بالمشروع النووي الكوري الشمالي مع العديد من الدول، كما سيأتي لاحقًا في هذه القراءة.
وعليه يمكن تلخيص أسباب أحادية الصورة المتشكلة عن كوريا الشمالية في 4 اعتبارات أساسية:
جميع تلك العوامل ساهمت – بشكل كبير جدًا – في أحادية الرسائل الموجهة والمتشكلة تجاه كوريا الشمالية.
صمت مزعج
إن الضوء الإعلامي المسلط على كوريا دائمًا ما يركز على زاوية محددة دون النظر في الزوايا الأخرى، وتحديدًا فيما يخص الإعلام الخارجي، الذي ظل لعقود يتحدث عن “بيونغ يانغ” في إطار الملف النووي دون النظر إلى الجوانب الأخرى التنموية أو المتعلقة بحقوق الإنسان في الداخل الكوري. ورغم وجود العديد من الانتهاكات الإنسانية والقضايا التنموية، فإن الإعلام لم يتناولها مطلقًا كما يفعل مع دول أكثر تطورًا وانفتاحًا وتدعم حقوق الإنسان.
ويمكن تقسيم أنماط الإعلام الذي تعاطى مع الشأن الكوري إلى ثلاثة أقسام، وهي:
وهو الإعلام الذي يسيطر عليه الحزب الحاكم في كوريا الشمالية، وبالتالي فهو لا يمكن أن يظهر أي محتوى يتنافى مع سياسية الحزب، أو يمثل انتقادًا لعملها، أو يمكن أن يكون منبرًا للحديث عن المشاكل التنموية وحقوق الإنسان الموجودة في الداخل، بل هو يعتمد في أطروحاته على التركيز على الجانب النووي وتقديمه بصورة إيجابية، وأن ذلك يمثل تطور البلد مقابل حديث بسيط عن بعض الجوانب التنموية في الشأن الكوري، ولكن من زاوية إيجابية. كما أن عدد الوسائل في كوريا الشمالية تعتبر قليلة ومحدودة مقارنة بجاراتها، فضلاً عن أن جميعها مملوكة للحزب الحاكم.
إن المتمحص لواقع التعاطي الاتصالي والإعلامي الغربي تجاه كوريا الشمالية، طيلة العقود السبعة الماضية، يلحظ أنه يسير في اتجاه واحد، وهو الرسالة التي يصنعها الإعلام الغربي بعمومه، والأميركي بخصوصه، والتي صيغت عبر أكثر من شكل، جميعها جاءت باتجاه سلبي وهو شيطنة كوريا الشمالية بسبب برنامجها النووي. وقد جاءت الرسائل المصنوعة في الإعلام التقليدي على النحو التالي:
جميع تلك الرسائل بتنوع وسائلها كان الهدف الأساسي منها الحديث عن الملف النووي.
كافة تلك الأنماط الإعلامية استخدمت من قبل الإعلام الغربي طوال الفترة الماضية، ولا تزال مستمرة، بالإضافة إلى العديد من الأساليب الاتصالية والمتمثلة في سلسلة أحاديث للساسة الأميركان المتعاقبين حول كوريا الشمالية.
رغم تدفق الرسائل وتعددها طوال تلك الفترة، فإنها لم تتناول زوايا عديدة عن كوريا، وجميعها ارتكزت على المشروع النووي، بالإضافة إلى أحاديث بسيطة عن نمط الحياة، وكيف تدار الأمور في بلد شيوعي. غير أن وسائل الإعلام لم تفصل في ذلك كثيرًا بسبب ندرة المعلومات القادمة إليها من كوريا الشمالية.
ويقصد به الإعلام الداعم لكوريا الشمالية من غير الإعلام الكوري، وهو إعلام تتفق فيه دوله، أو تدعم السياسية الكورية، وتحديدًا في موقفها تجاه الولايات المتحدة. هذا النمط من الإعلام لم يتناول الشأن الداخلي الحكومي الحادث بأسلوب سلبي، بل حصرت الإيجابية في مواده تجاه كوريا، كما سيأتي الحديث في المحور التالي، بالإضافة إلى الحديث الدائم عن مشروع كوريا النووي.
الأنماط الثلاثة لم تعطِ المشاكل التنموية والانتهاكات الحقوقية الكورية حقها في تناولها الإعلامي. فما بين مؤيد بشكل مطلق، وآخر سلبي يرتكز على ملف واحد وهو المشروع النووي، والثالث محاولاً تجميل الداخل الكوري، غابت قضايا كوريا الداخلية فعليًا عن المشهد الإعلامي.
الإعلام الداعم
أشرنا إلى أساليب تلك الممارسات التي تمَّ وضع الرسائل الإعلامية في قوالبها ما بين صحف وقنوات وإذاعات وسينما. غير أن التساؤل المهم الذي يطرح نفسه: هل هناك رسائل وطرح إعلامي مقابلة لذلك الضخ المعلوماتي؟
وللإجابة عن هذا التساؤل يمكن أن نحلل الإجابة من شقين:
الأول: ردود إعلامية من كوريا الشمالية ذاتها
وهذا النوع يكاد يكون شبه معدوم لاعتبارات عديده، أهمها:
الثاني: ردود إعلامية من الخارج الكوري
وهنا نجد أن الردود تكون ضعيفة جدًا، غير أنها ليست معدومة. فبعض وسائل الإعلام العالمية غير الغربية، أو التي لا تقف موقفًا معاديًا لكوريا الشمالية وتتوافق مع السياسة الكورية، نجد أنها تناولت الشأن الكوري بسمه إيجابية وحاولت الوقوف في وجه تلك الانتقادات التي توجه لكوريا الشمالية في الإعلام الغربي.
ولعل قناة “روسيا اليوم” – تحديدًا – حاولت البحث في الداخل الكوري، سواء عبر فيلم وثائقي، أو من خلال تقارير إخبارية اتسمت بالإيجابية. غير أن حتى هذا النوع جاء صعبًا على القناة الروسية، كما تناولت ذلك في تقريرها بصعوبة التغطية وسلسلة التصاريح والإجراءات شبه المعقدة للتغطية في الشأن الكوري الشمالي.
ومما يزيد من صعوبة هذا النوع أيضًا أن حتى القوالب الإعلامية الأخرى من استضافات يغيب عنها ممثل للصوت الكوري الشمالي، ولا يوجد محللون يظهرون في تلك الوسائل. وهذا يجعل الوسائل تبحث عن أشخاص مطلعين على الشأن الكوري لتمثيل صوت “بيونغ يانغ” بالنيابة.
إن الصورة النمطية الأحادية التي شكلها الإعلام عن كوريا الشمالية في تصاعد، وحتى الإعلام المقابل لهذا المد الإعلامي لم تدعمه كوريا ذاتها من قبل إعلامها الداخلي.
تفاعل أممي
رغم حالة الصمت الكبيرة الإعلامية على الانتهاكات الإنسانية الموجودة في كوريا الشمالية وإشكاليات التنمية، فإن منظمة الأمم المتحدة لم تغفل هذا الجانب إطلاقًا؛ إذ تحدثت مرارًا وتكرارًا حول المشاكل التنموية الكورية، سواء عبر زيارات، أو تقارير مرفوعة، بالإضافة إلى إبداء قلقها الدائم حول مشروع “بيونغ يانغ”.
ويمكن حصر أبرز الملفات التي تناولتها الأمم المتحدة في إطار سلبي عن كوريا الشمالية خلال السنوات القليلة الماضية:
الجدول (أ) مواقف الأمم المتحدة حول المشروع النووي
الجدول (ب) مواقف الأمم المتحدة حول الانتهاكات الإنسانية والمشاكل التنموية في كوريا:
وسائل الإعلام بمختلف أطيافها وتصنيفها، سواء كانت الداخلية، أو الخارجية الغربية، أو المتعاطفة مع النظام الكوري الشمالي، جميعها اشتركت في ذات النقطة المشتركة، وهي إهمال كافة تلك القضايا الإنسانية، وكرست كل تغطياتها على الملف النووي رغم التفاعل الأممي في أكثر من مناسبة على ما يحدث في الداخل الكوري من قضايا أخرى!
ردود كورية قاسية
واجهت المواقف المتعددة للأمم المتحدة تجاه كوريا الشمالية ردودًا صارمة وقوية من قبل “بيونغ يانغ” بخلاف الاستراتيجية الكورية المتبعة تجاه مواقف وسائل الإعلام، بل وصل الأمر إلى حد النقيض من مستوى التعاطي، فنجد ردود كورية شمالية قوية وعنيفة على مواقف الأمم المتحدة. في المقابل صمت شبه تام تجاه التقارير وأحاديث وسائل الإعلام نحوها.
ولم تكن ردود كوريا الرسمية تجاه الأمم المتحدة وليدة اللحظة، بل هي امتداد لعقود من السجال بين الطرفين، وقد تصل بعض الردود على شكل مطالبات كورية للمنظمة.
وجاءت الردود الكورية عبر شكلين رئيسين:
ويمكن تلخيص أبرز الردود الكورية تجاه الأمم المتحدة، أو تحت مظلة الأمم المتحدة، على النحو التالي:
إن هذه الردود تعطي العديد من المدلولات التي يمكن قراءتها من المشهد الكوري:
غير أن تلك الردود الكورية لا تفي بالغرض، خصوصًا أنها تفتقد أهم الأدوات المطلوبة في السياسة، وهو الجانب الإعلامي ومواجهة الإعلام. فالردود الكورية الشمالية في الأمم المتحدة إمَّا تكون عبر بيان، أو كلمة تلقى دون أن يكون هناك لقاء مع الإعلاميين ووسائلهم ووكالات الأنباء، أو حتى ظهور ساسة من قبل في الوسائل المتعددة الموجودة هناك، أو أن يكون هناك وجود لإعلاميين كوريين يحاولون تمرير الرسائل الدعائية لبلدهم.
الممارسات الدعائية
إن اللافت في المشهد الكوري الشمالي أنها وبالرغم من الملفات الساخنة التي تحيط بها، سواء من قبل الدول المجاورة لها، أو حتى الدول الغربية، أو المنظمات، فإن ممارستها الدعائية في نطاق ضيق جدًا. وهي ممارسات مباشرة وتقليدية، فلا نجد رسائل دعائية صنعت من الداخل الكوري بشكل يوحي بوجود عمل منهجي في هذا الجانب.
وتعد أكثر الملفات الشائكة أمام “بيونغ ينغ” هي:
كافة تلك الملفات الساخنة تستوجب ممارسات دعائية كبيرة جدًا وعلى نطاق واسع، سواء من الداخل الكوري، أو من خلال أذرع توظف لتمرير الدعايات السياسية الكورية الشمالية.
غير أننا نجد ما يحدث من ممارسات دعائية لا يواكب أبدًا تلك العاصفة من القضايا التي تواجه كوريا، وممارسات طفيفة مثل وضع مكبرات صوتية على الحدود مع كوريا الجنوبية لبث الرسائل الدعاية التي قامت بها أخيرًا، وسبق أن أزيلت تلك المكبرات عام 2018 حينما وقعت الكوريتان اتفاقًا لوقف “كل التصرفات العدائية”.
ويمكن تلخيص الرسائل الدعائية الكورية على النحو التالي:
كوريا الشمالية – فعلًا – تعدُّ سرًا محيرًا، سواء لمن هم في محيطها، أو الدول المتوافقة معها، وبطبيعة الحال لخصومها. فالنهج الكوري الشمالي على كافة الصعد، بات فريدًا من نوعه، ولا يوجد في أي بلد آخر.
أكاديمي متخصص في العلاقات العامة*
MajedAljuraywi@
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر