المؤشرات الاقتصادية لن تخبرنا بالسبب الفعلي للركود | مركز سمت للدراسات

المؤشرات الاقتصادية لن تخبرنا بالسبب الفعلي للركود

التاريخ والوقت : السبت, 4 يناير 2020

فرانك شوستاك

 

يرى معظم الاقتصاديين أنه من خلال المؤشرات الاقتصادية، يمكن تحديد العلامات المبكرة للركود أو الرخاء في المرحلة المقبلة. لكن ما هو المنطق وراء هذا الرأي؟

لقد قدَّم المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية (NBER) منهاجية لقراءة المؤشرات الاقتصادية في الثلاثينيات من القرن العشرين؛ حيث قام فريق بحث بقيادة “دبليو سي ميتشل” و”آرثر بيرنز” بدراسة حوالي 487 من البيانات الاقتصادية للتأكد من “لغز دورة الأعمال”. وبحسب “ميتشل” و”بيرنز”، تُعتبر دورات الأعمال بمنزلة تقلبات واسعة في العديد من المؤشرات التي تسمح عند المراجعة الدقيقة بتحديد القمم ومجالات النشاط الاقتصادي العام. وقد خلص فريق البحث إلى أنه نظرًا لتعقد أسبابها وصعوبة فهمها بشكل صحيح، فمن الأفضل التركيز على نتائج دورات العمل كما يتضح من البيانات الاقتصادية.

وقد تمَّ تصميم منهاجية المؤشرات حتى تكون على قدر ممكن من الحياد ليتم النظر إليها كعمل علمي محض. وهو ما ذهب إليه “موراي روثبارد” عن منهاجية المكتب الوطني، ذلك أنه إذا كانت العوامل الدافعة لدورات الكساد المفاجئ غير معروفة، كما هي الحال في المنهجية الأساسية المتبعة في المكتب الوطني، فكيف يمكن للحكومة والبنك المركزي اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة هذه الظواهر غير المعروفة؟ بخلاف المكتب الوطني، فإن البيانات لا تتحدث من تلقاء نفسها، كما أنها لا تصدر أية “إشارات” على هذا النحو. وقد جاء تفسير هذه البيانات الموجهة من خلال نظرية تنطوي علي “إشارات” مختلفة.

وبالإشارة إلى أن دورات الأعمال تدور حول تقلبات البيانات، لا يمكن للمرء أن يقول شيئًا حول ما هي دورات العمل في الواقع. وبالتالي، فمن أجل تحديد ماهية دورات العمل، يجب التأكد من العوامل التي تقف خلف ظهور التقلبات الاقتصادية.

هل مصادر دورات الأعمال فعلاً غير معروفة؟

بخلاف اقتراب المؤشرات الخاصة بالمكتب الوطني، لا تدور دورات الكساد المفاجئ حول قوة البيانات على هذا النحو. (فعلى سبيل المثال، بالنسبة للمكتب الوطني، يمثل الركود انخفاضًا كبيرًا في النشاط الموزع عبر الاقتصاد لأكثر من بضعة أشهر). ومن ثَمَّ، فإنه يتعلق بالأنشطة التي نشأت خلفية السياسات النقدية الفضفاضة للبنك المركزي. لذا، فعندما يفقد البنك المركزي موقفه النقدي، فإنه يبدأ طفرة اقتصادية عن طريق تحويل مدخرات حقيقية من مولدات الثروة إلى مختلف الأنشطة غير المولدة للثروات التي لن يسهلها السوق الحرة دون عائق. وكلما غيَّر البنك المركزي من موقفه النقدي، فإنه يُبَطِّئ أو يضع حدًا لتحويل المدخرات الحقيقية نحو الأنشطة غير المدرة للثروة، وهذا بدوره يقوِّض وجودها. هنا يكمن العامل الأساس وراء دورات الكساد في السياسات النقدية للبنك المركزي، وليس بعض العوامل الأخرى غير المعروفة.

وعلى ذلك، فكلما تبنى البنك المركزي موقفًا أكثر مرونة، يجب اعتباره بداية لازدهارٍ اقتصاديٍ. وبالمقابل، فإن تبني موقفٍ أكثر تشددًا يؤدي إلى كساد اقتصادي أو مرحلة التصفية.

وتبرز ظروف تلك المرحلة التي تشهد عمليات تصفية عديدة، مدى التشوهات التي تحدث أثناء الطفرة الاقتصادية. فكلما زادت التشوهات، كانت مرحلة التصفية أشد وطأة. كما أن أي محاولة من قبل البنك المركزي والحكومة لمواجهة تحديات مرحلة التصفية من خلال التحفيز النقدي، من شأنها أن تقوض نسبةً من المدخرات الحقيقية، ومن ثَمَّ إضعاف الاقتصاد الحقيقي.

ونظرًا لأن سياسات البنك المركزي هي التي تعمل على إطلاق دورات الكساد، يتضح أن هذه السياسات هي التي تقود نحو تقلبات اقتصادية. فعندما يغير البنك المركزي موقفه النقدي، لا يكون التأثير محسوسًا في حينه، ذلك أنه يستغرق بعض الوقت. ويبدأ التأثير عند نقطة معينة ثم ينتقل تدريجيًا من سوقٍ إلى آخر ومن فردٍ إلى آخر. إذ قد يسيطر الموقف النقدي السابق على المشهد لعدة أشهر قبل أن يتأكد الموقف الجديد نفسه.

التباطؤ الاقتصادي مقابل الركود

بخلاف التفكير السائد، فإن الركود لا يتعلق بالانخفاض في المؤشرات الاقتصادية المختلفة على هذا النحو، بل إنه يتعلق بتصفية الأخطاء التجارية الناجمة عن السياسات النقدية السابقة. وبالتالي، فإنها تتعلق بتصفية الأنشطة التي نشأت على هامش السياسة النقدية الفضفاضة فيما سبق. وقد يظهر التعديل اللاحق للإنتاج أو لا يظهر من خلال معدل نمو سلبي للناتج المحلي الإجمالي.

وكقاعدة عامة، تظهر أعراض الركود بمجرد أن يؤكد البنك المركزي موقفه النقدي. ذلك أن ما يحدد أكان الاقتصاد يقع في فخ الركود، أم يعاني فقط من تباطؤ اقتصادي عادي، هو حالة المدخرات الحقيقية. فما دامت هذه المجموعة في توسعٍ، فإن السياسة النقدية الأكثر تشددًا للبنك المركزي ستتوج بحدوث تباطؤ اقتصادي. وبعبارة أخرى، فرغم أن الأنشطة غير المولِّدة للثروات المختلفة ستعاني، فإن النمو الاقتصادي العام سيكون إيجابيًا، وهو ما يرجع إلى وجود المزيد من مولدات الثروة مقابل المولدات غير الثرية. ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك في مجموعة متزايدة من المدخرات الحقيقية.

فما دامت مجموعة المدخرات الحقيقية آخذة في التوسع، يمكن للبنك المركزي والمسؤولين الحكوميين الإيحاء بأن لديهم القدرة على منع الركود عن طريق الضخ النقدي وخفض أسعار الفائدة بشكلٍ مصطنعٍ.

ومع ذلك، فإن هذه الإجراءات تؤدي فقط إلى إبطاء أو إيقاف تصفية الأنشطة التي ظهرت على خلفية السياسة النقدية المرنة، ومن هنا يمكن الاستمرار في تحويل التمويل من مولدي الثروة إلى مستهلكين لها. وفي الواقع، فإن ما يدفع معدل نمو نحو النشاط الاقتصادي ليس الضخ النقدي، بل حقيقة أن مجموعة المدخرات الحقيقية تنمو بالفعل.

وهنا يمكن القول، من الخطأ التوهم بأنه من خلال الضخ النقدي يمكن أن يستمر الاقتصاد في التحطيم بمجرد أن تبدأ مجموعة المدخرات الحقيقية في الانخفاض. وبمجرد حدوث ذلك، يبدأ الاقتصاد في التراجع، أي أن الاقتصاد يقع في حالة ركود. ذلك أن التراجع الأكثر حدة في قيمة النقود لن يعكس التضخم (لأن النقود لا يمكن أن تحل محل الخبز). وفي الواقع، فإنه بدلاً من الهبوط، فإن السياسة النقدية الفضفاضة ستقوض تدفق المدخرات الحقيقية، وهو ما يزيد من إضعاف هيكل الإنتاج، ومن ثَمَّ إنتاج السلع والخدمات.

وفي كتاباته، يلقي “ميلتون فريدمان” باللوم على سياسات البنك المركزي في التسبب في الكساد العظيم. ووفقًا لـ”فريدمان”، فقد فشل الاحتياطي الفيدرالي في ضخ ما يكفي من الاحتياطيات في النظام المصرفي لمنع انهيار المخزون النقدي، وبالتالي في النشاط الاقتصادي. وبالنسبة لـ”فريدمان”، فإن فشل البنك الفيدرالي الأميركي لا يكمن في أنه تسبب في الفقاعة النقدية خلال العشرينيات من القرن الماضي، بل لأنه سمح بانكماش الفقاعة.

ومع ذلك، فإن الكساد الاقتصادي لا ينجم عن انهيار الأسهم المالية على النحو الذي اقترحه “فريدمان”، بل بسبب انهيار مجموعة المدخرات الحقيقية. فقد بدأ الانكماش في هذا التجمع عن طريق الضخ النقدي للبنك المركزي والاحتياطي المصرفي الكسري.

علاوة على ذلك، فإن الانخفاض في مجموعة المدخرات الحقيقية يؤدي إلى انخفاض الإقراض المصرفي ليتبعه انخفاض في قيمة الأسهم النقدية. وهو ما يعني أن السياسات النقدية الفضفاضة السابقة تسبب انخفاضًا في قيمة المدخرات الحقيقية وتؤدي إلى انهيار النشاط الاقتصادي وأسهم رأس المال.

وعلى هذا، فإن الانخفاض في أسعار الأسهم وأسعار السلع والخدمات تتبع الانخفاض في المعروض من النقود. حيث يعتبر معظم الاقتصاديين أن هذا خطأ “أخبار كاذبة” حيث يجب مواجهتها من خلال سياسات البنك المركزي. ومع ذلك، فإن أية محاولة لمواجهة انخفاض الأسعار عن طريق سياسات نقدية فضفاضة من شأنها أن تقوض قدرًا أكبر من المدخرات الحقيقية. بجانب ذلك، فحتى لو نجحت السياسات النقدية الفضفاضة في رفع الأسعار والتوقعات التضخمية، فإن هذا لا يمكن أن ينعش الاقتصاد بينما تتراجع قيمة المدخرات الحقيقية.

أخيرًا، فمن من الخطأ الاعتقاد بأن الانخفاض في أسعار الأسهم هو سبب الركود؛ حيث تقول النظرية العامة إن انخفاض أسعار الأسهم يقلل من ثروة الأفراد، ما ينعكس على إضعاف نفقات المستهلكين.

وبما أن تلك النظرية ترى أن الإنفاق الاستهلاكي يمثل 66% من الناتج المحلي الإجمالي، فإن هذا يعني أن الانخفاض في سوق الأسهم من شأنه أن يغرق الاقتصاد في حالة ركود. ومرة أخرى، فإن مجموعة المدخرات الحقيقية، وليس الطلب على السلع الاستهلاكية، هي التي تسمح بالنمو الاقتصادي. بالإضافة إلى ذلك، فإن أسعار الأسهم تعكس تقييمات الأفراد فيما يتعلق بالأمر الواقع. ونتيجة للضخ النقدي، فإن هذه التقييمات تميل لأن تكون خاطئة. ومع ذلك، فبمجرد أن يغير البنك المركزي موقفه، يمكن للأفراد أن يتعرفوا الحقائق ويمكنهم أن يغيروا رؤيتهم الخاطئة.

هنا نلاحظ أنه بينما يمكن للأفراد تغيير تقييماتهم لهذا الأمر، إلا أنه لا يمكنهم تغيير الواقع الموجود، الذي يؤثر على مجريات الأحداث في المستقبل.

 

إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات

المصدر: معهد مايسون

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر