الصراع على ليبيا | مركز سمت للدراسات

الصراع على ليبيا

التاريخ والوقت : الإثنين, 1 يونيو 2020

د. هالة مصطفى

 

لم يمنع الخوف الناجم عن انتشار فيروس كورونا، من استمرار الصراعات وتصاعدها عبر العالم وفى مقدمتها ما يجرى فى ليبيا الآن من احتدام المعارك بين قوات الجيش الليبى بقيادة المشير خليفة حفتر والميليشيات التابعة لرئيس حكومة الوفاق فايز السراج التى تضم بين صفوفها معظم جماعات الاسلام السياسى من الاخوان إلى التنظيمات الجهادية التكفيرية بدعم مباشر من تركياَ، إذ لم يتمكن الأول من دخول العاصمة طرابلس كما كان مخططا فى البداية، وتأرجحت المعارك بين الاستيلاء على بعض المدن التى لا يلبث أن يستعيدها الثاني، وكان آخرها قاعدة «الوطية»، فى دورة لا تبدو لها نهاية فى الأفق القريب.

لا شك أن أحد الأسباب الرئيسية لتلك الحلقة المفرغة يكمن فى تدويل هذا الصراع الذى لم يعد محليا بكل المقاييس، فهناك أطراف دولية وأخرى إقليمية وثالثة بالوكالة، ولكل منها مصالح وحسابات خاصة تناقض بعضها البعض، ولعل أبرز هذه الأطراف هما الطرفان الأمريكى والروسى اللذان دخلا فى صراع مفتوح للاستحواذ على الملف الليبى كجزء لا يتجزأ من تنافسهما العالمى.
فإلى زمن قريب دعمت الولايات المتحدة المشير حفتر وأبقت على كل القنوات مفتوحة معه وهو ما بدا من خلال زياراته المنتظمة إليها والتنسيق شبه المستمر معها، ولكن الوضع بدأ يتغير فى الآونة الأخيرة، خاصة بعد إعلانه إسقاط اتفاق الصخيرات وأسفر عن تشكيل مجلس رئاسى تقوده حكومة الوفاق وتمديد عمل البرلمان القائم فضلا عن تأسيس مجلس أعلى للدولة، وهى الخطوة التى اعتبرتها واشنطن منفردة تسعى إلى فرض حل أحادى الجانب، كما جاء فى تصريحات ديفيد شينكر مساعد وزير الخارجية الأمريكى لشئون الشرق الأوسط.

لكن اللافت فى هذه التصريحات ويوجب التوقف عنده، أنها ركزت بصورة أساسية على العلاقة الوثيقة التى تربط الجيش الليبى بروسيا وتلقيه دعما كبيرا منها، وهى العلاقة التى اعتبرتها المسبب الأول فى زعزعة الاستقرار بحكم ما أدت إليه من تغلغل لوجودها العسكرى هناك وتدفق أعداد هائلة من قواتها الأمنية الرسمية وغير الرسمية (مثل المجموعات المسلحة التابعة لشركة الأمن الروسية الخاصة فاجنر والتى يتردد اسمها فى العديد من البلاد التى تشهد نزاعات عسكرية ويقال إنها على علاقة ببعض الجهات السيادية فى موسكو تحدد لها دورها الخارجي) وقد اتهمتها بعض المصادر فى الخارجية الأمريكية صراحة بتعمد إسقاط الطائرة الأمريكية المقاتلة فوق الأراضى الليبية وأنها لم تُسقط بالخطأ من قبل قوات حفتر كما تم تبريره فى حينه.

والأهم ، من نفس وجهة النظر هذه، أنها ستمكن موسكو من محاصرة الحد الجنوبى لحلف شمال الأطلنطي، وهو فى الواقع صلب الموضوع، فتزايد النفوذ الروسى فى ليبيا سيضيف من أوراق الضغط التى تمتلكها وتوظفها فى محيطها الأوروبي، إضافة إلى ما يوفره لها من عناصر للقوة فى الشرق الأوسط (بعد تمكنها من سوريا) وكذلك افريقيا، وبالتالى تعزز من مكانتها الدولية، لذا لم يكن مستغربا أن تأتى تصريحات شينكر فى نفس اتجاه شهادته أمام إحدى جلسات الاستماع بالكونجرس قبل ذلك بشهور والتى تجنب فيها إدانة التدخل التركى فى الأزمة تأسيسا على ما أدى إليه من إبطاء لتقدم قوات حفتر نحو طرابلس.

باختصار لا تريد أمريكا حسم الصراع فى المرحلة الحالية خشية أن ينتهى الأمر بتغيير توازنات القوى لمصلحة غريمها بوتين رجل الكرملين القوي، وقد تفضل تطبيق صيغة لا غالب ولا مغلوب ومن ثم إطالة أمد الصراع لحين التوصل إلى تسوية سياسية، أو بالأحرى تهيئة المجال لها وفقا لتلك المعادلة، وربما تكون هذه هى الزاوية الحقيقية التى تنظر بها إدارة ترامب إلى الصراع فى ليبيا، وهو ما يفسر أيضا اتخاذها موقفا أكثر وضوحا الآن بعد طول تردد وغموض.

أما روسيا، فقد كانت ليبيا تاريخيا نقطة ارتكاز رئيسية لها فى المنطقة زمن الحرب الباردة ، وفى الوصول إلى المياه الدافئة شرق البحر المتوسط، مثلما كانت من أكبر مستوردى سلاحها فى عهد القذافي، وهو ما فقدته بتدخل الناتو 2011 لإسقاط نظامه، كما أنه بلد غنى بالنفط يمكن من خلال ضبط حجم انتاجه صعودا أو هبوطا، التحكم فى أسعاره عالميا، وهو ما يعود بالفائدة عليها، باعتبارها من أكبر منتجى هذا المصدر الحيوى للطاقة، وقد استطاعت خلال السنوات الأخيرة أن تستعيد نفوذها فيه وبقوة ملحوظة ولن تتخلى عنه بالطبع، مما يزيد من حدة صراعها مع الغرب، وهناك عامل إضافى تعول عليه بعد بسط سيطرتها إلى حد كبير على الواقع المحلي، وهو الانقسام فى صفوف الأخير، فأوروبا ليست على موقف واحد، صحيح أن الأمين العام للناتو فى حوار مع صحيفة لاريبوبليكا الإيطالية أكد ضرورة حظر السلاح للقوى الليبية المتنازعة وطالب بوقف فورى لإطلاق النار واعتبر حكومة الوفاق شرعية لأنها هى المعترف بها دوليا، إلا أن ذلك لايعكس مواقف جميع الدول الأعضاء فى الحلف، مثل فرنسا واليونان اللتين يدعمان المشير حفتر ويدينان الطرف الآخر الذى تسانده تركيا، لأنه يفتح الباب واسعا لانتشار وتقوية الجماعات الإرهابية المنضوية تحت لوائه، كما يعكس أطماعها فى غاز المتوسط.

وفى خضم هذا الصراع الدولي، تسعى أنقرة بزعامة أردوغان إلى تحقيق أقصى منفعة ممكنة، فلم يقتصر الأمر على توقيع اتفاقها الأمنى والعسكرى مع حكومة السراج الذى أعطى لها شرعية لوجودها هناك، وإنما قدمت أقصى دعم بالخبراء العسكريين والسلاح والمقاتلين من المرتزقة السوريين المنتمين لأكثر الجماعات تطرفا كداعش وجبهة النصرة وأمنت نقلهم من إدلب السورية (التى تسيطر عليها) إلى طرابلس الليبية، بل وقامت بإنشاء جسر جوى وقاعدة عسكرية بالقرب من العاصمة، وكلها عوامل ترسخ أقدامها فى هذا البلد العربى وتجعلها قادرة على تغيير سير المعارك لمصلحة أهدافها.

تبدو معركة ليبيا مصيرية بالنسبة لتركيا لتنفيذ مشروعها الإقليمى التوسعي، والشيء نفسه ينطبق على مسعاها لتشكيل جبهة من جماعات الاسلام السياسى السنية تعضيدا لهذا المشروع، بعد أن خسرت رهانها على مصر بسقوط حكم الاخوان وأخفقت فى تحقيق النجاح الذى توقعته فى سوريا والعراق، كذلك فليبيا تُعد حاليا بوابتها إلى سوق الطاقة وغاز البحر المتوسط خاصة أنها لم تكن يوما طرفا فى الترتيبات الإقليمية والدولية التى أبرمت بشأنه، لذلك تحاول بكل الطرق أن تميل كفة الناتو التى تتمتع بعضويته إليها، وألا تعارضها الولايات المتحدة.

هكذا تتكالب أطراف الصراع وأصحاب المصالح لتحويل ليبيا إلى سوريا ثانية، فهل تنجح؟.

 

المصدر: صحيفة الأهرام

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر