سبق لي أن قلت في مقال سابق حول نتائج انتخابات بلدية إسطنبول التي أجريت في 31 مارس (آذار) 2019 أن العدّ التنازلي لانحسار حزب أردوغان قد بدأ بالفعل، حيث كانت خسارة مرشح حزبه أمام ممثل المعارضة أكرم إمام أوغلو أول كابوس من نوعه في حياته السياسية الطويلة، فقد مُني بهزيمة نكراء في معقله الذي منه بزغ نجمه.
وها هو أمام شبح كابوس آخر، يقضّ مضجعه، ويجعله يحسب ألف حساب، وأعني به الانشقاقات الوشيكة التي ستبدأ بمبادرة من أبرز أعضاء حزبه: أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان. فقد كان الأول ذراعه اليمنى في صنع سياسته الخارجية، إلى جانب الأدوار المهمة التي لعبها في الداخل. كما كان الثاني واضع الأسس الناجحة في الاقتصاد التركي بعدما كان يعاني من أزمة خانقة.
فلماذا أصبح باباجان وداوود أوغلو من الأسماء التي يخشاها حزب العدالة والتنمية؟
للإجابة على هذا السؤال تعالوا بنا نلقي نظرة على نتائج استطلاع جديد قامت به شركة (ORC) للأبحاث والتدريب والاستشارات، تحت عنوان “الأجندة السياسية”، حيث وَجهتْ الشركة سؤالا إلى الجمهور: “لو فرضنا أنه ستجرى انتخابات يوم الأحد المقبل، فلمن تصوتون؟”، فكانت النتائج أن قال ثلاثون بالمئة من الجمهور إنهم سيصوتون لحزب العدالة والتنمية، و11 بالمئة لباباجان و8 بالمئة لداوود أوغلو.
يُذكر أن هذه الشركة معروفة بقربها من حزب العدالة والتنمية، وأنها من شركات الاستطلاع التي نجحت في التنبؤ بنتائج الانتخابات السابقة في تركيا.
نعم، تُظهر نتائج الاستطلاع أن حزب العدالة والتنمية يعاني من انهيار خطير وأن هذين الرجلين هما الآن كابوس الرئيس رجب طيب أردوغان.
وبالفعل أكد داوود أوغلو يوم الجمعة الماضي، في بيان صحفي، على أن الشروع في بناء حركة سياسية جديدة هو مسؤولية تاريخية وواجب تجاه الشعب، قائلا “بصرف النظر عن التوجهات السياسية، ندعو جميع الأطراف المتحمسة للحفاظ على مستقبل البلاد والقيام بواجبهم أمام الأمة، إلى الالتقاء والعمل معا في إطار العقل المشترك”. وبهذا يكون قد قطع حبال الوصل مع أردوغان بالكامل ليعلن أنه سيشكل حزباً سياسياً جديدا.
يُعرف داوود أوغلو بأنه إلى جانب دوره القوي في صنع السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية بين عامي 2003 و2015، قد نأي بنفسه عن التورط في أي عملية فساد مالي أو إداري، كما أنه أسهم بشكل كبير في استناد الحزب إلى قاعدة فكرية قوية، مما جعله يحظى بمكانة لا يستهان بها في صفوف حزب العدالة والتنمية.
وهذا يجعلنا نعتقد بأنه سيؤثر نوعا ما على أداء حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المقبلة وسيقتطع منه نسبة من الأصوات. ولكن هذا لا يعني أنه سيتضلع بدور كبير في السياسة التركية على المدى القريب.
وأما بالنسبة إلى علي باباجان، فإني أرى شخصيا أنه يتمتع بتعاطف أكثر من داوود أغلو في صفوف حزب العدالة والتنمية. ويرجع السبب في ذلك إلى أن الشعب التركي حينما صوَّت في عام 2003 لصالح حزب العدالة والتنمية فإن الدافع الرئيس لذلك كان الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد. فعندما تسلّم على باباجان ملف الاقتصاد استطاع أن ينجح في تصحيح مسار الاقتصاد وإنقاذه إلى برّ الأمان. كما أن تسلمه منصب كبير المفاوضين مع الاتحاد الأوروبي وقطعه شوطا كبيرا في هذا المجال أضاف إلى رصيده مزيدا من الثقة والمصداقية. ولا ننسى أن نزاهة يديه من أعمال الفساد المستشري في صفوف الحزب جعلته أيضا بمنأى من الانتقادات الموجهة إلى رموز الحزب الحاكم ومحبوبا لدى القاعدة الشعبية للحزب.
وليس من المستبعد في هذه المرحلة التي تعاني فيها تركيا من أزمة اقتصادية خانقة أن يرى الناخبون في علي باباجان منقذا لاقتصاد البلاد مرة أخرى، سواء كانوا من أعضاء حزب العدالة والتنمية أو من الشرائح الأخرى من الذين يصوتون لأحزاب يسارية أو ليبرالية ولكنهم غير راضين عن أدائها.
وهذا الكابوس يؤرق أردوغان أكثر من كابوس هزيمته أمام أكرم إمام أوغلو في انتخابات بلدية إسطنبول.
صحيح أن هناك من يتنبأ بأن أكرم إمام أوغلو ربما يصبح منافسا قويا لأردوغان في المراحل السياسية المقبلة، ولكن أردوغان يعرف أن أكرم إمام أوغلو لن يقتطع من حزبه قسما كبيرا من الأصوات بقدر ما يقتطع من الأحزاب العلمانية الأخرى، بسبب كونه مرشحا لحزب يساري ضيق النطاق.
وفيما يتعلق بقضية أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان، فإن الأمر مختلف تماما، حيث إن شركات الاستطلاع تتنبأ بأن مجموع الأصوات التي سيقتطعها داوود أوغلو وعلي باباجان من حزب أردوغان قد يصل إلى نحو 15 بالمئة. وهذه نسبة خطيرة للغاية وخسارة فادحة لأردوغان.
ولكن أردوغان على الرغم من ذلك لا يجرؤ على اتخاذ الخطوات اللازمة.
والسبب في ذلك أنه عندما تدخل في انتخابات إسطنبول وألغى الانتخابات تلقى من الناخبين صفعة قوية، حيث قفز الفارق بين مرشح حزبه وبين أكرم إمام أوغلو من 13 ألف صوت إلى 800 ألف صوت.
وليس من المستبعد أيضا أن يتلقى نفس الصفعة، بل أشد منها، إذا حاول أن يعرقل مسيرة منافسيه الجديدين علي باباجان وأحمد دوواد أوغلو.
وغاية ما يفعله أردوغان الآن هو أنه بعد أن فشل في تحقيق أحلامه حول توحيد الأمة تحت رايته، أخذ الآن يتبنى في الساحة الداخلية سياسية القومية الشوفينية ويؤسس مع القوميين تحالفات مريبة ليصارع منافسيه.
ومهما حاول أردوغان فإن الانتخابات المقبلة، سواء كانت مبكرة أو في وقتها المحدد أي في عام 2023، ستكون مشهدا واضحا لانهيار حزب العدالة والتنمية، ولكن المشكل أن أردوغان الذي يتمتع بشخصية براغماتية وميكافيلية ربما يغامر أو يقامر بمستقبل البلاد لحساب مأربه الشخصي وإنقاذ حياته السياسية. وربما يصل به الأمر إلى تصفية الحسابات مع المنشقين عنه، ولكن ذلك لن يزيده هذه المرة إلا مزيدا من الفشل والانهيار.