في 9 تشرين الأول أكتوبر، شنت تركيا عمليتها العسكرية المتوقعة منذ زمنٍ طويل في شمال سوريا بهدف تقويض «وحدات حماية الشعب» الكردية. فلماذا تحرّكت أنقرة الآن؟ ما هي الأهداف التكتيكية للعملية؟ وكيف ينسجم القرار مع أهداف إدارة ترامب في سوريا؟
المحركات الرئيسية في تركيا
تُعتبر «وحدات حماية الشعب» أحد فروع «حزب العمال الكردستاني» – الجماعة التي تحارب الحكومة التركية منذ عقود، والمصنفة ككيان إرهابي من قبل الولايات المتحدة وأعضاء آخرين في حلف “الناتو”. ولم تقبل تركيا أبداً قرار الولايات المتحدة بالتحالف مع «وحدات حماية الشعب» في الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». وبدلاً من ذلك، تقبّل الرئيس رجب طيّب أردوغان هذه الشراكة إلى حين انهيار الأجزاء الأخيرة من “خلافة” «داعش» في سوريا في وقتٍ سابقٍ من هذا العام، ثم بدأ في وضع خطط للقيام بغزو عسكري.
وباختصار، كانت أنقرة عازمة على التحرّك، وقد يكون من الصعب تقييد العملية في المستقبل القريب. ولفهم السبب لذلك، لا يحتاج المرء سوى إلى النظر في عاملَين محلّيَين أساسيَين في تركيا هما:
انتشار الاستياء العام تجاه «حزب العمال الكردستاني». لا تُعتبر العملية الحالية “حرب أردوغان”. ففي معظم القضايا، تبقى تركيا مستقطبة بين معسكريَن كبيرَين، أحدهما يعارض الرئيس التركي والآخر يؤيّده. ومع ذلك، تُشكّل قضية «حزب العمال الكردستاني» استثناءً – فبصرف النظر عن الأنصار القوميين الأكراد ذوي الميول اليسارية، تنظر الغالبية العظمى من المواطنين الأتراك (من بينهم العديد من الأكراد المحافظين) إلى «حزب العمال الكردستاني» على أنه جماعة إرهابية، ويحتقره الكثيرون. وبالتالي، يتمتع أردوغان بدعم كبير في الداخل التركي نحو اتخاذ خطوات ضد الجماعة التي يعتبرها الكثيرون من الأتراك وكيلاً سورياً لـ «حزب العمال الكردستاني».
إلحاح مسألة اللاجئين. لا تزال تركيا موطناً لنحو أربعة ملايين لاجئ سوري، وبينما استقبلتهم برحابة صدر لسنوات، أدّى التراجع الاقتصادي الحاد في البلاد الذي بدأ عام 2018 إلى تزايد المشاعر المعادية للاجئين. فقد انقلب ناخبون من الطبقة العاملة، والكثير منهم من أنصار أردوغان، ضد السوريين، ملقين اللوم عليهم بـ “سرقة” الوظائف ورفع الإيجارات. ويستاء ناخبون من الطبقة الوسطى، بمن فيهم كثيرون في المعارضة، من هؤلاء اللاجئين لأنهم “اجتاحوا” تركيا بقيمهم الثقافية المحافظة. ووفقاً لاستطلاع أجرته مؤخّراً “جامعة قادر هاس” في اسطنبول، هناك فقط 7٪ من المواطنين “الراضين” عن سياسة الحكومة الحالية تجاه اللاجئين. وتدرك الحكومة التركية جيداً هذه الاتجاهات ولا شك أنها تشعر بأنها مضطرة لاتخاذ إجراءات عاجلاً وليس آجلاً.
التكتيكات العملياتية والأهداف
عند اتخاذ قرارها حول المناطق التي يبدأ فيه التوغل، الذي يُطلق عليه “عملية نبع السلام”، اختارت أنقرة بلدات الحدود السورية ذات الأغلبية العربية الخاضعة لسيطرة «وحدات حماية الشعب»، بما فيها رأس العين وتل أبيض. وكان هذا القرار قراراً فطناً من الناحية التكتيكية لسببَين.
أولاً، يستاء الكثيرون من العرب السنّة الذين يعيشون تحت حكم «وحدات حماية الشعب» من السيطرة الاستبدادية والسياسات الثقافية التي تمارسها الجماعة (على سبيل المثال، يجب على التلاميذ في هذه المناطق أن يأخذو دروساً في الإيديولوجية القومية الكردية العلمانية، الماركسية المصدر، لزعيم «حزب العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان). وهذا ما يجعلهم يرحّبون على الأرجح بالقوات التركية ويدعمونها، على الأقل مقارنة بالكيفية التي ستستقبلهم بها البلدات ذات الغالبية الكردية.
ثانياً، تنوي أنقرة نقل اللاجئين السوريين إلى أي مناطق تستولي عليها من «وحدات حماية الشعب». ورغم أنه من غير المرجح إعادة الملايين منهم إلى بلدهم، إلّا أن نقل بضع مئات الآلاف من هؤلاء اللاجئين قد يساعد أردوغان على نزع فتيل التوترات الداخلية التركية بشأن هذه القضية. ويتمثّل الهدف الديمغرافي النهائي لأنقرة في تحويل أقسام كبيرة من الحدود السورية إلى كتل إقليمية عربية راسخة، وبالتالي تقسيم الأراضي التي تسيطر عليها «وحدات حماية الشعب» إلى مقاطعات معزولة. وتحقيقاً لهذه الغاية، قد تُعطي الأولوية لعودة العرب إلى رأس العين وتل أبيض، خاصة أولئك الذين طُردوا من ديارهم عندما سيطر تنظيم «داعش» أو «وحدات حماية الشعب» على بلداتهم في شمال سوريا.
وكما أشار المحلل العسكري متين غوركان على موقع “تويتر” في 11 تشرين الأول/أكتوبر، يبدو أن القوات التركية تتحرك ببطء أكبر بكثير منذ بداية العملية مقارنةً بالتوغلات السابقة في سوريا (مثل “عملية غصن الزيتون” في كانون الثاني/يناير 2018). ويعود سبب ذلك على الأرجح لأن أنقرة تأمل في تقويض «وحدات حماية الشعب» من خلال وجودها العسكري المستمر – وهي المرحلة الأخيرة في حملتها الأوسع ضد «حزب العمال الكردستاني». وخلال السنوات القليلة الماضية، تخلّصت قوات الأمن التركية من جزءٍ كبير من تواجد «حزب العمال الكردستاني» داخل أراضيها ونجحت في استهداف أهم قادة هذا الحزب في جبال قنديل بالعراق. ومن وجهة نظرها، فإن ذلك يترك الفروع السورية للجماعة كالهدف المنطقي التالي.
آفاق السلام؟
في مرحلة معيّنة، سترغب الحكومة التركية في إعادة إطلاق محادثات السلام مع «حزب العمال الكردستاني» من أجل وضع حدّ لنزاعهما اللامتناهي بشكلٍ نهائي. ومع ذلك، يبدو أن أنقرة تعتقد أنه يجب عليها أولاً إعادة توازن علاقة هذه الجماعة مع «وحدات حماية الشعب».
عندما تشكّلت «وحدات حماية الشعب» قبل سنوات من الحرب السورية، كانت كوادرها متحمسة إلى حدّ كبير من القوة العسكرية الكبيرة والمآثر التي حققها زملاؤهم الأكراد في «حزب العمال الكردستاني» التركي في ذلك الوقت. لكنّ هذه الديناميكية انقلبت بعد عام 2014، حين أدّت المساعدات الأمريكية وعمليات انسحاب نظام الأسد إلى تمكين «وحدات حماية الشعب» من الاستيلاء على ما يقرب من ثلث الأراضي السورية. وشدّدت هذه المكاسب بدورها من عزيمة «حزب العمال الكردستاني»، الذي كان يشارك في محادثات سلام مع أردوغان في ذلك الوقت بعد معاناته سنوات من النكسات على أيدي القوات التركية. وبعد رؤية الحكم الذاتي المتزايد لـ «وحدات حماية الشعب» في الجوار، سرعان ما أحبط «حزب العمال الكردستاني» المحادثات التي كان كان يجريها مع الحكومة التركية في ذلك الوقت بإطلاقه حملة عسكرية جديدة ضد الحكومة في صيف عام 2015، في محاولةٍ للاستيلاء على المدن في جنوب شرق تركيا بنفس الأسلوب الذي اتبعته «وحدات حماية الشعب» عبر الحدود.
ورغم أن تركيا أخمدت حملة الاستحواذ تلك في نهاية المطاف، إلا أن «حزب العمال الكردستاني» يواصل شن هجمات منفصلة ضد أهداف حكومية وعسكرية مختلفة، مستلهماً جزئياً من السيطرة المستمرة لـ «وحدات حماية الشعب» على الحدود السورية. ومن خلال محاولة إلحاق الضرر بـ”قصة النجاح” التي حققتها «وحدات حماية الشعب»، تأمل أنقرة في إحباط مساعي «حزب العمال الكردستاني» وإرغام الجماعة في النهاية على العودة إلى طاولة المفاوضات من موقفٍ أضعف – وهو الهدف الذي سيتم تعزيزه إذا استمرت الولايات المتحدة في سحب دعمها من «وحدات حماية الشعب». ومع ذلك، من غير المحتمل أن يدخل قادة «حزب العمال الكردستاني» في محادثات جديدة إذا دمّرت القوات التركية «وحدات حماية الشعب» بصورة تامة، أو [قضت على] حكمها الذاتي الذي حققته بصعوبة بالغة. وبدلاً من ذلك، يريد هؤلاء القادة أن تتوصل أنقرة إلى نوع من تسوية مؤقتة مع الجماعة في شمال سوريا.
التداعيات على السياسة الأمريكية
خلال مؤتمر صحفي عُقد في 10 تشرين الأول/أكتوبر، أشار كبار المسؤولين في وزارة الخارجية الأمريكية إلى أنه إذا اتخذت تركيا إجراء “غير متناسب” أثناء توغلها، فقد “يفرض” الرئيس ترامب “تكاليف كبيرة” [عليها]. ومن المحتمل أن تنشأ هذه التحذيرات من واقع قيام الكونغرس بالضغط على الإدارة الأمريكية من أجل فرض عقوبات على تركيا بسبب إطلاقها العملية، مما يشير إلى أن هناك نافذة محدودة أمام أنقرة لتحقيق أهدافها الأساسية. وإذا كان الأمر كذلك، ستضطر تركيا إلى إثبات نقاط عبورها في الأراضي التي تسيطر عليها «وحدات حماية الشعب» في المستقبل القريب، إذا كانت تأمل في تجنب فرض عقوبات صارمة. وسيخيب ظن الإدارة الأمريكية أيضاً إذا أحدث التوغل فراغاً يسمح لتنظيم «الدولة الإسلامية» أو لمحور إيران -الأسد بإعادة التمركز في شرق سوريا. على سبيل المثال، يتم احتجاز الآلاف من إرهابيي تنظيم «الدولة الإسلامية» في السجون التي تسيطر عليها «وحدات حماية الشعب»، وقد أفادت بعض التقارير أن عدداً منهم هرب من سجن في القامشلي في الأيام الأولى من التوغل نتيجة القصف التركي القريب من سِجنهم.
إلّا أن أيّ من ذلك لا يعني بالضرورة أن البيت الأبيض سيحاول إيقاف العملية أو التشكيك في أهداف تركيا في سوريا. ففي المؤتمر الصحفي الذي عُقد في 11 تشرين الأول/أكتوبر، كرّر المسؤولون الأمريكيون ادعاء أنقرة بأن «وحدات حماية الشعب» – الشريك المحلي الرئيسي للولايات المتحدة في قتال تنظيم «الدولة الإسلامية» – هي “جناح” لـ «حزب العمال الكردستاني». كما أشاروا إلى أنه في حين أن الإدارة الأمريكية لن تؤيد الغزو أو تساعده، إلّا أنها لن تعارضه عسكرياً أيضاً. وسبق أن استخدم المسؤولون الأمريكيون حق النقض ضد قرار مجلس الأمن الدولي في 10 تشرين الأول/أكتوبر الذي أدان عملية التوغل، مما يعطي بالتالي المزيد من الوقت لتركيا. ودعا الرئيس ترامب أيضاً أردوغان إلى البيت الأبيض في 13 تشرين الثاني/نوفمبر- وهو تاريخ قد يكون بمثابة موعد نهائي لأنقرة لكي تقوم بما تشعر بأنّه يتوجب عليها أن تفعله في سوريا. ومع ذلك، إذا تسبب التوغل بوقوع ضحايا مدنية هائلة أو مشاكل كبيرة أخرى، فإن ذلك قد يدفع الكونغرس الأمريكي إلى فرض عقوبات صارمة قبل ذلك التاريخ بكثير.