تحدي الإرادة الدولية.. تداعيات التدخل التركي في الشمال السوري على الاستقرار الإقليمي | مركز سمت للدراسات

تحدي الإرادة الدولية.. تداعيات التدخل التركي في الشمال السوري على الاستقرار الإقليمي

التاريخ والوقت : الإثنين, 14 أكتوبر 2019

مصطفى صلاح

 

في 9 أكتوبر 2019؛ أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن قيام بلاده بعملية عسكرية جديدة داخل الأراضي السورية وتحديدًا في مناطق الشمال التي يرتكز داخلها الأكراد، وأكد على ذلك مدير الاتصال بالرئاسة التركية فخر الدين ألتون بأن الجيش التركي بصدد عبور الحدود السورية برفقة الجيش السوري الحر، في إشارة إلى  بدء العملية العسكرية التركية في الشمال السوري، وسبق هذا الإعلان قيام الجيش التركي بقصف الحدود السورية العراقية لمنع القوات الكردية من تعزيز قنوات الاتصال فيما بينها، لاستكمال الاستعدادات التركية لشن عملية عسكرية ثالثة في شمال سوريا.

الجدير بالذكر أنه كان هناك اتفاق بين الولايات المتحدة وتركيا حول حدود المنطقة الآمنة؛ حيث أعلن وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، في 6 سبتمبر 2019، أن مركز العمليات المشتركة بين تركيا والولايات المتحدة، بدأ أنشطته في قضاء “أقجة قلعة”، في ولاية شانلي أورفة، ضمن نطاق الجدول الزمني المحدد لإنشاء المنطقة الآمنة، لافتًا إلى أنه تم إطلاق أول طائرة بدون طيار، ثم إطلاق مروحيات تركية وأمريكية مشتركة في أجواء شمال سوريا، في إطار المرحلة الأولى من إنشاء المنطقة الآمنة.

المفارقة هنا تتمثل في الموقف الأمريكي الذي يعتبر الأكراد الحليف الميداني الذي يدعمه سياسيًا وعسكريًا، فبعد إعلان تركيا عن عمليتها العسكرية في الشمال السوري، أعلنت الولايات المتحدة عدم معارضتها لعملية تركية في شمال سوريا ضد القوات الكردية؛ حيث تضمن بيان للبيت الأبيض أن واشنطن “لن تتمركز بعد اليوم في المنطقة مباشرة” وأن قواتها المسلحة لن تدعم العملية ولن تنخرط فيها، على الجانب الآخر؛ حذرت قوات سوريا الديمقراطية، من أن الهجوم الذي تنفذه تركيا سيقوّض الجهود التي بذلتها للقضاء على تنظيم داعش الإرهابي.

استمرار الاستهداف

قامت تركيا بتنفيذ العديد من العمليات العسكرية داخل الأراضي السورية لمواجهة الأكراد؛ المرة الأولى كانت عملية  “درع الفرات” التي انطلقت في أغسطس 2016 واستمرت حتى مارس 2017. والمرة الثانية كانت عملية “غصن الزيتون” التي انطلقت في الربع الأول من عام 2018. ومنذ ذلك الوقت تسيطر تركيا على ما يقارب 2% من الأراضي السورية. وأوضحت أنقرة أن هدف العمليات السابقة والحالية التي يتم تنفيذها هو إبعاد جهاديي تنظيم الدولة الإسلامية والمسلحين الأكراد السوريين عن الحدود مع تركيا، إضافة إلى أن تركيا تريد أيضًا تجنب قيام منطقة حكم ذاتي كردية داخل الأراضي السورية على حدودها الجنوبية.

من جانب آخر تحاول تركيا إحداث تغيير ديموغرافي في هذه المنطقة خاصة أن أنقرة أعلنت بأن المنطقة الآمنة المزمع إقامتها في شمال سوريا تهدف إلى تطهير الحدود من “العناصر الإرهابية” وعودة اللاجئين بشكل آمن إلى سوريا في إطار وحدة الأراضي السورية، وتأتي هذه العمليات وفق رؤية أنقرة التي تعتبر وحدات حماية الشعب الكردية، العمود الفقري لقوات سوريا الديموقراطية، تنظيمًا إرهابيًا وامتدادًا لحزب العمال الكردستاني الداخل في نزاع مسلح مع السلطات التركية منذ العام 1984.

التباين في الموقف الأميركي

بعد إعلان تركيا الدخول في منطقة الشمال السوري،  والتي جاءت بعدها التصريحات الأمريكية ببدء سحب قواتها من المناطق السورية الواقعة على الشريط الحدودي مع تركيا، وبالتالي تكون واشنطن قد تخلت عن أكثر حليف لها في سوريا، المتمثل في قوات سوريا الديمقراطية، والذي دعمته من قبل ضمن تحالف دولي للقضاء على تنظيم داعش، وتأسيسًا على ذلك وجدت قوات سوريا الديمقراطية التي يشكل المقاتلون الأكراد عمودها الفقري نفسها في مواجهة مباشرة أمام التهديد العسكري التركي.

وفي هذا الصدد برزت العديد من الاستفهامات على خلفية الإعلان الأمريكي بالانسحاب من تلك المناطق، وهل هذا بمثابة ضوء أخضر لتركيا؟ خاصة وأن هذه التصريحات من جانب واشنطن تظهر تحولًا بارزًا في السياسة الأمريكية وتخليًا ملحوظًا عن الفصائل التي تحالفت مع واشنطن في المعركة ضد تنظيم داعش الذي كان يسيطر على أجزاء من سوريا والعراق، كما أن التصريحات الأمريكية جاءت بعد العديد من الخلافات مع أنقرة حول حدود المنطقة الآمنة، والاتهامات التركية لواشنطن بعدم تنفيذ آليات التوافقبعدما تم إنشاء “مركز عمليات مشتركة” في تركيا، لتنسيق وإدارة إنشاء المنطقة الآمنة شمالي سوريا.

ومن زاوية أخرى أظهرت الولايات المتحدة تضارب في تصريحاتها بشأن العملية التركية المزمع تنفيذها؛ حيث هدد الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، تركيا بتدمير اقتصادها حال “تجاوزها الحدود” في تحركاتها المرتقبة، التي تستهدف المقاتلين الأكراد المتحالفين مع واشنطن في الحرب على تنظيم “داعش” المصنف إرهابيًا على المستوى الدولي. الأمر الذي أضفى مزيد من الغموض حول الموقف الأمريكي.

ويمكن إرجاء هذا التضارب والتباين في التصريحات الأمريكية إلى أمرين هو أن القوات الكردية في سوريا لم تعد ذات أهمية كبرى بالنسبة للولايات المتحدة خاصة بعد القضاء شبه التام على تنظيم داعش الإرهابي هناك، الأمر الثاني يتمثل في رؤية الرئيس ترامب ذاته للعديد من الملفات الخارجية التي يتخذ تجاهها العديد من القرارات ونقيضها، ولكن بعد التصريح الأمريكي الذي هددت فيه أنقرة بفرض عقوبات عليها فمن المؤكد أن واشنطن لم تتخلى عن القوات الكردية خاصة وأن قرار ترامب بسحب قوات أمريكية متمركزة في سوريا قرب الحدود التركية لا يشمل سوى نحو 50 إلى 100 جندي من أفراد القوات الخاصة، والذين من المحتمل نقلهم إلى قواعد أخرى داخل سوريا، وأن إعادة نشر تلك القوات لا يعني في أي حال من الأحوال إعطاء ضوء أخضر لعملية عسكرية تركية ضد القوات الكردية في شمال شرق سوريا.

وأحدثت المواقف المتناقضة لإدارة ترامب التباسًا دفع زعيم الغالبية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل إلى التحذير من عواقب انسحاب متسرع من سوريا سيصب في مصلحة روسيا وإيران. كذلك حذر المجتمع الدولي من عواقب الهجوم التركي، وعبرت الأمم المتحدة عن خشيتها من أزمة إنسانية وقالت إنّها “تستعد للأسوأ”، كما طالبت فرنسا تركيا على الامتناع عن أي عملية عسكرية في سوريا قد تؤدّي إلى عودة ظهور تنظيم داعش ودعت إلى إبقاء الجهاديين الأجانب في معسكرات يسيطر عليها الأكراد في شمال شرق البلاد، وتوالت الدعوات الدولية من هولندا، وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والجامعة العربية  ومصر لعقد جلسة طارئة لمجلس الأمن  لمناقشة الأوضاع في سوريا يوم 10 أكتوبر 2019.

عودة داعش مجددًا

هناك العديد من التخوفات من أن تأثير العملية العسكرية التركية في الشمال السوري ستؤدي إلى منح قبلة حياه للتنظيم الإرهابي للظهور من جديد، خاصة وأن لتركيا مصلحة كبيرة من تواجد هذا التنظيم الذي تستخدمه لتبرير تحركاتها الخارجية، خاصة وأن هناك العديد من الشواهد الميدانية التي تؤكد تورط تركيا في علاقات وثيقة مع التنظيم وقياداته، الأمر الذي كشفته وزارة الدفاع الروسية في أوائل ديسمبر 2015، بنشرها شريط فيديو يظهر مرور صهاريج نفط عبر الحدود السورية التركية دون أي عوائق من الجانب التركي، بجانب العربات التي تنقل النفط الذي اشترته أنقرة بثمن بخس من التنظيم، بالإضافة لذلك وبينما كان تنظيم داعش يحاصر بلدة كوباني الكردية المحاذية للحدود التركية، عام 2014، كان الجيش التركي يقدم الدعم الإيجابي للتنظيم عن طريق عدم مهاجمته خاصة وأنه يقاتل المكون الكردي الذي يمثل لدى تركيا العديد من التخوفات، في ظل المراهنات التركية على التنظيم لمواجهة الأكراد وطموحاتهم في سوريا والعراق؛ حيث تريد أنقرة السيطرة على المناطق الخاضعة للأكراد خارج حدودها من خلال استخدام التنظيم الإرهابي، وكان هناك دعمًا قويًا له من قبل تركيا التي تحولت إلى ممر آمن ومقرًا لعناصره.

سيناريوهات محتملة

يعد التدخل العسكري التركي  إلى مناطق الشمال السوري بمثابة نهاية التدخل العسكري التركي هناك خاصة أن المنطقة المستهدفة تمثل مساحة جغرافية كبيرة تصل إلى 460 كم، بالإضافة إلى عمقها الذي يتراوح بين 35 و 40 كم ، والتي من الصعب على القوات التركية تمشيطها والحفاظ عليها لفترات طويلة، إضافة إلى تزايد معدلات الادانات الدولية والإقليمية حول التدخل العسكري التركي، والاجتماع الطارئ لمجلس الأمن.

من زاوية أخرى فإن قوات سوريا الديموقراطية تمتلك العديد من أنظمة التسلح الأميركي التي زودتها بها واشنطن لمواجهة خطر تنظيم داعش، والتي أيضًا سيتم استخدامها في مواجهة التدخلات العسكرية التركية برغم انسحاب القوات الأمريكية من تلك المناطق.

كما أن هذه العملية مرتبطة بالعديد من الملفات الداخلية التركية كملف اللاجئين الذين تستخدمهم أنقرة لتبرير تدخلها في المناطق الكردية السورية وإرسال اللاجئين هناك، بيد أن هذا الأمر من المحتمل أن يزيد من حدة التوترات الداخلية في المناطق التركية ذات الأغلبية الكردية والتي قد تمثل عامل ضغط داخلي على مسار حركة تركيا العسكري في شمال وشمال شرق سوريا، كما أن هذه العملية تأتي بصورة كبيرة كمحاولة للالتفاف حول العديد من الضغوط الداخلية التي يتعرض لها أردوغان وحزبه في الكثير من الملفات، وأن هذه المعركة التي أعلنت عنها أنقرة بمسمى بناء السلام ستكون وفق هذه المؤشرات انتهاء لحالة ممتدة من التدخلات الخارجية غير المشروعة في سوريا والعديد من الأقطار العربية.

بالإضافة إلى أن الانسحاب الأميركي الذي قوامه ٥٠ جندي لا يرتقي إلى درجة التعويل عليه فيما يتعلق بالتواجد الميداني، ولكن هذا التواجد يحمل رمزية بأن واشنطن مستمرة في دعمها للأكراد في شمال وشمال شرق سوريا،  كما أن التصريحات الأمريكية التي أعقبت عملية الانسحاب تؤشر على أن هناك تنسيق مستمر مع الجانب الكردي.

على الجانب السوري فإن حالة الرفض الداخلي للتدخلات التركية من جانب النظام السوري أو الأكراد يمكن أن تكون بداية تعاون لمواجهة التدخلات التركية التي تصفها الحكومة السورية والأعراف الدولية بأنها تدخلات غير مشروعة، وهناك جانب آخر قد يتحكم في مسار هذه العملية هو الدور الفرنسي الذي برز بصورة كبيرة خلال الفترة الأخيرة واعتماده على المكون الكردي كحائط منيع أمام عودة داعش من جديد وبالتالي هناك معارضة قوية سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي. كما أن مثل هذه التدخلات من جانب تركيا ترتبط بتوجهاتها الداخلية في قمع الأكراد وليس من المقبول التدخل في سوريا وتبرير ذلك التدخل بذرائع وهمية، وبصورة أكثر شمولية فإن هذه العملية العسكرية الحالية  انتهت بمجرد تنفيذها في تحقيق ما تم الإعلان عنه، وأن تراجع تركيا بات السمة الأكثر وضوحًا على المدى المتوسط والبعيد.

المصدر: المركز العربي للبحوث والدراسات 

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر