محمد حبش كنو

 

في عام 1949 بدأ حكم الرئيس ماو تسي تونغ الصين وأقر النظام الشيوعي. ولأن المجتمع الصيني كان مجتمعا زراعيا فقد قرر أن يحوله إلى مجتمع صناعي لمنافسة الدول الصناعية الكبرى آنذاك. وبما أن هذا التحول يحتاج وقتا طويلا فقد اخترع فكرة القفزة الكبرى أي تحويل المجتمع سريعا إلى مجتمع صناعي.

تقرر أن يهاجر الفلاحون إلى المدن الكبرى للعمل في الصناعات وإبقاء أعداد قليلة من الفلاحين للإستفادة من المحاصيل الزراعية إلى جانب إعداد أفران صهر الحديد في القرى وإلزام الفلاحين بصهر أوزان معينة من الحديد كل عام وتوفير الخردة بأية طريقة كانت.

في المدينة تم جمع الفلاحين في نظام الكومينات Communism وهي كلمة لاتينية تعني الشيوعية أو العيش المشاعي وكان الفلاحون يعملون ليلا ونهارا في المصانع ثم تأخذ الدولة كل شيء وتم منع تخزين الحبوب والأطعمة بل قامت السلطات بصهر الأواني والحلل المطبخية لمنع الطبخ في البيوت وتم إنشاء مطابخ خاصة تديرها الدولة لإطعام الفلاحين في موائد جماعية.

لزيادة المحاصيل من الحبوب أمر ماو تسي بقتل جميع الطيور حتى لا تأكل البذور ما أدى إلى إنتشار الحشرات بشكل رهيب وتم إحداث خلل في النظام البيئي لأن الطيور التي كانت تأكل الحشرات تمت إبادتها.

ماذا كانت النتيجة؟ الإنتاج انخفض بدل أن يرتفع وذلك لغياب المنافسة حيث إن العامل إن بذل جهدا أو لم يبذل فالأموال تذهب للدولة وفق النظام الشيوعي. أما من بقي من الفلاحين لزراعة الحبوب فقد كانت الدولة تأخذ منهم الحبوب بأسعار زهيدة ثم تخزنها أو توردها للدول الأخرى بأسعار غالية. ولأن القائمين على المحاصيل من الموظفين كانوا خائفين من إرسال كميات قليلة من المحاصيل التي ضعفت أساسا بسبب قلة الفلاحين الذين تم تهجير أغلبهم للمدن الكبرى فقد قاموا بإرسال الحصص المخصصة لغذاء الفلاحين إلى الدولة وزادوا في الأرقام بعمليات تزوير وفساد ممنهجة وهكذا بدأت مجاعة الصين الكبرى.

مجاعة الصين بدأت عام 1958 وتعتبر أكبر مجاعة في تاريخ البشرية حيث مات بسببها 45 مليون إنسان حتى أن الناس كانت تأكل الجثث وتأكل كل ما يصادفها على الأرض ومن هنا انتشرت فكرة أكل الحيوانات بمختلف أنواعها على عكس ما يعتقد البعض بأنها كانت ثقافة صينية قديمة والحقيقة هي أنها من ميراث الشيوعية.

أكلت الناس الضفادع والكلاب والخفافيش والحشرات وأوراق الشجر والتراب ولحم البشر فقررت الدولة التخفيف عن الناس وعودة الفلاحين إلى قراهم لكن الناس لم يكونوا يملكون ما يزرعون من بذور ولم تنته المجاعة. وأخيرا في عام 1961 منت الدولة على الشعب ووزعت مخزونها الإستراتيجي من المحاصيل وانتهت المجاعة واعترفت الدولة بها بعد أن كانت في حالة إنكار تام بل إن السلطة قتلت ثلاثة مليون إنسان ممن اعترضوا أو حاولوا الحصول على المخزون الإستراتيجي للدولة وقام ماو تسي تونغ بإقالة وزير الدفاع حين تحدث في البدايات عن وجود مجاعة كبرى في البلاد.

استقال ماو تسي من رئاسة الحكومة بعد ذلك وبقي في رئاسة الحزب الشيوعي متحكما بكل تفاصيل البلاد وهو نظام شبيه بنظام ولاية الفقيه الإيراني أو نظام المرشد لدى الإخوان المسلمين. وعلى العموم فإن الأحزاب الإسلامية أخذت الكثير من الأحزاب الشيوعية لكنها ألبستها عباءة دينية. وبهذه الطريقة ضمن ماو أنه سيتخلص من كل الإنتكاسات التي ستحدث مستقبلا وسيرميها على عاتق الحكومة وتم العمل بهذه السياسة في الكثير من الدكتاتوريات فيما بعد حيث يتم تحميل الوزراء والحكومة كل شيء بينما يكون الملك أو الرئيس خطا أحمر مع أن السمكة تفسد من رأسها أساسا كما يقال.

تعودت الناس على أكل الحيوانات البرية ولكي تتخلص الدولة من عبئ تغذيتهم شجعت على ذلك بل استخدمت كلمة السر لترويج أية بضاعة وهي أن هذه الحيوانات مفيدة للضعف الجنسي بل إن ماو تسي اعتبر تربية الكلاب والقطط الأليفة من بهارج البرجوازية وأجاز أكلها للجمهور وهكذا أصبح أكل جميع أنواع الحيوانات ثقافة وتجارة رائجة فيما بعد حتى أصابت البشرية بفيروس كورونا الذي يشتكي منه الجميع اليوم والذي دمر إقتصاديات الدول وهذا من ميراث الشيوعية الذي لا تنتهي آثاره أبدا.

قرر ماو تسي الإنفتاح الديمقراطي وسمح بانتقاد السلطة فكتب الناس وكتب الإعلام وعلت الأصوات وفجأة اعتقل ماو الجميع ووصل عدد المعتقلين داخل السجون إلى نصف مليون إنسان كثير منهم مات تحت التعذيب وفي عام 1984 وفي عهد الرئيس الصيني لي شيان نيان قررت الصين التخلص من هذه الإجراءات الإقتصادية الفاشلة وإلغاء نظام الكومين والإنفتاح التدريجي على القطاع الخاص وكان الإتحاد السوفيتي يمشي نحو حتفه وتفككه ودول المعسكر الشرقي تتداعى وفي نفس التوقيت نشأ حزب العمال الكردستاني الذي بدأ من حيث انتهى الآخرون.

اليوم لا توجد أنظمة تستخدم تلك الإشتراكية الصماء. فروسيا نفسها تخلت عنها ودول أوروبا الشرقية دخلت النادي الرأسمالي والصين انفتحت على الرأسمالية وكوبا تتناغم مع العالم الجديد وكثير من الأنظمة تهاوت إما بثورات عنيفة أو ثورات برتقالية أو تغيير ناعم من الداخل ونستطيع القول بأن هناك أنظمة هامشية غير مكتملة النمو كالإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا هي الوحيدة التي تعيد تلك التجارب بنفس تلك الأساليب من نظام الكومينات وفرض أسعار زهيدة على محاصيل الفلاحين من القمح والشعير والتي لا تناسب ربع الأسعار العالمية إلى غير ذلك من تجارب عفى عليها الزمن ومع انتشار الفساد وزيادة الفقر وانهيار العملة السورية والتدخلات التركية وتداعيات فيروس كورونا ليس غريبا أن نشهد المجاعات في قادم الأيام.