سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
هال براندز
إنَّ هذا زمن تحولت فيه ذكرى، حري بها إظهار الوحدة الأميركية – الألمانية إلى مشاحنة عابرة للأطلسي خلال الاحتفال بالذكرى الثلاثين لسقوط جدار برلين في 9 نوفمبر (تشرين الثاني)، وهو حدث يرمز إلى انتصار الغرب في الحرب الباردة. مع ذلك انخرطت الولايات المتحدة وألمانيا منذ ذلك الحين في جدال وخلاف حول مقال رأي كتبه وزير الخارجية الألماني، ومكان إقامة تمثال رونالد ريغان في برلين. كان الخلاف ليصبح منسياً تماماً لولا أنه شاهد ودليل على انشقاق وخلاف عابر للأطلسي بشأن ما وضع نهاية للحرب الباردة، ولولا أنه يشير ضمناً إلى طريقة الإدارة الأميركية للتحالف والاستراتيجية الجيوسياسية اليوم.
بدأت هذه الجلبة في أول نوفمبر عندما نشر هايكو ماس المقال الذي بدا أنه اجتهد كثيراً فيه لينسب الفضل للجميع، باستثناء الولايات المتحدة، في المساعدة في تجاوز الانقسام الأوروبي الناجم عن الحرب الباردة. بعد بضعة أيام أزاحت وزارة الخارجية الأميركية الستار عن تمثال ريغان، الذي دفع ميخائيل غورباتشوف نحو «إسقاط الجدار» عام 1987، داخل حدود السفارة الأميركية في برلين. كان المكان ملحوظاً نظراً لما يبذله سكان برلين والمجلس المحلي للمدينة من مقاومة منذ مدة طويلة للمحاولات الأميركية لوضع التمثال في مكان آخر، وهو ما لم يترك أمامهم خياراً سوى إقامته على أرض أميركية في نطاق مجمع السفارة.
دفع هذا الأمر بعض المعلّقين الأميركيين إلى اتهام ألمانيا بنكران الجميل، مما تسبب بطبيعة الحال في امتعاض أوروبي بالنظر إلى أن الأميركيين أنفسهم لا يمثلون نموذجاً للتضامن العابر للأطلسي في الوقت الحالي. مع ذلك من الأفضل استخدام هذا الجدل كوسيلة لتسليط الضوء على التباين بين فهم الأميركيين وبين فهم الكثير من الأوروبيين للنصر الغربي في الحرب الباردة. وكان يحب ريغان وصف استراتيجيته لإثارة هذا الصراع بأنها «السلام عبر القوة».
يميل الأميركيون بوجه عام إلى الاعتقاد بأن الجزء المتعلق بـ«القوة» في المعادلة كان هو الأهم، حيث أوضحت الولايات المتحدة من خلال دفاعها عن العالم الحر، وتحجيم الطموحات العسكرية السوفياتية، أن التوسع والمدّ الشيوعي لن ينجح. وزادت أميركا من خلال بناء قوة عسكرية في نهاية السبعينات والثمانينات، وشنّت أميركا حرباً اقتصادية وآيديولوجية وسرية ضد الإمبراطورية السوفياتية، للضغط على عدو متعدد الأذرع، مما ساعد في اختراق الستار الحديدي. إن ريغان هو بطل هذه الرواية، فقد مهد وضوحه الأخلاقي وعزيمته في مواجهة «إمبراطورية الشر» لمعجزات عام 1989.
للكثير من الأوروبيين رأي مغاير، حيث يؤكدون أهمية الجزء المتعلق بـ«السلام» في المعادلة. كان للقوة العسكرية وتماسك الكيان الناتج عن معاهدة حلف شمال الأطلسي أهمية بالفعل، لكن محاولات بناء جسور مع الكتلة السوفياتية من خلال إتاحة التواصل بين الشعوب، والتشجيع على تعزيز حركة التجارة، والانخراط في الدبلوماسية البنّاءة، أدت في النهاية إلى إحداث تغير في العالم الشيوعي. السياسة الخارجية لألمانيا الغربية، وهي سياسة التواصل مع أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي، كذلك مهدت مع اتفاقية هلسنكي بشأن الأمن، والتجارة، وحقوق الإنسان في أوروبا، الطريق للإصلاح السلمي، والبيريسترويكا، وإعادة الهيكلة الاقتصادية والسياسية التي قام بها غورباتشوف. ويتم تصوير ريغان كمقاتل في حرب باردة رأى النور، وتبنى نهجاً دبلوماسياً صبوراً ومحترماً مع غورباتشوف.
بطبيعة الحال هذا الوصف للآراء الأميركية والأوروبية في الحرب الباردة كاريكاتوري الطابع، فأثناء الحرب الباردة كان هناك وقت تبنَّى فيه أعضاء حلف شمال الأطلسي نهجاً أكثر تشدداً من الولايات المتحدة نفسها، لكن الوصف يوضح وجود انقسام أساسي عابر للأطلسي حول ما أدى إلى إحراز الغرب لذلك النصر العظيم.
الطرفان على صواب إلى حد ما. نعرف استناداً إلى سجلات أميركية وسوفياتية تم نشرها أن هجوم ريغان عبر الحدود في بداية الثمانينات كان ضرورياً لاستعادة الزخم الغربي في الحرب الباردة، وإقناع قادة الاتحاد السوفياتي في النهاية ببدء حل هذا النزاع وفقاً للشروط الأميركية. أدرك المسؤولون السوفيات أن بلدهم، الذي كان يعاني من ركود اقتصادي، وفقر تكنولوجي، لن يكون قادراً على الصمود في جولة أخرى من سباق تسلح متقدم تكنولوجياً مع الولايات المتحدة. لقد كانوا غاضبين من خطابات ريغان الهجومية على النظام السوفياتي، لأنهم أدركوا قدرة ذلك الهجوم على إلحاق الدمار والخراب بهم.
مع ذلك نعلم أيضاً أن الانخراط الدبلوماسي والاقتصادي قد ساعد في اختراق الستار الحديدي. ومثلت البنود الخاصة بحقوق الإنسان في اتفاقية هلسنكي صرخة تجمع المعارضين، الذين قوضوا اتفاقية وارسو من الداخل، في نهاية المطاف. وقد ساعد التواصل الإنساني في جذب الأوروبيين الشرقيين نحو الغرب، مما أوضح مدى تخلف مجتمعاتهم في ظل الحكم الشيوعي. كذلك ساعد تقارب غورباتشوف ومن حوله مع المجتمعات الغربية قبل الوصول إلى السلطة في إقناعهم بضرورة تغيير النظام السوفياتي. إذا كانت سياسات ريغان التصادمية والقائمة على المواجهة في بداية الثمانينات قد نجحت في حصار موسكو وتضييق الخناق عليها، فقد جعل إصراره على دمج غورباتشوف في نهاية الثمانينات بدء تقديم الكرملين لتنازلات يبدو آمناً.
يمكن القول بإيجاز إن الاستراتيجية الغربية قد نجحت لأنها كانت مزيجاً بين هذا وذلك، حيث جمعت بين الإجراءات المتشددة واللينة، وهو ما أدى إلى جعل النظام السوفياتي أقل حدة بطرق مختلفة لكنها متكاملة. تتصل هذه الرواية بالاستراتيجية الأميركية من اتجاهين. أولا مع دخول الولايات المتحدة في منافسات طويلة الأمد مع الصين تحت حكم شي جينبينغ، وروسيا تحت حكم فلاديمير بوتين، ينبغي تذكر إمكانية الجمع بين العنف والإشراك. لا غنى عن القوة العسكرية والتنافس الآيديولوجي والضغط الاقتصادي في التعامل مع التحديات التي تفرضها الأنظمة السلطوية الاستبدادية الطموحة. مع ذلك فالجوانب الأكثر ليناً من الاستراتيجية، مثل إشراك مواطني تلك البلاد والتأثير عليهم، لا تقل أهمية عن الجوانب الأخرى.
لهذ السبب تؤدي مقترحات منع الطلبة الصينيين من الالتحاق بالجامعات الأميركية على سبيل المثال إلى نتائج عكسية. ربما تكون تلك التوصيات ناتجة عن المخاوف المبررة إزاء حماية حرية التعبير، وحقوق الملكية الفكرية، لكنها على الجانب الآخر تهدد بحرمان الولايات المتحدة من سلاح جيوسياسي مهم متمثل في فرصة جذب أولئك الصينيين الباحثين عن تجارب في الخارج والتأثير عليهم.
ثانياً ربما تكون التحالفات أكثر ذكاء في المجمل من الأفراد الممثلين لها، فقد أثمرت الأولويات ووجهات النظر المختلفة لأعضاء حلف شمال الأطلسي خلال الحرب الباردة استراتيجية معتدلة كانت أكثر نجاحاً وفاعلية، وحظيت بقبول أكبر من جانب أعضاء الحلف. لا يزال المسؤولون الأميركيون اليوم يناقشون استراتيجيات للتعامل مع الصين وروسيا. مع ذلك من المرجح أن يبلوا بلاء أفضل إذا اعتمدوا على التبصر الجمعي، والآراء المجتمعة للدول الأعضاء في التحالف المهتمة بعرقلة الجهود الصينية والروسية.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر