سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
حبيب الشمري
تمثل صفقات التسلح السعودية مع الشريك الأميركي، واحدة من أهم الملفات وأعقدها، وذلك لما لهذا الملف من انعكاسات في جوانب كثيرة، بداية من النفوذ والسياسة، ونهاية بالاقتصاد والتنمية، ومرورًا بكونها معيارًا لقياس مدى متانة التحالف بين البلدين الصديقين. ومنذ سبعينيات القرن الماضي، كانت هذه الصفقات السعودية حديث وسائل الإعلام الغربية والأميركية تحديدًا، مرت بعضها دون ضجيج يذكر، بينما دوت بعضها في وسائل الإعلام بشكل غير مسبوق بدعوى أنها تثير مخاوف دول إقليمية.
ولعل من أبرز الصفقات التي أثارت ضجة كبيرة، هي صفقة طائرات F15 في بداية الثمانينيات، التي كانت بداية تحديث قوة القوات الجوية السعودية. لقيت تلك الصفقة معارضة كبيرة في الكونجرس، ومن المنظمات اليهودية المناصرة لإسرائيل، لكنها شكلت نقلة نوعية في تعزيز القوة الجوية السعودية، وجعلتها – إضافة إلى حزم تدريبية صارمة وعالية المستوى للطيارين السعوديين – المتفوقة في المنطقة كلها، ولعبت دورًا كبيرًا في لجم جماح الأطماع الإيرانية.
ويتذكر الناس، هنا في منطقة الخليج العربي، “خط فهد” الذي حدد كخط أحمر للقوة الجوية الإيرانية، لمنعها من الاقتراب من الأجواء السيادية للمملكة العربية السعودية، وحينها حاولت إيران التي كانت تخوض حربًا شرسة ضد العراق، اختبار الصبر السعودي في المواجهة، فكان مصير الطائرتين الإيرانيتين في أعماق الخليج العربي. وحتى قبل صفقة الطائرات المقاتلة، كان للأميركيين دور في تطوير الحرس الوطني السعودي – وهو قوة مساندة في السعودية نشأ من بقايا أفراد القبائل الذين حاربوا لتوحيد البلاد مع الملك عبدالعزيز عام 1932 – ومثلت شركة فينيل الأميركية، وذراعها المحلي دورًا محوريًا لتحويل الحرس الوطني إلى قوة كبيرة تسند إليها مهمات قتالية دفاعية، كما في العمليات العسكرية التي تجري حاليًا على الحدود الجنوبية للمملكة العربية السعودية. كما كان لتلك القوة التي كان يقودها الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، دور مؤثر في حرب الخليج لتحرير الكويت، حيث أبلت بلاء حسنًا في تحرير المنطقة البترولية السعودية (الخفجي) في عام 1991 من قبضة جيش صدام حسين.
وامتدادًا لهذه الصفقات المؤثرة، استلمت السعودية في يناير 2017 طلائع المقاتلات الجديدة F15 – SA) النسر الجارح)، لتنضم إلى أسطول القوات الملكية الجوية السعودية، وذلك ضمن صفقة وقعت في عام 2012 وتنص على شراء 84 مقاتلة من هذا النوع الذي يعتبر من أحدث الطائرات في العالم، وتحوي أجهزة متقدمة جدًا في الحرب الإلكترونية، وتعمل معظمها بالتكنولوجيا الرقمية، ويمكن تحميل الطائرة بالأسلحة التقليدية، أو الذكية الحديثة.
لكن صفقات التسلح السعودية الجديدة، طرأ عليها تغيير لافت منذ تولي الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود مقاليد السلطة في البلاد. يبرز هذا التطور من خلال تولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، هذا الملف، وهو الرجل الذي يتولى منصب وزير الدفاع أيضًا، وتركيزه هو دعم هذا التوجه في الصفقات في سياق رؤية 2030، بحيث تعزز من النمو الاقتصادي، المرتكز على نقل وتوطين التقنية، كما يترافق مع اتفاق سعودي – أميركي على عقد صفقات بقيمة تتجاوز 100 مليار دولار على مدى الأعوام العشرة المقبلة، وهو الاتفاق الذي حظي بموافقة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، خلال زيارته للرياض في مايو الماضي.
الخطوة السعودية، عمدت إلى تحويل صفقات التسلح إلى مصدر قوة لترسانة الأسلحة السعودية، لتكون محركًا للاقتصاد من خلال تهيئة البيئة المحلية، التي تتمثل في إطلاق شركة صناعات عسكرية وطنية جديدة تحمل اسم الشركة السعودية للصناعات العسكرية، مملوكة لصندوق الاستثمارات السعودية (الصندوق السيادي)، التي يمكن أن تمثل مكونًا مهمًا من مكونات رؤية المملكة 2030، ونقطة تحول فارقة في نمو قطاع الصناعات العسكرية، حيث ستصبح منصةً مستدامة لتقديم المنتجات والخدمات العسكرية التي تستوفي أرفع المعايير العالمية. ويعمل الصندوق على استكمال الإجراءات النظامية لاستخراج التراخيص اللازمة من الجهات ذات العلاقة.
وفي هذا الصدد، أكد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع، رئيس مجلس إدارة صندوق الاستثمارات العامة في أبريل الماضي، أن الشركة السعودية للصناعات العسكرية، ستسعى إلى أن تكون محفزًا أساسيًا للتحول في قطاع الصناعات العسكرية، وداعمًا لنمو القطاع ليصبح قادرًا على توطين نسبة 50% من إجمالي الإنفاق الحكومي العسكري في المملكة بحلول عام 2030. يحاول ولي العهد الجديد – الذي يتولى أيضًا حقيبة وزارة الدفاع – رفع هذه النسبة من 2% حاليًا، انطلاقًا من كون المملكة هي إحدى أكبر خمس دول إنفاقًا في العالم على قطاعي الأمن والدفاع. ويؤمل من هذه الخطوة أن تكون عاملاً مؤثراً في الناتج المحلي الإجمالي للمملكة، كما ستكون معززة لميزان المدفوعات؛ وذلك لأنها ستقود قطاع الصناعات العسكرية نحو زيادة المحتوى المحلي، وزيادة الصادرات، وجلب استثمارات أجنبية إلى المملكة عن طريق الدخول في مشروعات مشتركة مع كبريات شركات الصناعة العسكرية العالمية. وإضافة إلى ما سبق، ستزيد الشركة الطلب على المنتجات المحلية من المكونات والمواد الخام كالحديد والألمونيوم، والخدمات اللوجستية، وخدمات التدريب.
ويقول ولي العهد في تصريحات حول هذه الخطوة، إن الشركة “ستطرح منتجاتها وخدماتها في أربعة مجالات حيوية يكمّل بعضها بعضًا، وتوفّر الاحتياجات الرئيسة للقطاع العسكري في المملكة مستقبلًا، مع الاستفادة من القدرات الصناعية العسكرية الحالية في المملكة، وهذه المجالات الأربعة، هي: مجال الأنظمة الجوية، ويشمل صيانة وإصلاح الطائرات ثابتة الجناح، وصناعة الطائرات بدون طيار وصيانتها، ومجال الأنظمة الأرضية، وتشمل صناعة وصيانة وإصلاح العربات العسكرية، ومجال الأسلحة والذخائر والصواريخ، ومجال الإلكترونيات الدفاعية، وتشمل الرادارات والمستشعرات وأنظمة الاتصالات والحرب الإلكترونية.
وستعمل الشركة السعودية للصناعات العسكرية على تأسيس شركاتٍ تابعة في كلٍّ من هذه المجالات الأربعة من خلال مشروعات مشتركة مع شركات التصنيع الأصلية، وبالاستفادة من شركات الصناعات العسكرية المحلية. أما مستقبلًا، فتحتفظ الشركة السعودية للصناعات العسكرية بالمرونة الهيكلية لتأسيس مزيد من وحدات الأعمال، بحسب ما قد يبرز من التطورات على مستوى التقنيات الحديثة والتوجهات في الصناعات العسكرية.
ويتمثل الهدف الاستراتيجي للشركة في الوصول إلى مصاف أكبر 25 شركة صناعات عسكرية عالمية مع حلول عام 2030، بما يجعل المملكة شريكًا قويًا في قطاع الصناعات العسكرية على الساحة العالمية. ويتوقع أن تبلغ مساهمة الشركة المباشرة في إجمالي الناتج المحلي للمملكة أكثر من 14 مليار ريال. كما ستخصص نحو 6 مليارات ريال للاستثمار في عمليات البحث والتطوير، وستوفر أكثر من 40,000 فرصة عمل في المملكة، معظمها في مجال التقنيات المتقدمة والهندسة. كما ستساهم في توليد أكثر من 30 ألف فرصة عمل غير مباشرة، وخلق المئات من الشركات الصغيرة والمتوسطة.
ولضمان توطين مثل هذه المهارات وتنمية الكفاءات السعودية واستبقائها، تخطط الشركة للإعلان عن عدد واسع من برامج وفرص التدريب والرعاية للطلاب في الجامعات والكليات التقنية والفنية في جميع مناطق المملكة.
وفي إطار الشراكات والتعاون التجاري بين البلدين، وقعت المملكة في أواخر مايو 2016، مذكرة تفاهم مع شركة GEالأميركية لاستثمارات مشتركة بقيمة ثلاثة مليارات دولار في قطاعات استراتيجية وفق رؤية المملكة 2030. وفي مجال الطيران تمَّ الاتفاق في أواخر فبراير 2016م على تأسيس شركة سعودية بالشراكة بين شركة تقنية للطيران وشركة سايكروسكي الأميركية، لغرض تطوير وتصنيع وإنتاج الطائرة العمودية متعددة الأغراض من نوع (بلاك هوك) في المملكة. كما تمَّ أيضًا تأسيس شركة سعودية بين شركة تقنية الفضائية، وشركة ديجيتال قلوب الأميركية، لتصنيع وتسويق مجموعة من الأقمار الصناعية الصغيرة المخصصة للاستطلاع بالتصوير الفضائي. وهكذا يتضح أن صفقات التسلح السعودية، قد تجاوزت مفهوم التفوق العسكري، إلى اعتبارها محركًا أساسيًا في التحول الذي تعيشه البلاد، خاصة على صعيد الاقتصاد، لكنها أيضًا تعكس استقرارًا سياسيًا، ودورًا مؤثرًا في حفظ الأمن والاستقرار العالمي، في منطقة مضطربة.
كاتب وصحفي سعودي*
@habeebalshammry
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر